عذرًا: هل أنت مشغول؟
تحدثنا في وقفتين سابقتين عن امتلاك القدرة على قول: لا، والتركيز على الأعمال من أجل إنجازها، وعدم التشتت عنها بالجري وراء الشواغل والصوارف، وقلنا إن من أهم المعينات على رفض المشتتات والشواغل هو حصول الانشغال بالفعل، إذ المشغول لا يُشغل، والطبيعة تأبى الفراغ، فإذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل.
لذلك كان دأب الصالحين والناجحين في سيرهم إلى الله أو في إدارتهم لشئون دنياهم أن يملئوا أوقاتهم بصفوف الأعمال النافعة، وأن يجعلوا لأعمالهم أوقاتًا لا تتجاوزها ولأوقاتهم أعمالًا لا تخلو عنها، وهو ما يعبر عنه أهل الإدارة المعاصرون بالروتين، ويعبر عنه الصوفية والسالكون إلى ربهم بالأوراد، ومعنى الكلمتين قريب، إذ المقصود بهما: الانتظام في فعل أمور محددة في أوقات محددة لفترة زمنية طويلة.
ولنبدأ بفوائد الروتين وأهميته لتحقيق الإنجاز حسب كلام أهل الإدارة المعاصرين، ثم ننتقل إلى حديث أهل التصوف والتربية عن الأوراد والحفاظ عليها وأهمية ذلك للسالك إلى الله تعالى.
أهمية الروتين في إنجاز الأعمال
أما من ناحية الإدارة فيمكننا تلخيص أهمية الروتين في ثماني نقاط:
أولها: الكفاءة، إذ يعينك الروتين على أداء الأعمال بشكل أسرع وبدقة أعلى؛ بسبب انتظامك في أدائها وحصولك على التدريب الكافي وتراكم خبرتك في الأمر الذي اعتدت عليه وأصبح لك فيه روتين ثابت.
ثانيها: سهولة العمل، إذ الروتين اليومي يسهل عليك القيام بالأمور المطلوبة منك، إذ تضع لكل عمل وقتًا خاصًّا به فيؤدي هذا إلى سهولة القيام بالمهام المطلوبة كلها بالترتيب المعتاد.
ثالثها: اختصار الوقت، إذ لن يضيع منك وقت كثير في إعادة تخطيط المهام المتزاحمة التي يتوجب عليك القيام بها، ولكنك ستؤدي المطلوب في وقته الذي اعتدت عليه من غير إرهاق للذهن ولا نسيان شيء لأنه غير معتاد.
رابعها: غرس عادات جيدة جديدة، لأن العادات لا تبنى إلا بالتكرار[1].
خامسها: القدرة على قول لا للمشتتات التي تطرأ عليك طوال نهارك وليلك.
سادسها: تقوية الإرادة بالتوقف عن التسويف. إذ يسهل على الإنسان القيام بما اعتاده فلن يحتاج إلى تسويف الأعمال وتأجيلها حتى تتراكم مشكلة وتكون عبئًا نفسيًّا مرهقًا.
سابعها: التمكن من التطوير المستمر. إذ مهما بلغ حجم التطور اليومي من الصغر، لكن استمرار التطوير وانتظامه يجعل النتائج في النهاية كبيرة بشكل غير متوقع[2].
ثامنها وأخيرًا: الراحة النفسية وتقليل الضغط والتوتر. إنك لن تكون مضطرًا للتفكير في زحام من المهام لا تدري بأيها يجب أن تبدأ، أو ماذا سيحدث لو لم تنتهِ من واجباتك المطلوبة دراسيًّا أو وظيفيًّا، بالعكس، ستجد وقتًا كافيًا للاسترخاء، إذ تعرف مسبقًا ما المهام المطلوبة، وما الأوقات المخصصة لها، وستنهي أعمالك في أوقاتها، ثم تنعم بعدها بالراحة والاستمتاع اللذين خصصت لهما وقتًا مستقلًّا في تخطيطك المسبق لروتينك[3].
حديثين شريفين في الانتظام والروتين
وقبل أن ننتقل للحديث عن أهمية الأوراد والانتظام فيها عند أهل التصوف والسلوك، أذكر لك حديثين شريفين في فضل المداومة والروتين، أولهما حديث السيدة عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، «هل كان يختص من الأيام شيئًا؟ قالت: لا، كان عمله ديمة»[4]. وفي نفس المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل»[5].
وأما الحديث الآخر: فـ «عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه أَنَّ سيدتنا فَاطِمَةَ عَلَيْهِا السَّلَام أَتَت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ، قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ، فَقَالَ: عَلَى مَكَانِكُمَا، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»[6]. قال سيدنا علي رضي الله عنه، فما تركتها منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صفين؟ (وهي الليلة الشهيرة التي وقعت فيها الحرب في بداية خلافته عليه السلام)، قال: ولا ليلة صفين؛ ذكرتها من آخر الليل فقلتها.
انظروا إلى أهمية الانتظام والروتين في أداء الأعمال، وكيف فهم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك، فلاحظوا أن الصلاة لها أوقات خاصة تؤدى فيها، بل جعل الله تعالى هذه الأوقات كتابًا موقوتًا[7]. ثم إن لها عددًا ثابتًا من الركعات لا يجوز لك أن تزيد فيها ولا أن تنقص منها، وكذلك الصوم، له وقت بداية في كل يوم محدد بدقة بالغة فلا يجوز لك أن تتجاوزه، وكذلك وقت نهايته يوميًّا، ثم هو أيام مخصوصة، يتكرر منك نفس الفعل يوميًّا لمدة شهر كامل، فأي تعويد على الروتين والانتظام أكبر من ذلك؟
أهمية الروتين والانتظام في الأوراد عند أهل التربية
تحدث علماء التصوف الإسلامي في كثير من كتبهم عن أهمية الأوراد للسالك إلى رب العزة سبحانه وتعالى، وقد قال الشيخ عبد الله بن علوي الحداد رحمه الله تعالى في كتابه الجليل الجميل «رسالة المعاونة والمظاهرة والمناصرة للراغبين من المؤمنين في سلوك طريق الآخرة» كلامًا راقيًا رائقًا في هذا المعنى، أكتفي بأن أنقله لكم هنا بنصه ففيه الكثير من الكنوز الجديرة بالتأمل.
قال رحمه الله:
«وعليك بعمارة أوقاتك بوظائف العبادات حتى لا تمرَّ ساعة من ليل أو نهار إلا وتكون لك فيها وظيفة من الخير تستغرقها بها، فبذلك تظهر بركات الأوقات، وتحصل فائدة العمر، ويدوم الإقبال على الله تعالى.
وينبغي أن تجعل لما تتعاطاه من العادات كالأكل والشرب والسعي للمعاش أوقاتًا تخصُّها.
واعلم أنه لا يستقيم مع الإهمال حال، ولا يصلح مع الإغفال بال. قال حجة الإسلام الغزالي نفع الله به: ينبغي أن توزع أوقاتك وترتب أورادك وتعين لكل وقت شغلًا لا تتعداه ولا تؤثر فيه سواه، وأما من ترك نفسه مهملًا سدى إهمال البهائم يشتغل في كل وقت بما اتفق كيف اتفق فتمضي أكثر أوقاته ضائعة، وأوقاتك عمرك، وعمرك رأس مالك، وعليه أصل تجارتك، وبه وصولك إلى نعيم الأبد في جوار الله تعالى، فكل نفَس من أنفاسك جوهرة لا قيمة له، إذ لا عوض له وإذا فات فلا عود له. انتهى.
ولا ينبغي أن تستغرق جميع أوقاتك بورد واحد وإن كان أفضل الأوراد مثلًا فتفوتك بذلك بركات تعدد الأوراد والتنقل فيها فإن لكل ورد أثرًا في القلب ونورًا ومددًا ومكانة من الله ليست لغيره.
وأيضًا إذا تنقلت من ورد إلى ورد أمنت بذلك من السآمة والكسل، ومن الضجر والملل، قال ابن عطاء الله الشاذلي رحمه الله تعالى: لما علم الحق منك وجود الملل لوَّن لك الطاعات.
واعلم أن للأوراد أثرًا كبيرًا في تنوير القلب وضبط الجوارح، ولكن لا يظهر ويتأكد إلا عند المواظبة والتكرار وفعل كل ورد منها في وقت يخصه.
فإن لم تكن ممن يستغرق جميع ساعات ليله ونهاره بوظائف الخيرات فاجعل لك أورادًا تواظب عليها في أوقات مخصوصة وتقضيها مهما فاتتك لتعتاد النفس المحافظة عليها، ومتى أيستْ منك النفس أنك لا تسمح بترك أورادك حتى تتداركها بالقضاء متى فاتت بادرت إلى فعلها في أوقاتها.
وقال سيدي الشيخ عبد الرحمن السقاف رضي الله عنه: من لم يكن له ورد فهو قرد، وقال بعض العارفين: الواردات من حيث الأوراد فمن لم يكن له ورد في ظاهره لم يكن له وارد في سرائره.
وعليك بالقصد ولزوم الوسط من كل أمر، وخذ من الأعمال ما تطيق المداومة عليه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وقال عليه السلام: خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.
ومن شأن الشيطان – لعنه الله – أن يزين للمريد في مبدأ إرادته الاستكثار من الطاعات والإفراط فيها، وغرضه من ذلك أن يرده على عقبه بترك فعل الخير أصلًا، أو فعله على غير الوجه الذي ينبغي، ولا يبالي اللعين بأيهما دهاه». انتهى كلام الإمام الحداد رحمه الله.
هذه والله كلمات تكتب بحروف النور وبخيوط الذهب، كيف أن عمرك هو رأس مال تجارتك، وأنك إن ضيعته فما أشد خسارتك وما أعظم خيبتك أيها الإنسان، لذلك كان كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في وجوب المبادرة إلى العمل الصالح واغتنام الأوقات والفرص فإنك لا تدري متى ينتهي عمرك ويحين أجلك، فالبدار البدار والغنيمة الغنيمة.
هل تعرف أحاديث المبادرة؟
إنها خمسة أحاديث نبوية شريفة وجهَّنا فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى وجوب المبادرة إلى العمل الصالح واستغلال كل فرصة متاحة قبل أن تزول، فإن الفرص في الدنيا سريعة الزوال بطبعها وأصل خلقتها، لذلك قال القائل:
ومع أن آيات المبادرة وأحاديثها كثيرة جدًّا، غير أننا ننتقي منها خمسة أحاديث نريد التوقف معها وقفات سريعة، ونحض على حفظها وتدبرها، وليكن ذلك في وقفتنا المقبلة وعنوانها: «المؤازرة بشرح أحاديث المبادرة».
[1]: راجع في هذا للأهمية البالغة سلسلة «بناء العادات» على وسم «علي وكتاب» في يوتيوب، وهي قناة كلها نافعة مهمة جزى الله صاحبها خير الجزاء ورضي عنه، وهذه السلسلة مكونة – وقت كتابة هذه السطور – من ثلاث حلقات، أولها وأهمها بعنوان «بناء العادات»، والثانية بعنوان «حل مشكلة التشتت وضعف التركيز»، وأما الثالثة فعنوانها «كيف تخطط يومك لتحقيق إنتاجية عالية».
[2]: أرشح لك فيديو من دقيقتين تجده على يوتيوب بعنوان «قانون الإضافة البسيطة» تجد فيه خلاصة مهمة لما نريد قوله في هذه النقطة.[3]: استفدنا كثيرًا من هذه الفوائد من الموقع الإلكتروني لمجلة «الرجل»، في مقالة بعنوان «الروتين كلمة سيئة السمعة.. إليك إيجابيات الروتين اليومي المذهلة».[4]: حديث صحيح، رواه الإمام البخاري.[5]: حديث صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.[6]: حديث صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.[7]: قال الله تعالى: «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا». سورة النساء، آية: 103.