فيلم «Soul»: ربما من الأفضل ألا تتبع شغفك
في مشهد الذروة من فيلم متشابك Tangled 2010 المأخوذ عن أسطورة رابونزيل الشهيرة، تعرب رابونزيل عن قلقها الشديد من اللحظة المقبلة، لحظة تحقيق حلمها الذي انتظرته لثمانية عشر عاماً، عاشت طوال عمرها محتجزة في برج عالٍ لا تعرف عن الحياة شيئًا غير أن هناك مصابيح باهرة تنير السماوات في يوم ميلادها من كل عام، تنظر كل ليلة من نافذتها متمنية أن ترى بنفسها تلك المصابيح من موقع أكثر براحًا من سجن برجها، وعندما توشك اللحظة على القدوم تجزع لأنها لا تعرف كيف سيكون شعورها بعدما تنتهي لحظات تحقيق الحلم، ماذا لو لم يكن المشهد على قدر التوقعات، وحتى إن كان كذلك ماذا ستفعل بعدها، لكن كونه فيلمًا رومانسيًا عن أميرة تستكشف ذاتها وتجد قوتها في الحب فإن المشهد يمثل أكثر لحظات حياتها سعادة وتحققًا.
في فيلم ديزني/بيكسار الأخير Soul ينتظر جوي عازف موسيقى الجاز الذي يعاني في وظيفة معلم مدرسي تستنزف روحه كل يوم الفرصة لكي يحقق ذاته، لكي يلعب البيانو الحر بجانب أشهر عازفي الجاز ويجد شغفه الحقيقي، لكن عندما تجده الفرصة يحدث ما هو غير متوقع، يجلس جوي ويقدم أفضل أداء له لكنه لا يشعر بذلك التحقق والارتقاء السحري الذي ينتاب أبطال الأفلام العائلية بعد وصولهم لمبتغاهم وتحقيق شغفهم.
فكرة السعي وراء الشغف أو الشرارة كما يسميها الفيلم هي إحدى التيمات الرئيسية التي يتناولها فيلم بيكسار الأخير، تسير أحداث الفيلم في عالمين، العالم البشري وعالم الروح وهو مكان مجرد يعد الأرواح الجديدة للهبوط للأرض ويتعامل مع الأرواح الراحلة عنها، يمثل الفيلم أول عمل لبيكسار بطله الأساسي أسمر البشرة ويتعامل مع مفاهيم كبرى ومجردة مثل الموت والحياة ومغزى الوجود الإنساني، لكن مع كل أفكاره الثورية لا يزال يقع في إطار تركيبة بيكسار الشهيرة.
شغف لا يوقفه الموت
تقع أحداث الفيلم على مدار يوم في حياة جوي عازف الجاز الذي يعمل كمعلم موسيقى مؤقت في مدرسة إعدادية، جوي رجل على عتبة منتصف عمره، شغوف بالموسيقى يتمنى أن تكون ممارستها الحرة هي حياته، لكنه مقيد بطبيعة الحياة التي تستدعي عملاً ثابتًا ومعاشًا وتأمينًا صحيًا، تأتيه فرصة لعب البيانو بجانب عازفة ساكسفون شهيرة في إحدى مقاهي الجاز في نيويورك، مخمور بهول تلك الفرصة يجول في الشوارع هائمًا بنصف تركيز حتى يسقط في إحدى البالوعات المكشوفة ويتحول إلى روح هائمة زرقاء في عالم فارغ تمامًا إلا من السواد، يقف على صراط يؤدي إلى بقعة ضوء لا نهاية لها، يجد العديد من الأرواح المنتظرة معه، يحاول الهرب بالرغم من تأكده أنه قد فقد حياته ووجوده المادي لكنه لا يستطيع أن يواجه حقيقة أنه فقد فرصة تحقيق شغفه للأبد.
تؤدي محاولة هروب جوي إلى منطقة أخرى من ذلك المكان المجرد الذي تجتمع فيه الأرواح بعد خروجها من الأرض، منطقة تجتمع فيها الأرواح الوليدة التي لم تجرب الحياة بعد، في تلك المساحة الزرقاء المملوءة بما يشبه الأطفال الرضع المرحة، يوكل المسئولين عن المكان جوي لتدريب إحدى تلك الأرواح على إيجاد شغفها في الحياة لكي تستعد للعيش، تسمى 22 لأنها الروح الثانية والعشرين في الكون، فقد حاول الكثيرون عبر التاريخ إيجاد شرارة الحياة داخلها لكنها تملك نظرة سلبية للأرض وسكانها، وترى أنه من الأفضل أن تعيش ما تعرفه.
طيلة أحداث الفيلم نرى ديناميكيات العلاقة بين جوي و22، هو الذي يتوق إلى العودة للحياة وأداء دوره فيها وتحقيق حلمه الموسيقي وهي التي تمقتها بكل قوة، تدور تلك المفارقات بين عالم البشر على الأرض وعالم الأرواح، وبالإضافة لتناقض رؤى الشخصيتين عن الحياة فإن العالمين يمثلان ذلك التضاد، يخلق صناع الفيلم نسخة من نيويورك محل وقوع الأحداث وشخصياتها المتنوعة عرقيًا وشوارعها المزدحمة النابضة بالحياة برسوم دافئة واقعية، عكس عالم الأرواح البارد بشخصياته المستوحاة من رسوم الفنانين التجريديين وأجوائه التكنولوجية.
عالم من الثنائيات
تتعامل أفلام بيكسار في الغالب مع مفاهيم كبيرة عن طريق تمثيلها بشكل مادي ومبسط، وصف الكثيرون تلك المقاربة بأنها تجسيد لتساؤل «ماذا لو؟»، ماذا لو امتلكت الألعاب مشاعر، ماذا لو ولدت الكهرباء من صراخ الأطفال وهكذا، فكرة قلب التصورات الأساسية عن العالم هي ما تجعل من أفلام بيكسار رحلات عاطفية وعقلية مثيرة للاهتمام وللمشاعر.
عادة ما تصاغ الأفكار الأساسية لتلك الأفلام في شكل ثنائيات، تمثل الأنا والآخر، دائمًا ما يكون هناك عالمان مختلفان أو حتى متضادان بشكل كامل، فهناك عالم خارجي في مقابل عالم البشر، في قصة لعبة Toy Story هناك عالم الألعاب وفي راتاتوي Ratatouille عالم الجرذان، وفي شركة المرعبين Monsters, Inc. عالم سفلي من الوحوش، كل تلك العوالم يقابلها عالم البشر الذي نتفاعل معه بحكم أننا منه لكن الآخر هو ما يعلم البشريين ما يهم حقًا عن أنفسهم وأسلوب حياتهم ومدى تقبلهم للاختلاف.
في الأعوام الأخيرة صنع المخرج بيت دوكتر فيلم في قلبًا وقالبًا Inside Out 2015 وروح Soul 2020 يتشابه كلاهما في استكشاف مفاهيم معقدة وفلسفية في إطار قالب العوالم الثنائية لكن تلك المرة يكون العالم المقابل لعالم البشر ليس خارجيًا أو يمثل الآخر لكنه جزء منه بشكل أو بآخر، في قلبًا وقالبًا كان العالم الآخر هو العالم الداخلي للإنسان فتجسدت المشاعر في صورة شخصيات تتحكم في تصرفاته ومصيره، وفي روح يمكن اعتبار العالم منفصلاً لأنه عالم ما ورائي لكن الشخصيات تمثل جزءًا أساسيًا من العالمين مما يصلهما ببعضهما البعض.
ما ساهم في نجاح تلك الفكرة قلبًا وقالبًا كان التكثيف ووضوح المفهوم وقواعد ذلك العالم الداخلي، فأصبح من السهل على المشاهد التفاعل معه وتطبيقه على حياته الحقيقية، في حالة روح الذي يطمح لما هو أبعد من الأفكار المبسطة، تتداخل المفاهيم والتيمات، في النصف الأول من الفيلم يمكن اعتباره فيلمًا عن الموت والفرص الضائعة ويقدم تصورات عن شكل الحياة الأخرى، ثم يصبح مفهوم الموت خفيفًا يمكن التخلي عنه لصالح النقاش عن الشغف والمغزى من الحياة.
في Soul يمثل الموت أداة للوصول إلى العالم الماورائي الذي يدفع بأحداث الفيلم وأفكارة إلى الأمام لكنه لا يُناقش كمفهوم مستقل بذاته، يستثمر الفيلم وقتًا أطول في معالجة فكرة الشغف التي لطالما ساقت شخصيات بيكسار لكن (روح) يعيد صياغة ذلك المفهوم ويفكك صلابته المعتادة، فالإنسان لا يولد لكي يحقق هدفًا واحدًا أو يملك شغفًا محددًا مسبقًا، بل تتشكل اهتماماته طيلة حياته وتتبدل.
الموت كأداة
في الثلاثة أفلام الأصلية الاخيرة لبيكسار عمل الموت كأداة لتناول مفاهيم وقيم متعددة ومختلفة، في كوكو Coco مثل الموت أداة لاستكشاف قيمة الذاكرة وفكرة الإرث الإنساني المتروك على الأرض بعد مغادرتها، وشابهه في ذلك فيلم إلى الأمام Onward الذي استخدم الموت لاستعراض أفكار مثل طبيعة الفقد ودور الأحياء في ملء فراغ الراحلين، أما في روح فإن الموت يمثل أداة مشابهة لفكرة رواية ترنيمة الميلاد A Christmas Carol لتشارلز ديكنز وتنويعاتها مثل فيلم إنها حياة رائعة It’s a Wonderful Life فالغياب عن الحياة يكون لتعليم الحي نفسه درسًا في تقديرها، في تشرب كل تفصيلة منها والامتنان لمرها قبل حلوها، لكن على عكس أبطال تلك الأعمال لم يكره جوي الحياة قط فقد كان يملك آمالاً وشغفًا حقيقيًا، أراد أن يحيا لكنه لم يعرف كيف يوجه شغفه أو يقدر تفاصيل الحياة البسيطة.
خاضت ديزني تجربة ولوج عالم الموتى في عملين من قبل هما العروس الجثة Corpse Bride وكوكو وفي كلاهما انقسم العالم إلى عالم أحياء وأموات، في العروس الجثة اتخذ الفيلم اتجاها مجازيا في خياراته البصرية فصبغ عالم الأحياء بلون أزرق قاتم ومقبض بينما نبض عالم الأموات بالحياة والألوان والاحتفالات المستمرة، اتخذ كوكو اتجاهًا مشابهًا لكن نظرًا لطبيعة وقوع أحداثه في قرية مكسيكية ذات طابع احتفالي بالفعل فإنه لم يتعامل مع العالمين كضدين، لكن ظهر عالم الأموات بشكل أكثر حرية وكرنفالية وأكثر تشبعًا بالألوان.
لم يتبنى روح تلك الفلسفة المرحبة بالموت، فالموت لا يمثل مرحلة تدعو للرضا أو التقبل، جوي يحارب الموت لصالح الحياة على عكس الرؤى الأكثر احتضانًا لحتمية الفناء مثلما في كوكو أو في إلى الأمام، يعكس روح الرؤية البصرية لسابقيه، عالم الأحياء على الأرض ذو ألوان دافئة ومشبعة مليء بما يغمر الحواس من أضواء وروائح وألوان بينما عالم الأرواح عالم بارد أشبه بشبكة تكنولوجية عملاقة تعمل بدقة حسابية و أرشيفية يمكن اعتبارها «بلا روح»، يمتد ذلك إلى التصميم الصوتي فعالم الأحياء الذي يسكنه جوي تصاحبه موسيقى الجاز العفوية التي ألفها جون باتيست بينما العالم الماورائي يملك مؤلفين مختلفين هما ترينت ريزنور وأتيكوس روس، صنعا موسيقى إلكترونية هادئة ومرتبة تملك طابعًا يمزج بين الأجواء التكنولوجية والساحرة، على عكس التصورات الأكثر دفئًا للموت في الأفلام السابقة فإن فيلم روح لا يرى في الموت ما هو أبعد من العدم، بل يعظم من قيمة الحياة بكل تفاصيلها، من مذاق البيتزا حتى مضايقة الناس بعضهما البعض في عربات القطار المزدحمة.
عالم الأرواح في الفيلم لا يقتصر على من غادرو الحياة لكنه يملك جانبًا آخر وهو عالم الأرواح الوليدة يحد ذلك التنوع في الموضوعات من قدرة الفيلم على مناقشة أو مقاربة أي منها بتكثيف كافٍ ويسلب الموت خطورته أو دوره المحوري، يفقد جوي حياته عدة مرات لكن لا يبدو أن أحدًا على الأرض يلاحظ ذلك، لا نرى تأثير ذلك على من حوله، فيصبح هنالك انفصال بين عالم الأحياء والأموات على عكس الأفلام التي تناولت نفس الفكرة من قبل، في حين أن الفيلم يعطي مساحة أكبر لقصة الروح الوليدة 22 التي لا تجد مغزى للحياة ويساعدها جو على استكشاف شغفها أو شرارتها على الأرض حتى تفضي رسالة الفيلم النهائية أن الحياة في ذاتها هي المغزى، ويتم تهميش شخصية جو بشكل مفاجئ فتصبح نهايته بالرجوع للأرض مبتورة وغير مرضية بشكل كامل دون حل حقيقي لمعضلة شغفه وحبه للموسيقى.
Soul فيلم عائلي ممتع، شخصياته مثيرة للاهتمام موضوعيًا وبصريًا، لكن تكمن نقاط قوته عندما يتعامل مع تيماته ببساطة، فتصبح مشاهد جوي البسيطة على الأرض ومعاناته في إيجاد شغفه واهتمامه الموسيقي أكثر تأثيرًا من كل الأفكار المجردة الكبيرة النصف مدروسة.