فيلم «سعاد»: أو كيف تبدو الإسكندرية لفتاة من الشرقية؟
ضمن إطار عروض برنامج الدورة الـ 71 لمهرجان برلين السينمائي خلال مارس 2021، أتيح للصحفيين والنقاد مشاهدة فيلم آيتن أمين الروائي الطويل الثاني «سعاد»، الذي حظي بختم المشاركة الرسمية في مهرجان كان السينمائي في دورته السابقة 2020، لكن لم يتح وقتها للمشاهدة، الأمر الذي منح الفيلم فرصة ذهبية نادرة الحدوث ليتمكن من المشاركة في مهرجاني كان وبرلين على التوالي.
تعود أمين للسينما بعد انقطاع دام 7 سنوات منذ فيلمها الروائي الطويل الأول «فيلا 69»، أنجزت في ذلك الوقت برفقة نادين خان وهبة يسري المسلسل المثير للجدل والمختلف بشكل واضح عن الدراما المصرية التقليدية من حيث البناء والشخصيات والأسلوب «سابع جار».
سعاد ورباب وأحمد: ثلاث شخصيات معاصرة
في «سعاد» تتجه المخرجة لأسلوب مختلف عن فيلا 69، أسلوب يتسم بكونه «خامًا» وطازجًا، تؤسس له من خلال مشهد افتتاحي بكاميرا مهتزة لشابة تجلس بجانب امرأة في منتصف عمرها، يدور حوار بينهما، فتخبرها فيه الشابة عن خطيبها «الطبيب» الذي يخدم في سيناء، وعن دراستها للطب في جامعة الزقازيق، كما تحدثها عن العلاقة الطيبة بينها وبين أخته. قطع لنفس المشهد مع تغير المرأة الجالسة بجانب الشابة، إذ نجد شابة أخرى تجلس جوارها، فتحدثها عن تدخل أخت خطيبها في حياتهما كونها تخطت الثلاثين ولم تتزوج. قطع إلى مشهد آخر تلتقط فيه الشابة المتكلمة صورة لمسجد ونهر وتضعها على فيسبوك، ثم تنتقل إلى منطقة مجاورة لشريط قطار لتقابل أختها التي تعاتبها على تأخيرها فتختلق قصة جديدة لتبرر تأخرها، ويُكتب بحروف صفراء على الشاشة كلمة «سعاد».
هذا هو التأسيس الأول لشخصية سعاد، ثلاث قصص متضاربة تمامًا تؤكد أنها تمتلك عالمها الخاص، عالم تؤلف لنفسها فيه حيوات موازية لحياتها التي تبدأ في الظهور تدريجيًّا من خلال المشاهد التالية في غرفتها بواسطة حوارها مع صديقاتها، الذي يكشف لنا جانبًا آخر من شخصيتها. سعاد الحالمة التي تختلق القصص للغرباء تبدو ساكنة خاضعة لصديقاتها الواقعيات، سواء المتدينة المحافظة أو الجريئة، تستمع معظم الوقت إليهن وتبدو في موقع أضعف في كل المحادثات، لكنها أيضًا تخبرهن عن حبيبها الحقيقي المؤثر الاجتماعي السكندري أحمد، وعن انتظاره لها خارج مدرستها وتمنعها عن مقابلته.
كل تلك التفاصيل توحي بأن سعاد آتية من زمن أقدم، تحب الحكايات أكثر من الواقع، وتخلق عالمًا موازيًا تتخيل فيه الأشياء، وحتى اختيار الاسم ربما يخلق رابطًا في خيال المشاهد مع سعاد حسني نجمة الزمن الذهبي وأيقونة الرومانسية المصرية، كما يبرر التحول الدرامي الكبير في منتصف الفيلم، والذي يتيح للأخت الصغرى رباب الظهور واحتلال مساحة رئيسية بعد ظهور أولي يوحي بأنها شخصية ثانوية.
تبدو رباب في مساحة متوازنة، فلا تمتلك رومانسية أختها ولا لهاثًا وراء الزواج والحب الحقيقي مثل صديقات سعاد، كما تبدو أكثر اتساقًا مع زمنها وأدواته، وتمتلك جرأة حقيقية حتى إن لم تتحدث. تسافر رباب فجأة إلى أحمد وتحادثه من تليفون سعاد لتخبره أنها في الإسكندرية وتود مقابلته. ينتفض أحمد مفزوعًا من فراشه، وينزل لمقابلتها في مقهى، فتخبره بأنها تحمل له رسالة من سعاد، لكنها لن تعطيه إياها إلا في نهاية اليوم، تتلاعب به من أجل معرفة المزيد عن حياة أختها السرية، وترافقه في يومه لنبدأ في التعرف على أحمد نفسه.
أحمد شخصية مشتتة ومضطربة من الطبقة الوسطى، أنهى كلية الهندسة لكنه يعمل في صناعة المحتوى، يصادق فتاة إسكندرانية من طبقة تفوقه، يرى فيها فرصة لترقٍ طبقي لكنه لا يستطيع الاندماج مع أهلها وأحاديثهم عن شراء بيت صيفي في رأس الحكمة (إحدى قرى الساحل الشمالي الفاخرة)، بينما يرى في سعاد فتاة ساذجة تنبهر به وتذكره بالقصة التي حكاها لها عن تعارف والده ووالدته في «عاركة» في الشارع، كما ينجذب إلى جرأة رباب التي تفاجئه بتصرفاتها الحادة.
أسلوب بين الوثائقي والروائي
يتحرك بناء الفيلم بناء على تصرفات شخصياته الثلاث، دون توقف عند أي حدث، وفي استمرارية ربما توضح أن الأهم هنا هو حكي العالم نفسه من خلال الشخصيات ومنظورها عن ذلك العالم. يمكننا أيضًا ملاحظة أن هناك رابطًا بين شخصيات سعاد وفيلا 69، فسعاد والمهندس حسين شخصيتان رومانسيتان، يعيشان في أزمنة سابقة ويحاولان خلق فقاعة يحتميان بها ضد سير الزمن وقسوته، لكن ما يخلق الاختلاف الذي تحدثنا عنه في بداية المقال هو الأسلوب وشكل العالم البصري لكلا الفيلمين.
في فيلا 69 كل شيء منمق وسينمائي بما يتناسب مع ثقافة المهندس حسين ونظامه وقصة الفيلم المدفوعة بالشخصية أيضًا، لكن في سعاد الأجواء البصرية تنتمي لعالم يقع في مساحات تنتمي أكثر لعوالم السينما التسجيلية، بدءًا من الكاميرا المهتزة وفوضوية غرف الفتيات واختيار الألوان الفجة، حتى حامي شاشة موبايل سعاد المتشقق واختيار سطور الحوار، العناصر التي تمنح المشاهد نظرة تلصصية على عالم تلك الفتيات، وكأنك تشاهدها في مقطع يوتيوب مسرب على الإنترنت.
اختيار مواقع التصوير المتقشفة والواقعية أيضًا يحمل حسًّا تسجيليًّا، فأغلب الفيلم مصور في الخارج بشريط صوت يحمل الكثير من الضجيج وأصوات الشارع التي تغطي بعض الوقت على حوار الأبطال، لكن الاختيار الأبرز لأماكن الفيلم هو كون سعاد ورباب من منطقة شعبية في محافظة الشرقية وكون أحمد من الإسكندرية، المدينة التي تتخيلها كلتا الأختين بشكل به بعض من الفيتيشية، وكأن كل سكان المدينة المطلة على البحر يرونه من شرفات منازلهم. اختيار سعاد لأحمد من هذا المنطلق يكمل تصورها لنفسها وكأنها بطلة فيلم ستحظى بقصة حب مختلفة ورومانسية تشبه حكاية والد ووالدة أحمد المذكورة سابقًا، وتختلف عن ارتباطها بحبيب من مدينتها الصغيرة، لكن الفارق المكتشف بين سعاد وأحمد يشبه بشكل ما الفارق بين نهر النيل والبحر المتوسط.
سيناريو نسوي مدفوع بشخصياته
رغم التشابه بين الأسلوب المستخدم وبين أفلام مثل «فرش وغطا» لأحمد عبد الله و«عين شمس» لإبراهيم البطوط، فإن المنظور الذي ينطلق منه الفيلم نسوي بحت، إذ ينطلق الفيلم من منظور شخصياته النسائية، أما الاختلاف الثاني فهو مرتبط بالعالم الرقمي وعناصره: الرسائل الصوتية، والصور المرسلة بين سعاد وحبيبها عبر تطبيق ماسنجر ومكالمات الفيديو التي أتاحت لهما أصلًا بناء تلك العلاقة.
«سعاد» فيلم حاد جريء يبقى في ذاكرتك بعد مشاهدته بلا شك، ويبقيك مشغولًا بشخصياته ومصائرهم واختياراتهم، ويعبر عن الكثير من مشاعر الأجيال وتفاوتها من منظور فتيات في مقتبل عمرهن يبدون أكثر اختلافًا عن الأجيال السابقة، كما يصور كل ذلك بلغة متقشفة تخلق للفيلم عالمه الخاص.