مصادر القوة التمويلية في الوقف الإسلامي
ما الذي يفسر القوة التمويلية الكبيرة للوقف الإسلامي، وما الذي أكسبه القدرة على البقاء عبر قرون طويلة، وما الذي يكمن خلف عودته للظهور في العقود الأخيرة رغم قسوة الإجراءات والمحن التي تعرض لها عبر مراحل تاريخية مختلفة؟
إن ما يكفل للوقف الإسلامي هذه المقدرة راجع -في نظرنا- إلى عوامل بنائية يقوم عليها نظام الوقف ذاته، وتتمثل هذه العوامل فيما وضعه الفقهاء له من قواعد تكفل إمكانية إحيائه حتى ولو تعرض للعدوان أو الطمس. وتتلخص هذه القواعد في ثلاثة أسس كبرى هي:
أ ـ احترام إرادة الواقف -الواقفين- وهي إرادة اجتماعية بالدرجة الأولى، وذلك على قاعدة «شرط الواقف كنص الشارع في لزومه ووجوب العمل به». هذا الاحترام لشروط الواقف يضفي عليه حرمة شرعية، من شأنها أن توقع الذي ينتهكها في دائرة مخالفة أحكام الشريعة، وهو ما يؤسس لمبدأ المشاركة الشعبية الواسعة في جهود التنمية وبمحض الإرادة الحرة للمواطنين، مع دافع إيماني ومعنوي قوي يدفعهم للانخراط في المجال العام.
ب ـ إقرار الشخصية الاعتبارية للوقف؛ حيث قرر الفقهاء أن للوقف ذمة قانونية مستقلة عن الواقف، وعن جهات الاستحقاق. وهذا هو جوهر «الشخصية الاعتبارية» بالمعنى القانوني، وهي شخصية لا تنهدم بموت الواقف، ولا بموت أحد من المستحقين في هذا الوقف أو ذاك. وهي شخصية تتحمل أيضاً الالتزامات وتتمتع بالحقوق، ويكون لها حق المطالبة القانونية -القضائية- بحقوق الوقف، أو بأعيانه وممتلكاته إذا ما وقع اعتداء عليها.
ج ـ الإشراف القضائي على الوقف ولائياً (بمعنى الإشراف والرقابة والمتابعة العامة)، وقضائياً (بمعنى الاختصاص بالفصل في المنازعات)، وهذا مما ضمن للوقف درجة عالية من الاستقلالية والحماية.
وفي ضوء ما قرره الفقهاء من أصول شرعية لحماية نظام الوقف وتأسيس فاعليته، تبلورت عناصر مؤسسية وإدارية أسهمت في تفعيل هذا النظام عبر الممارسة الاجتماعية وتراكماتها التاريخية، مع ملاحظة أنه كانت هناك علاقة جدلية مستمرة ربطت بين النظرية (اجتهادات الفقهاء)، وبين التطبيق (ممارسات المجتمع). وتمثلت أهم عناصر فاعلية الممارسة الاجتماعية لنظام الوقف في المؤسسية واستقلالية الإدارة والتمويل، واللامركزية.
أما المؤسسية فهي تعتبر من أهم العناصر التي كفلت فاعلية نظام الوقف في الممارسة العملية، وقد تجلت أهمية هذا العنصر منذ البدايات الأولى لنشأة الوقف؛ حيث نشأ لبنةً في صلب البناء المؤسسي للنظام الاجتماعي الإسلامي نفسه، ولم ينشأ متأخراً عنه، أو لاحقاً له، وقد وفرت الاجتهادات الفقهية لنظام الوقف مجموعة من القواعد والإجراءات والمعايير التي كفلت له الانتظام الإداري والانضباط الوظيفي، والفاعلية في الأداء، وجنَّبته العشوائية، وتجسد ذلك في كثير من الأمور؛ منها إثبات الوقف في صك مكتوب (حجة الوقف)، وتسجيل كافة التصرفات التي تطرأ عليه، وحفظ جميع وثائقه وأرشفتها، ووضع قواعد للمحاسبة والرقابة، وتحديد الوظائف، وتعيين موظفين، وتقسيم العمل بينهم، مع وضع أهداف محددة للمؤسسة الوقفية… إلخ، وكلها عناصر أساسية لا غنى عنها لوجـود أي مؤسسة فاعلة تنموياً، ولتمكينها من أداء وظائفها، ومدها بأسباب الاستمرار والبقاء.
وأما استقلالية الإدارة والتمويل، فهي من أهم الدعائم التي استند عليها استقلال نظام الوقف، وتدعمت هذه الاستقلالية من ناحية أخرى عن طريق السلطة القضائية؛ التي كان لها الولاية العامة على شئون الوقف، واستوى في ذلك وقف السلطان –بصفته الشخصية أو بكونه حاكماً– مع وقف الشخص العادي.
وعبر الممارسة الاجتماعية التاريخية برزت أهم سمتين لاستقلالية نظام الوقف في جانبين هما: الاستقلال الإداري، والاستقلال المالي. حيث اعتمدت إدارة الوقف والمؤسسات الوقفية على القواعد والشروط التي وضعها الواقفون أنفسهم وأثبتوها في نصوص وقفياتهم، دون تدخل من أي سلطة إدارية حكومية، ومن ثم لم يتم استيعاب الأوقاف داخل الجهاز الإداري للدولة، إلا في الحالات الاستثنائية التي كانت تنتفي فيها إمكانية وجود إدارة أهلية مستقلة.
وفي الوقت الذي اتسمت فيه إدارة الأوقاف بالاستقلالية والتسيير الذاتي، غلب عليها –تاريخياً– نمط الإدارة العائلية، التي كانت لها إيجابيات تمثَّلت أهمها في الحـرص على أعيان الوقف والالتزام بتنفيذ شروط الواقفين، ولكن كانت لها سلبيات –أيضاً– تمثلت في الإهمال وعدم المحاسبة وكثرة الخلافات، والمنازعات بين الناظر والمستحقين، وبخاصة في حالة عدم توفر عناصر كفوءة من ذرية الواقف للقيام بمهمات الإدارة الموكولة إليه.
وأما الاستقلال المالي، فقد اعتمدت المؤسسات الوقفية فيه على التمويل الذاتي من ريع الوقفيات المخصصة لها، ولم تكن الدولة تقدم لها أية مساعدات مالية تذكر، بل إنه –في أغلب الحالات- لم يتم إعفاء أموال الوقـف من الضرائب الخراجية والعشورية (في الأراضي الزراعية)، وغير ذلك من الرسوم التي فرضت على العـقارات والممتلكات، وكانت تـؤدى لخزينة الـدولـة باسم «النوائب» أو «أموال الميري».
وأما اللامركزية فقد تجلَّت في نظام الوقف عبر الممارسة الاجتماعية في الناحية الإدارية؛ حيث لم تظهر إدارة مركزية موحدة تتولى شئون جميع الأوقاف في الدولة، بل وُجدت «إدارات» متعددة غلبت عليها الصفة المحلية، وكان أساس عملها هو «التسيير الذاتي» وفقاً لشروط الواقف، وتحت إشراف القاضي، وبعيداً عن الاندماج في جهاز الإدارة الحكومية، ولم يظهر النمط المركزي في إدارة الأوقاف إلا في ظل الدولة الحديثة التي نشأت في بلدان عالمنا الإسلامي على مدى القرنين الماضيين.
كما تجلت «اللامركزية» كأحد عناصر فاعلية نظام الوقف أيضاً في الناحية الوظيفية –أو الخدماتية– حيث لم تتركز الخدمات التي قدمها الوقف في مجال دون غيره، كما لم تقتصر تلك الخدمات على فئة ما، أو في جماعة دون أخرى، بل انتشرت على أوسع رقعة من النسيج الاجتماعي للأمة ومرافقها العامة بتكويناتها المختلفة؛ بغض النظر عن الجنس أو الدين أو المكانة أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، ولم تنحصر ممارسة الوقف ولا خدماته في المراكز الحضرية دون غيرها، من البوادي والأرياف والمناطق النائية، بل شملت كل تلك الجهات، بنسب متفاوتة بطبيعة الحال.
وقد كفلت تلك الأسس الفقهية والمؤسسية لنظام الوقف -قبل أن تسيطر عليه الدولة الحديثة في المجتمعات العربية والإسلامية- أن يكون مصدراً غنياً للتمويل الأهلي، وكان هذا المصدر يتمتع بثلاث خصائص هي: الاستقرار Stability، والاستمرار Sustainability، والاستقلال Independency .
أما «الاستقرار» فلأن الأصول المادية للوقف تنتمي إلى أثبت دعائم الثروة الاقتصادية في المجتمع وهي «العقارات والأراضي الزراعية». وقد مثَّلت العمود الفقري لاقتصاديات نظام الوقف عبر تاريخه الطويل، وأنتجت النسبة الأكبر من عوائده التي تستخدم في تمويل مؤسسات العمل الخيري والمجتمع المدني بصفة عامة، إلى جانب بعض المنقولات، والأموال النقدية التي يجري استثمارها عن طريق البنوك لصالح الأغراض الوقفية.
وأما «الاستمرار» فلأن من شروط الوقف -عند جمهور الفقهاء- أن يكون مؤبداً، ولا يجوز الرجوع فيه، وخاصة إذا كان مخصصاً للإنفاق على أغراض خيرية، أو مؤسسات ذات نفع عام. ويضمن شرط التأبيد استمرار تدفق التمويل النتائج عن الأعيان الموقوفة لفترات زمنية طويلة، بشرط أن يتم استثمار تلك الأعيان وفقاً لأكفأ أساليب الاستثمار التي تلائم كل عصر.
وأما «الاستقلال» فلأن الأصل في نظام الوقف برمته هو استقلال إرادة الواقف -مؤسس الوقف- وقدرته على تحديد أولويات صرف عوائده وتخصيصها للمنفعة العامة؛ دون أن يكون لأي سلطة حكومية أو إدارية حق التدخل بتغيير إرادته، طالما لم تخالف مقصداً عاماً من مقاصد الشريعة الإسلامية. ومعروف أن «المصلحة» هي جوهر المقاصد العامة للشريعة.
إن من أهم ما لفت نظرنا في بحوثنا السابقة حول العمل الخيري ونظام الوقف الإسلامي: هو أن فاعلية منظومة العمل الخيري، وفي القلب منها نظام الوقف ارتبطت في الواقع بمقدار الإسهام في تحقيق المقاصد العامة للشريعة. صحيح أن هذه الفاعلية لم تكن موجودة على الدوام، ولكن ذلك كان لأسباب خارجة عن البنية الفقهية والتشريعية للمنظومة الخيرية الإسلامية. وتبين لنا أيضاً أن نظام الوقف، بصفة خاصة، كان وسيلة لتحويل التشريعات (الشرعية) إلى مشروعات واقعية، وترجمة المقاصد إلى برامج عمل اجتماعية أسهمت بفاعلية ملموسة في تحقيق تلك المقاصد التي تهدف إلى تحقيق مصالح الناس وتحض على رعايتها، وتعاقب من يسعى في إهدارها، أو تفويت شيء منها.
إن الأفق الطبيعي والواسع الذي تفتحه نظرية المقاصد أمام الوقف ومنظومة العمل الخيري الإسلامي هو أفق ما يسمى «المجتمع المدني» على المستويين المحلي والعالمي، وسنجد كلما أرسلنا النظر إلى أبعاد هذا الأفق أن النزعة الإنسانية العميقة الكامنة في نظام الوقف ومنظومة العمل الخيري المستندة إلى أصول الشريعة ومقاصدها هي ما تسعى إليه نظرية المجتمع المدني المحلي والعالمي، أو هي ما يجب أن تسعى إليه في تجلياتها المعاصرة على المستوى المعرفي أو الفلسفي على الأقل.
وسنجد أيضاً أن بالإمكان أن نسهم في بلورة هذه النظرية بإظهار الأبعاد الإنسانية في النظم الإسلامية، ومنها الوقف ومنظومة العمل الخيري ومقاصدها الشرعية؛ وذلك إذا أعدنا فهم فكرة الوقف من منظور مقاصد الشريعة، وسعينا لربطه بها في الوعي وفي القانون وفي بناء أولويات استثمار أموال الأوقاف وصرف عوائدها وتمويل مؤسساتها المحلية والدولية؛ حيث إن مقاصد الشريعة مبنية على الفطرة الإنسانية، وهدفها العام هو حفظ نظام العالم واستدامة صلاحه بصلاح الإنسان، مطلق الإنسان، ولا اعتبار لتنطع البعض باسم الفقه الإسلامي عندما يحصرون الشريعة في كونها خطاباً للمسلمين وحدهم دون غيرهم.
ومع ارتفاع موجة الاهتمام العالمي بقطاع العمل المدني/ الأهلي فمن المتوقع أن يكون نظام الوقف مدعواً في المرحلة المقبلة أكثر من أي وقت مضى للإسهام بصيغ مبتكرة، واقتحام آفاق جديدة على أسس إنسانية هي صلب الرسالة الإسلامية التي جاءت «رحمة للعالمين».