تعد الباحثة الألمانية ذات الأصل الهندي ثريا فاروقي […-Suraiya Faroqhi [1941 أحد أهم الباحثين على مستوى العالم كله في دراسة التاريخ الحقيقي للدولة العثمانية. تأثرت بتلمذتها المبكرة على يد أحد أهم المؤرخين الأتراك المحدثين، عمر لطفي برقان [Omer Lutfi Barkan [1902- 1979 الذي قام بتوجيهها منذ وقت مبكر نحو دراسة تاريخ العثمانيين، وهو ما ظهر بعد ذلك في دراستيْها للماجستير والدكتوراه، وعديد الكتب والأبحاث العلمية التي تلت ذلك ولم تتوقف حتى الآن.


منهجية ثريا فاروقي

عبّدت ثريا فاروقي طريقها العلمي مسلحة بمنهج بحثي صارم اعتمد بشكل أساسي على المصادر التاريخية التي لم تُكتب بقصد أن تكون تاريخًا؛ أي الكتابات التي لم ينوِ أصحابها تحويلها إلى مصادر تاريخية، وفي نفس الوقت لم يدركوا أنهم يكتبون التاريخ الحقيقي، مثل كتابات الأدباء والشعراء والرحّالة ورسامي الخرائط وتقارير التجار، فضلاً عن ما خلفه الأسرى الأوروبيون من خواطر وكتابات عن فترة الأسر. ولم تغفل فاروقي بالطبع المصادر التاريخية العثمانية الرسمية؛ أي المصادر التي كتبت بقصد أن تكون تاريخًا، وهي المصادر الرسمية والوثائق الموجودة في البلاط السلطاني ولدى الباب العالي وفي دوائر الحكم في الولايات والأقاليم، فضلاً عن كتب المؤرخين الرسميين للدولة العثمانية خاصة خلال الفترة الممتدة من القرن السادس عشر حتى التاسع عشر الميلادي.

ولت ثريا فاروقي وجهها واهتماماتها البحثية عن الاهتمامات العادية لجل الباحثين في التاريخ العثماني، فابتعدت عن تاريخ العثمانيين بشكله التقليدي.

ونتيجة لذلك كله، ولَت ثريا فاروقي وجهها واهتماماتها البحثية عن الاهتمامات العادية لجل الباحثين في التاريخ العثماني، فابتعدت عن تاريخ العثمانيين بشكله التقليدي، الفتوحات العسكرية والأحداث ذات الصبغة الحربية، ووقائع التوسع العثماني الذي استهوى العديد من الباحثين المسلمين والأوروبيين، فضلاً عن أنها لم تلق بمسحة دينية على ” الفتوحات العثمانية “في الشرق المسلم والغرب المسيحي، وبدلاً من ذلك اهتمت فاروقي –معتمدة على أدوات التاريخ الجديد– بالتاريخ الحقيقي للدولة العثمانية. وقد تركزت معظم أعمالها حول الجانب الحضري والحياة العادية للسكان والرعايا العثمانيين.

وانشغلت بثقافة الإنسان وحياته اليومية، القراءة والكتب في الدولة العثمانية، الملابس، وصناعة النسيج. ولم تغفل أيضًا عن الاهتمام بالهوية الدينية للسكان المستقرين والمهاجرين، وكذا اهتمت بالحرف والحرفيين في الدولة العثمانية. وتعاملات التجار والمباني التجارية، ورحلات الحجاج، بل وحتى العلاقة بين السكان العثمانيين وحيواناتهم. لقد اهتمت فاروقي في أبحاثها بالحدائق العثمانية، كيفية تأسيسها وسبل رعايتها، استخدامات الذهب والفضة، والطعام والشراب، الصراع الاجتماعي والجريمة، الدراويش والعلماء.

كل هذا فضلاً عن مقاربات أخرى تناولت الدولة العثمانية والأقاليم المحيطة بها، ومنطقة البلقان تحديدًا، فضلاً عن المشاركة في إصدار ونشر التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية. (هنا لا نميل إلى استخدام كلمة «إمبراطورية» في وصف الدولة العثمانية، أو حتى الدول والخلافات الإسلامية السابقة لأنه مصطلح تاريخي خاص فقط بالإمبراطورية الرومانية، حيث كان الإمبراطور وحده من يملك سلطة الإمبيريوم Imperium وهي سلطة القيادة والسلطة القانونية المطلقة على السكان، وهو ما لم يكن موجودًا في تواريخ الدول التالية على الرومان؛ لذا فإن وصف الأمم الأخرى بذلك هو تزيد لا لزوم له من الناحية العلمية).

وترى فاروقي أن الإجراءات الحكومية التركية السابقة، و«الروتين» التركي حتى ثمانينيات القرن العشرين قد أثرا بالسلب وحرما العديد من الباحثين غير الأتراك حول العالم من الحصول بسهولة على التصاريح اللازمة لدخول الأرشيف العثماني الذي يتبع رئاسة مجلس الوزراء مباشرة. كما تشهد بعملية التدفق الكبيرة من قبل الباحثين بعد تسهيل الحكومات التركية اللاحقة لمهمتهم العلمية في الدخول من أجل الاطلاع على وثائق الأرشيف العثماني، وكذلك استخدام التقنيات اللازمة للنسخ والتصوير.


العالم برؤية عثمانية

وفي سياق قراءتها لتاريخ تأثير الدول الأوروبية الغربية على المجتمع العثماني منذ القرن الثامن عشر، ترى فاروقي أن هذه التأثيرات لا يمكن دراستها دون الاستعانة بنقد وتحليل تقارير المبعوثين العثمانيين إلى الغرب مثل محمد جلبي يرميسكيز 1720م الذي أرسل إلى فرنسا من قبل الصدر الأعظم إبراهيم باشا صهر السلطان العثماني أحمد الثالث، حيث زار باريس والبلاط الفرنسي حاملاً رسالة من السلطان العثماني. وفي باريس التقى يرميسكيز بالملك الصبي لويس السادس عشر والوصي على العرش وكبار رجال الدولة والقادة العسكريين. وأقام في باريس خمسة أشهر كانت كافية للقيام بالعديد من الزيارات لأهم معالم المدينة ووصفها بشكل تفصيلي.

ولأن الغرض الرئيسي من البعثة كان التعرف على مظاهر المدنية الأوروبية ومحاولة العثمانيين الاستفادة منها، فقد احتلت القصور والحدائق والمصانع معظم أوقات الزيارة. فزار يرميسكيز مصانع غزل السجاد وصناعة الزجاج، فضلاً عن زيارة الأوبرا الفرنسية. ويعد تقرير محمد جلبي يرميسكيز أول جهد عثماني لتجاوز الثقافة العثمانية التقليدية عبر القفز على مسالة اختلاف العقيدة، ومحاولة التشبه بمنجزات الأوروبيين المختلفين في العادات والتقاليد.

ترى فاروقي أن تأثير الدولة الأوروبية على المجتمع العثماني منذ القرن الثامن عشر يجب دراسته مع الاستعانة بنقد وتحليل تقارير المبعوثين العثمانيين إلى ذلك الغرب.

كما اعتمدت فاروقي في سياق قراءة ذات العلاقة على تقرير السفير العثماني محمد أمني (1690 – 1750م) إلى روسيا والتي جرت بعد معاهدة بلجراد عام 1739م. ويعد تقريره أيضًا وثيقة غاية في الأهمية عن العلاقات العثمانية – الروسية ما بين الأعوام 1740 – 1742م.

وكان من الطبيعي في خضم العلاقات العثمانية – الهابسبورجية أن تهتم ثريا فاروقي بالتقرير الذي خلفه المبعوث العثماني أبو بكر راتب أفندي الذي زار النمسا 1791-1792م من قبل السلطان سليم الثالث، والذي عاد إلى إسطنبول ليعد تقريرًا مفصلاً من حوالي 500 صفحة شغل مكانة خاصة في تاريخ الإصلاحات العثمانية آنذاك، فضلاً عن الاحتفاء أيضًا بتقارير السفراء أحمد رسمي أفندي إلى برلين 1763م، وجريتلي علي عزيز أفندي إلى بروسيا 1796م، وأحمد دري وانلي أفندي إلى إيران 1721م.

ولم تكتف ثريا فاروقي بذلك بل اعتمدت أيضًا في بحثها عن الحج أيام الدولة العثمانية على تقارير متنوعة بعضها معروف وبعضها الآخر غير معروف؛ مثل تقرير سهيلي الشامي الذي ترك رواية باللغة العثمانية تتناول إعادة ترميم الكعبة المشرفة زمن السلطان مراد الرابع بعد تهدم بنائها نتيجة سيول العام 1630م. وأفاض في تقريره أيضًا في الحديث عن طريقة إدارة الموظف المصري رضوان بك لمشروع الترميم.

وفي طريق بحثها أيضًا عن المصادر العثمانية التي يمكن الاعتماد عليها أبرزت ما كتبه جعفر أفندي ابن الشيخ بهرام عن المهندس المعماري العثماني محمد أغا الذي كان مسئولاً عن أعمال الترميم في المسجد الحرام بمكة المكرمة وفي المسجد النبوي بالمدينة المنورة.

ولما كان الرحالة العثماني الأشهر أوليا جلبي (1611 – 1684م) يمثل زادًا لا ينضب للباحثين في التاريخ العثماني، فقد اعتمدت عليه فاروقي مؤكدة ضرورة الاستعانة بأجزاء من تقاريره على الرغم من بعض المشاكل التي قد تنجم عن ذلك. ولذلك حاولت تقديم رؤية نقدية وتحليلية لعمل جلبي ومدى فائدته لتاريخ الدولة العثمانية وكذلك لتاريخ الأمم المجاورة، وقد عبرت عن ذلك بالقول:

لقد قرأ أوليا جلبي العديد من المصادر التاريخية والجغرافية الإسلامية، لكن استفادته من تلك المصادر لم تكن استفادة كاتب مبدع استخدم الروايات الواقعية كملهمة لنوع جديد من الكتابة؛ أي روايات عن الرحلات. وقد أسيء فهم هذه العملية لفترة طويلة مما نتج عنه أن اسم أوليا جلبي أصبح مضرب المثل في حكايا الرحلات غير الموثوق فيها، حتى تم إعادة النظر في ذلك منذ سنوات قريبة. كان جلبي نتاج بنيته، ومن ثم يمكننا أن نفترض –مع استحالة وجود دليل– أنه عندما يكتب عن بقاع غريبة فإن ذلك يعني أنه يعكس رؤية معاصريه للعالم في وقت كانت فيه رواية القصص في إسطنبول والعالم الإسلامي في القرن السابع عشر الميلادي تعد نوعًا من الفن وليس مجرد تسلية لغير المتعلمين.
وتضيف أيضًا:

وفي جانب آخر، حظيت تقارير الزوار الأجانب لإسطنبول والأقاليم السلطانية الأخرى بأهمية بالغة لدى ثريا فاروقي خاصة عند إنجازها الفريد لكتابها «الدولة العثمانية والعالم المحيط بها»؛ من ذلك تقارير الرحالة الطبيب وعالم النبات ليونهارت راوولف (1535 – 1596م) الذي حاز شهرته نتيجة الوصف المسهب الذي قام به لرحلاته في فلسطين والشام والعراق في القرن السادس عشر الميلادي، والذي لاحظ التزام المسلمين العثمانيين بتعاليم دينهم بشكل كبير، وبالمواظبة على الصلوات في أوقاتها، وأيضًا بكمية الصدقات الواسعة المقدمة من الموسرين العثمانيين.


مذكرات الأسرى الأوروبيين والمسلمين

ربما حدث خلط في حكايات أوليا جلبي عن البلاد والأحوال الأوروبية خارج نطاق الدولة العثمانية. وقد جاء هذا نتيجة الاعتماد على روايات مشوشة سمعها في إسطنبول من الأوروبيين الداخلين حديثًا في الإسلام من ذوي الفكرة الجغرافية المضطربة على أحسن تقدير. ومن المحتمل أيضًا –على الرغم من عدم الـتأكد من ذلك– أنه رغب في تكوين رأي لصالح شن حروب أخرى بوسط أوروبا، مع الوضع في الاعتبار أنه كتب هذا في العقود التي سبقت حصار مدينة فيينا الثاني مباشرة 1683م.

وفي الوقت الذي تجنبت فيه الاستفاضة في الحديث عن المصادر التاريخية العادية والمألوفة للقراء والباحثين، فإن ثريا فاروقي لجأت إلى مذكرات الأسرى الأوروبيين الذين سقطوا في قبضة العثمانيين خلال القرون من السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين. وكان معظمهم قد سقط أولاً في قبضة الأساطيل البحرية لمدن الشمال الأفريقي (طرابلس – تونس – الجزائر) التي كثيرًا ما هاجمت سفن التاج الإسباني فضلاً عن الإغارة على السواحل الإيطالية.

ومن أشهر الأسرى الأوروبيين الذين سقطوا في قبضة العثمانيين كان الباحث والضابط في جيش الهابسبورج لويجي فرناندو دي مارسيلي، الذي قضى زمنًا في أراضي البوسنة العثمانية حتى تم افتداؤه. كذلك الفارس الهابسبورجي كلاوديو أنجيلو دي مارتيللي الذي كان أسيرًا للصدر الأعظم قره مصطفى باشا قبل أن ينتقل بعد ذلك إلى ورثته. وكان قد تم أسره إبّان حصار مدينة فيينا قبل أن يتم نقله إلى مدينة إسطنبول فيما بعد.

لجأت ثريا فاروقي إلى مذكرات الأسرى الأوروبيين الذين سقطوا في قبضة العثمانيين خلال القرون من السادس عشر إلى الثامن عشر الميلاديين.

واعتمدت ثريا فاروقي على الكتاب الذي ألّفه دي مارتيللي بعدما تم افتداؤه من الأسر، فأشارت إلى ما تلقاه في محنته من مساعدات عبر رفقاء مسيحيين، وكذلك من قبل زوجة قائد قلعة بلغراد. ولعل أهم ما لفت نظرها في هذا الكتاب هي إشارات دي مارتيللي إلى المسلمين بامتنان خاص، وذكره لأحوال العديد من أسرى الهابسبورج الذين تحولوا حديثًا إلى الإسلام، وكيف كانوا يشعرون بالحنين إلى وطنهم ويسعدون لمجرد التحدث بلغتهم الأم؛ ومنهم عبد الله الإسباني من سكان جزر الكناري الذي عمل مسئولاً عن أطفال الصدر الأعظم قره مصطفى باشا، وكذلك محمد أغا أمين المال في بيت الكخيا، البولندي الأصل، الذي كان موضع ثقة واستطاع الاندماج والتكيف مع وضعه الجديد داخل المجتمع العثماني. وتشير فاروقي إلى أن مفاوضات افتداء الأسير دي مارتيللي كانت بقيادة اليهودي ديفيد أوغلي روزاليز بمساعدة مقدمة أيضًا من بعض الرعايا العثمانيين.

ومن الجدير بالذكر أن الاستخدام العثماني الرئيسي للأسرى الأوروبيين كان في إجبارهم على العمل كمجدفين في السفن العثمانية إلى جوار الأشخاص المجرمين الذين عاقبتهم المحاكم العثمانية بالإجبار على هذا العمل المجهد والمضني.

كما اعتمدت فاروقي أيضًا على ما كتبه الأسير الألماني ميخائيل هيري (1560 – 1623م) القادم من مدينة هايدلبرج، الذي عمل في مهنة التجديف لمدة عشر سنوات كاملة (1580 – 1589م)، قضى منهما عامين في مصر (1585 – 1586م)، خاصة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي الذي نشب خلال ارتفاع أسعار الغذاء في النصف الثاني من القرن السادس عشر الميلادي.

حيث كتب هيبرير عن طلب مالك السفينة التي يعمل بها من القبطان أن يزيد من كمية ضربه للعبيد لكي يجعلهم يقومون بالتجديف بقوة وبسرعة أكبر، غير أن القبطان العثماني رفض القيام بذلك، ورد عليه بأن الأسرى والعبيد في حاجة إلى مزيد من الطعام لا الضرب. وعندما لم يوافق المالك على طلبه قام القبطان بتقديم استقالته بعدما صرخ في وجهه: إن هؤلاء الأسرى هم بشر مثله تمامًا؛ لذا فإنه يطلب من المالك أن يعاملهم كبشر لا كحيوانات. وطبقًا لما سطره هيبرير فإن مالك السفينة العثماني لم يستطع أن يفعل للقبطان شيئًا خاصة بعد انضمام الأسرى والعبيد إليه.

واستخدمت فاروقي كتابات هيبرير أيضًا في البرهنة على دور النساء العثمانيات كمانحات للصدقة إلى الأسرى المسيحيين. فقد ذكر أن امرأة ذات صلة بالبلاط العثماني كانت عائدة من رحلة الحج على متن سفينة تعود إلى سيده ذي القلب القاسي، قامت بتوبيخ مالك السفينة وحذرته من معاملته السيئة للعبيد والأسرى. وكانت تحرص على الإنفاق على علاجهم على نفقتها الخاصة عدة مرات خلال رحلة عودة السفينة من الإسكندرية إلى العاصمة العثمانية، كما أمرت نفس السيدة العثمانية بتوزيع الخبز واللحم وزيت الطعام عليهم أيضًا.

كما التفتت فاروقي أيضًا إلى ما كتبه هيبرير من تقديم النساء العثمانيات للصدقات للأسرى المجدفين والعبيد، وبينت كيف أن الأخير بعد قضائه الشتاء في سجون الترسانة البحرية العثمانية خرج للعمل كخادم في أحد المنازل بإسطنبول، وقد سجّل أن زوجة صاحب المنزل لم تقم بإطعامه فقط، بل دفعت زوجها إلى عمل اللازم تجاه هذا الأسير المسكين.

حدث هذا كله قبل انعتاق هيبرير من الأسر ليتحول إلى سكرتير يحتفظ بأرشيف خاص به وجدت فيه فاروقي مادة تاريخية مهمة للغاية.

لم تكتفِ ثريا فاروقي بدراسة مذكرات وأوراق الأسرى الأوروبيين، بل اعتمدت أيضًا على كتابات الأسرى المسلمين الذين سقطوا في قبضة القوات الأوروبية.

كما اعتمدت ثريا فاروقي أيضًا على مذكرات الأسير الألماني هانز فيلد ابن مدينة نورمبرج، الذي سقط أسيرًا لدى العثمانيين لفترة ثمان سنوات (1604 – 1611م)، قضى منهم أربعة أعوام في مصر (1606م – 1610م)[1]. وكان حظ هانز فيلد أو يواهان وايلد جيدًا؛ إذ أفلت من مسألة الإجبار على التجديف في السفن العثمانية بعدما بيع إلى أحد التجار المسلمين الفرس ليجوب برفقته الأراضي الإسلامية من القاهرة إلى الجزيرة العربية التي دخلها كأحد العبيد المسلمين، إلى دمشق وبيت المقدس في رحلات تجارية متعاقبة برفقة سيده؛ الأمر الذي أكسبه خبرة واسعة بشئون التجارة البرية والبحرية، ووافق سيده في القاهرة على عتقه.

وبينما كان يحاول الهرب إلى وطنه غرقت سفينته بالقرب من جزيرة قبرص، وأمده المسافرون والتجار العثمانيون بالمأكل والملبس. ومنحه قاضي ميناء ليماسول -بعدما شاهد وثيقة عتقه– مبلغًا كبيرًا كصدقة وإحسان. وبينما واصل الأسير الألماني هانز فيلد طريقه بحرًا إلى أنطاليا سقط صريع المرض الشديد، فقدم له المحسنون المسلمون الطعام والعلاج حتى استعاد عافيته. بعد ذلك فضّل العودة إلى سيده في القاهرة من جديد ليعمل معه مجددًا بالتجارة لمدة عام آخر، نجح في نهايته في تدبير أموال مكنته من ركوب سفينته مجددًا من الإسكندرية إلى إسطنبول، ومنها توجه إلى بولندا ثم إلى المانيا.، وهناك سطر لنا رحلته في الأسر والتي اعتمدت عليها فاروقي واعتبرتها وثيقة عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية في أقاليم الدولة العثمانية في بداية القرن السابع عشر الميلادي.

ولم تكتف ثريا فاروقي خلال مشروعها العلمي لدراسة تاريخ الدولة العثمانية بدراسة مذكرات وأوراق الأسرى الأوروبيين، بل اعتمدت أيضًا على كتابات الأسرى المسلمين الذين سقطوا في قبضة القوات الأوروبية. وكان معظمهم أيضًا يعملون على متن السفن الأوروبية، كما في الترسانة البحرية في مارسيليا، حيث عانى الجميع أيضًا من المعاملة السيئة فضلاً عن حالة الجوع التي تمكنت منهم.

وكان قراصنة البحر الأوربيون قد قاموا بأسرهم من على السواحل الجنوبية للبحر المتوسط، أو شرائهم من القراصنة التابعين لجزيرة مالطة، حيث وجد الجميع سوقًا رائجة للأسرى والعبيد المسلمين في الترسانة الملكية البحرية الفرنسية. وبالنسبة للأسرى والعبيد من الأتراك العثمانيين الذين سقطوا في قبضة أسرة الهابسبورج، فقد جرى نقلهم إلى الأراضي الهابسبورجية للعمل كخدم منزليين في بيوت الأغنياء. وعلى الرغم من أن تلك كانت مهنة أقل خطورة من مهنة التجديف على متن السفن، فان ذلك كان مبعثًا على الذل وعلى التعرض دائمًا للمواقف الخطرة ومبعثًا على الشقاء في الحياة. وحدث تطور جديد لهؤلاء الأسرى خاصة من صغار السن بعدما جرى تعميد عدد كبير منهم.

كتاب «الدولة العثمانية والعالم المحيط بها».

على أية حال، اعتمدت ثريا فاروقي على كتابات الأسير العثماني عثمان أغا، الذي سقط على الجبهة الكرواتية عام 1688م خلال الحرب بين العثمانيين والهابسبورج حتى استطاع الهرب من مدينة فيينا سنة 1699م ليعود إلى موطنه الأصلي.

وعلى الرغم من أن عثمان أغا استطاع توفير مبلغ الفدية، لكن سيده تسلم المبلغ ورفض بعد ذلك منحه صك العتق. وتمتلئ الفصول الأولى من تقرير الأسير العثماني بصور البؤس والشقاء الذي عانى منه. وفي إحدى المرات كان مجهدًا ومريضًا فظن سيده أنه قد مات، فألقى به من الكوخ الذي يقيم فيه إلى كومة من مخلّفات الحيوانات. واعتمدت فاروقي أيضًا على ما كتبه عثمان أغا حول قيام بعض الأسيرات العثمانيات بالمجازفة عبر الهرب في رحلة محفوفة بالمخاطر من أجل تجنب البقاء والعيش في أراضي المسيحيين «غير المؤمنين».

والحقيقة أن ثريا فاروقي لفتت النظر إلى أهمية كتابات الأسرى في تتبع السياقات الاجتماعية والثقافية للحروب العثمانية – الأوربية. فقد أدركت مدى ما تحتويه تلك الكتابات من مادة تاريخية وأنثروبولوجية وثقافية كبيرة تتفرد بها عن الوثائق والمكاتبات الرسمية التقليدية، وهي إن اعترفت في كتابها الصادر بالإنكليزية العام 2004م [2]) أن «البحث المتعلق بأسرى الحرب على الأراضي العثمانية والأسرى العثمانيين في أوروبا ما زال في مراحله الأولى»، فإن مترجم الكتاب إلى العربية (كاتب هذه السطو) لاحظ استمرارية اهتمام ثريا فاروقي بكتابات الأسرى كمصدر غير تقليدي لكتابة التاريخ الحقيقي للدولة العثمانية، وهو ما تجلى عبر إشرافها على أطروحة علمية بقسم العلوم الاجتماعية بجامعة إسطنبول عام 2013م للباحثة نيدا نباهات نالشاجي Nida Nebahat Nalcaci كان عنوانها «Erken Modern Donem Istanbul, unda Savas Esirleri ve Zorunlu Istihdam».

(أسرى الحرب في الفترة المبكرة من إسطنبول العثمانية والإجبار على الأعمال الشاقة). كما تبين لنا من خلال متابعتنا أيضًا للأعمال العلمية التي تناولت حياة الأسرى في الدولة العثمانية -وهو الطريق الذي ساهمت ثريا فاروقي في تعبيده بشكل كبير- عثرت على رسالة علمية متخصصة بجامعة باريس عن العبودية في الإمبراطورية العثمانية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين للباحث التركي خيري جوكسن أوزكوراي Hayri Goksin Ozkoray «L’esclavage dans l’empire ottoman (xvie-xviie siècles)» , October,2010.

ومن نافلة القول أيضًا، أن نذكّر باعتماد فاروقي في جد وذكاء (تحسد عليهما) على الآلاف من وثائق الأرشيف العثماني، فضلاً عن أرشيفات المدن التركية والعربية والبلقانية من أجل كتابة تاريخ حقيقي للدولة العثمانية وجيرانها، كما سلف القول.

والحقيقة أن هذه الباحثة الفذة قد انغمست في التاريخ العثماني الحقيقي حتى أخمص قدميها، ونكاد نقول إنها لم تكتب خلال رحلتها العلمية -التي أنتجت أكثر من مائة وخمسين عملاً علميًا ما بين كتب وأبحاث ونشر وإشراف على موسوعات وكتب– سوى عن العالم العثماني، دواخله ومحيطه، اشتباكاته الداخلية وصراعاته الخارجية.

لهذا كله، احتفت المحافل المهتمة بالتاريخ العثماني على مستوى العالم بالأعمال العلمية لثريا فاروقي، وترجمت أعمالها إلى الانجليزية والألمانية والتركية واليونانية والكرواتية فضلاً عن اللغة العربية، حيث صدرت لها ثلاث ترجمات متتالية في بيروت وهي كالتالي:

1- An Economic and Social History of the Ottoman Empire ( ed. with Halil Inalcik and Donald Quataert) . Cambridge,1997. وصدرت ترجمة الكتاب في جزأين بعنوان «التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للدولة العثمانية»، ترجم الأول منهما عبد الإله عبد الحارس، بينما ترجم الثاني قاسم عبده قاسم عن دار المدار الإسلامي، 2007م.

2- The Ottoman Empire and The world Around It,Tauris,2004. وصدرت الترجمة بقلم كاتب هذه السطور بعنوان «الدولة العثمانية والعالم المحيط بها» عن دار المدار الإسلامي، 2008م.

3– Pilgrims and Sultans, Tauris,1994. وصدرت الترجمة لأبو بكر باقادر تحت عنوان «حجاج وسلاطين» الحج أيام العثمانيين عن منشورات الجمل، 2010م.


[1] راجع مقال كاتب هذه السطور عن الأخير بجريدة الحياة اللندنية: صورة الإسلام والمسلمين لدى الأسير الألماني يوهان وايلد 1606 – 16010م. بتاريخ 26/6/ 2010م.[2] راجع الترجمة العربية لكتاب فاروقي: الدولة العثمانية والعالم المحيط بها، ص 233، ترجمة د. حاتم الطحاوي، دار المدار الإسلامي.
المراجع
  1. معهد العالم للدراسات