مسلسل «سوق الكانتو»: هل تكفي الأزياء الجميلة لصناعة عمل فني؟
يعرض ضمن موسم 2023 من شهر رمضان مسلسل سوق الكانتو من بطولة أمير كرارة، وإخراج حسين المنباوي وكتابة هاني سرحان، يغرق العمل في حالة من التجاهل لا يستقبل بالسلب أو بالإيجاب على الرغم من مراهنة صناعه وفريق التسويق على اجتذاب الجمهور من خلال طرح التشابهات بينه وبين peaky blinder بيكي بلايندرز المسلسل الإنجليزي الشهير بجانب تواصل نجاح أعمال الفترة period drama التي تتناول حقباً أقدم في تاريخ مصر وتتميز باهتمام بتصميم الملابس وتصميم الإنتاج وإعادة صياغة التاريخ على الشاشة.
يتنافس هذا العام عملان تاريخيان آخران وهما «سره الباتع» و«رسالة الإمام»، لكن وضع mode الدراما التاريخية يفرق عن دراما الفترة أو ما يسمى أحيانًا بدراما الأزياء costume drama التي تتناول فترات تملك جماليات ذات طبيعة أوروبية تجعل ما هو محلي عالميًا أو عامًا، لكن بسبب فتور سيناريو «سوق الكانتو» وعدم وضوح خط قصصي أساسي تراجعت متابعته مما كسر نجاحات متوالية لدراما الأزياء في مواسم رمضان مثل «ليالي أوجيني» و«جراند أوتيل» و«طريقي» وغيرها، يعتبر «سوق الكانتو» تكملة لاهتمام مستحدث لصناع الدراما والسينما بدراما الأزياء وبخاصة التي تتناول فترات الاحتلال الإنجليزي والتي تصور مصر بلداً كوزموبوليتانية يصعب تحديد هويتها، تركز تلك الأعمال على فترتين بشكل خاص وهما العشرينيات والأربعينيات.
الجمال في مقابل العشوائية
قوبل مسلسل «ليالي أوجيني» للمخرج هاني خليفة عندما عرض عام 2018 بزخم نقدي وشعبي وإطراء لأجوائه النوستالجية الجمالية وتصويره لمصر “الجميلة”، للرقي والأناقة، للملابس الفاخرة والشوارع النظيفة والمقاهي الهادئة، ومثل سابقيه «جراند أوتيل» و«طريقي» تم انتزاع جماليات الفترة من السياقات الدرامية والمجتمعية، وأصبح مرادف الجمال هو القدم، أو تلك الفترات التي لا تصور فقرًا -قبيحًا- أو مناطق شعبية بالشكل المعاصر، خلطت المقالات التي تناولت تلك الأعمال بين الأصالة المصرية والجماليات الكوزموبوليتانية المتأثرة بالاستعمارات المتعددة والتعدد الثقافي، أصبح من الرائج تبجيل الأعمال المتناولة لفترات بدت مصر فيها بشكل أكثر عالمية، ليس مصريًا بشكل خاص لكنه جميل بشكل مجرد أو بالمعايير الأوروبية الكلاسيكية.
في نفس المقال عن «ليالي أوجيني» يستعين جهاد مرسي برئيس جمعية الحفاظ على التراث ماجد الراهب فيعلق على الدراما الحالية بكونها تعزز للقبح وتبرز العشوائيات على عكس الدراما الهندية والتركية، أسهمت تلك النزعة في ربط الرقي الطبقي بالفترات القديمة في صنع موجة من أعمال الفترة period drama التي ترسخ لنوستالجية وضع اجتماعي وجمالي وجندري لم يعد قائمًا، وضع يحدد الأدوار الجندرية بصرامة فيرتدي الرجال السترات والبذلات الأنيقة والجلابيب في مناطق خارج المدينة، بينما ترتدي النساء الفساتين الملونة ويرتدين شعورهن في إحكام صارم، بينما ترتدي نساء الأرياف والمناطق الشعبية العباءات السوداء والبراقع، مما يصنع حالة جمالية موحدة، يتوق إليها بعض الذين يرون أن التنوع الشكلي والثقافي لعنة تصيب المجتمعات، كما يرتبط تبجيل ذلك التوحيد المصري الأوروبي بحسرة على أزمنة ما قبل تأثير الإسلام السلفي.
ينتمي «سوق الكانتو» لنوع دراما الأزياء فهي بطله الأول ويرسخ لكل تلك العناصر المألوفة، يتناول أبطالًا مصريين يتسمون بالشهامة والجمال لكنهم بشكل أو بآخر خارجون عن القانون، يعمل طه (أمير كرارة) على سبيل المثال في تهريب الخمور ويقضي أوقاته في الملاهي الليلة الفارهة التي اشتهرت بها عشرينيات مصر يصادق الراقصات الجميلات، وعلى حسب فرضية المسلسل الرئيسية فهو في طريقه ليصبح رئيس عصابة، في سياق دراما الفترة أو الأزياء يصبح الإجرام أو الخروج عن القانون أو حتى الخيانة الزوجية أكثر احتمالًا، فتلك الأحداث تقع في سياق جمالي دون عشوائية أو ألفاظ شعبية، أصبحت فترة العشرينيات والأربعينيات في الدراما المصرية مخرجًا سهلًا يجعل من أي عمل عملًا جميلًا حتى مع اقترانه بكتابة كسولة أو خطوط درامية غير واضحة .
العشرينيات مساحة جاهزة لخلق الدراما
شهدت عشرينيات مصر وضعًا من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي لكنها تمتعت بحالة من التنوع النادر، هاجر إليها الكثيرون من أوروبا وأمريكا بعد تدهور أوضاع معظم بلدان العالم بعد الحرب العالمية الأولى، ووجد الكثيرون فيها العاملين في المجالات الفنية الاستعراضية مثل الرقص الاستعراضي أو الأداء الموسيقي وبخاصة الجاز مساحة رحبة وأجواء مساعدة، جعل ذلك الحياة الليلية في مصر وفي القاهرة خصوصًا مسرحًا يتسع للجميع، وجعل من المدينة مثالًا لكوزموباليتانية مؤقتة تستفيد من الوافدين وتفيدهم،
يصنع ذلك الوضع مساحة ملائمة للتناول الدرامي والبصري في الوسائط المرئية، تعدد اللغات والوجوه والإثنيات والديانات يجعل مرحلة العشرينيات وملاهيها الليلية والطابع المقاوم المضاد للاستعمار مادة جاهزة للأعمال الفنية، الملابس اللامعة وأضواء الملاهي وأجواء الملاحم الشعبية كلها محتوى يصنع دراما لا نهائية، اختار سوق الكانتو تلك الفترة كما اختارها «كيرة والجن» في السينما العام الماضي على سبيل المثال، تتشابه الأجواء والأزياء، بل والاختيارات اللونية فكلاهما يسيطر عليه اللون الأحمر، لكن «كيرة والجن» على الرغم من عيوبه فإنه اختار خطًا دراميًا واضحًا لتحريك قصته داخل نسق جماليات العشرينيات وأوضاعها السياسية وهو خط مقاومة الإنجليز، واستفاد من التنوع الثقافي والعرقي التاريخي لتقديم شخصيات من خلفيات إثنية ودينية متعددة لصناعة فريق انتقامي يظهر التنوع المصري، لكن في حالة سوق الكانتو فإن الخط الدرامي غائم، تستخدم العشرينيات والملاهي الليلية والتنوع الإثني لأغراض جمالية بحتة، تجعل تناص العمل بصريًا مع بيكي بلايندرز سهلًا لكنه لا يستغل الفترة في أبعد من الملابس الجميلة وتصميم الإنتاج المفصل، وأضواء الملاهي الحمراء.
تسير خطوط المسلسل في عدة اتجاهات تتلاقى بشكل حتمي لكن ليس منها ما هو مثير للاهتمام لمتابعته بشكل منفصل، كما أن المظلة الأكبر التي تجتمع تحتها التيمات تكاد تكون غير مرئية، هل هي الكفاح ضد الاحتلال؟ هل هي التمرد على الأسرة أو على قوانين الدولة؟ تبدو شخصيات «سوق الكانتو» وكأنها إعادة صياغة شخصيات من أعمال أخرى مشابهة، فتصبح كل شخصية فارغة تحت أزياء تنكرية، نتابع طه الذي لا يوجد ما يميز شخصيته غير نزعة تمردية وميل نحو قيادة فريق من مصنعي وبائعي الخمور خارج ما يسمح به القانون، يتعامل كرارة مع الشخصية مثلما يتعامل مع ضابط شرطة في العصر الحالي أو حتى كما يتصرف في برنامجه بشخصه الحقيقي، لا يفرق عنه غير الزي الذي يرتديه.
كذلك تظهر مي عز الدين في دور راوية، في شخصية تبدو على العكس من التي قامت بها في جزيرة غمام تمامًا، بعد استعراض حيويتها الشديدة وقدرتها على الحركة داخل المساحة وتمثيل شخصية معقدة تحمل الخير والشر عادت إلى شخصية كثيرًا ما شوهدت خلالها، فتاة شديدة الرقة تتحدث بحساب وتتحرك بحساب، تتلبس عز الدين طبيعة الأزياء بإقناع على عكس الكثير من أقرانها الذكور، فتبدو شخصًا متعايشًا مع العصر الذي يوجد به، تتحرك بسلاسة داخل ملابس الشخصية وتتواءم معها، لكن راوية نفسها لا تملك الكثير لتقدمه، غير الظهور بشكل جميل ورقيق مع لمحات من التوتر، وجودها في الثلث الأول من العمل هو تهيئة لعلاقة حب بينها وبين أمير كرارة وفي كل حلقة يتم اجترار مشاكلها مع دار الأزياء، ووالدتها صاحبة البنسيون المديونة بأموال، غير قادرة على سدادها، تتفرع من العمل شخصيات عديدة لها إمكانية أن تكون غنية لكنها تغرق في بحر عدم الوضوح أو التحديد.
تبدأ الصراعات الأساسية في التشكل بعد مرور حوالي ست حلقات وهو وقت كاف لاستدعاء ملل المتابعين وتركهم لمسلسل ما بخاصة مع وجود عشرات الاختيارات، تتشكل خيارات المتابعين في بداية المواسم المزدحمة دراميًا من خلال الحلقات الأولى كما أن انتقال الآراء شفهيًا هو ما يجعل بعض الأعمال تصعد بشكل مفاجئ أو تدريجي في حالة سوق الكانتو، فإن الغموض الذي يغلف أحداثه في الأسبوع الأول من عرضه لم يشجع المشاهدين لنشر ضرورة متابعته سواء لأسباب فنية أو حكائية، وعندما بدأ في تربيط خيوطه بجمع طه وراوية وصراع عائلي تاريخي بين عائلتيهما فإن معظم من بدؤوا المتابعة قد توقفوا بالفعل، كما أن الفرضية الرئيسية للعمل لم تظهر بعد، وهي تحول طه من شاب جدع يعمل في سوق البالة إلى فتى مسيطر على منطقته نتيجة لحادث يحول مسار حياته.
يمثل «سوق الكانتو» مثالًا على بناء العوالم دون بناء للشخصيات، يستعيد عصرًا ما ويدرس تفاصيله ويعمل به فريق كبير من الفنيين والفنانين، من مصممي المؤثرات البصرية والسمعية إلى صانعي الأزياء ومصممي الديكور، ويستكمل موجة من أعمال الفترة التي ضمنت بعض النجاحات لأسباب محددة في وقتها لكنها لم تنجح مع سوق الكانتو، ربما لسوء الحظ أو للتركيز على إعادة خلق فترة زمنية دون التركيز على بناء دراما تجاري جودتها.