فيلم Song To Song: يقولون إن تيرانس ماليك أصابه الكبر
يقولون إن كل أفلام المخرج هي في الحقيقة فيلم واحد طويل، ولكن هل يعني ذلك أننا ﻻ يمكننا أن نقرأ أحد أعماله بمعزل عن سابقيه وﻻحقيه؟ هل يتحتم على المرء أن يبدأ بأقدم أفلام المخرج حتى تتأتى له مشاهدة أحدثها؟
يقولون إن «تيرانس ماليك» أصابه ما يصيب الرجال في شيخوختهم، ويقولون إن الشقة تتباعد بين أفلامه الحديثة وتلك الأقدم، ويقولون أيضًا إن فيلمه الأخير «Song To Song» ﻻ يسمن وﻻ يغني.
هالني ذلك الكم الكبير من المراجعات السلبية التي مُني بها فيلم «Song To Song». وأدركت -متأخرًا- مدى الاختلاف حول تيرانس ماليك وأفلامه، فأنا -كما قلت لإحدى الصديقات- لم أحضر «الخناقة» من أولها، ولم أشاهد للرجل سوى فيلمه الأخير، ولكني وجدته فيلمًا شديد العذوبة، بريئًا من اتهامات الغموض والادعاء، أصيلًا في أسلوبه، مغاليًا في ميله للابتكار وكسر التقليد. هكذا أراه، وهكذا يرونه.
يقولون إنه عديم الفكرة
حمل الملصق الدعائي للفيلم صور أبطاله الأربعة، ولكن الفيلم يضم مجموعة أخرى من الشخصيات الثانوية التي تتشابه إلى حد كبير مع أبطاله الأربعة في افتقادهم لمعنى الحياة. جميع الشخصيات تبحث عن المعنى في حيواتهم، وعن المغزى من ورائها.
تأتي هذه الجملة على لسان إحدى الشخصيات التي يشار إليها فقط بالحروف الأولى من اسمها؛ «BV» (قام بأدائها الممثل «ريان جوزلنج»)، وهي الجملة التي يمكننا أن نفسر الفيلم من خلالها. جميع الشخصيات تفتقد إلى المعنى/الضوء، وتتخبط بين النور والظلام، بين الأضواء الطبيعية وتلك الصناعية، بين تصورين للحياة؛ أحدهما زائف، والآخر حقيقي. بين مسببات السعادة كوسيلة، والسعادة كغاية عظمى ونهائية من الحياة. فعلى سبيل المثال؛ هل تكمن السعادة في الجنس؟ أم أنه فقط إحدى الوسائل إليها؟
تخبرنا «فاي» (قامت بدورها الممثلة «روني مارا») عن نفسها بهذه الجملة في أول مشاهد الفيلم. تتأرجح «فاي» بين رجلين، تحمل شعورًا ملتبسًا تجاه كل منهما، لا تدري أيهما الحقيقي وأيهما الزائف، تبحث عن معني لحياتها في شغفها بالموسيقى، تتساءل؛ هل بمقدور الفن أن يمنحها هذا المعنى؟ وهل تحمل روحها من الفن شيئًا؟
يتكرر السؤال بصورة مختلفة عند شخصية BV، هو أيضًا ملحن ومؤلف موسيقى، يتلاعب «كوك»، المنتج الكبير، برأسه ويخبره أنه هو من منحه الفرصة للظهور، تلك الفرصة التي ينتظرها الآلاف غيره، وأن نجاحه مرهون بتلك الفرصة وحدها، ﻻ بأعماله وفنه المزعوم.
يمر الوقت ويحول الشخصيات من طور إلي طور، ويصقل خبرتهم الحياتية، يسبر غور بعضهم دون الآخر، يهدي بعضهم إلى الإجابة، ويترك البعض الآخر أسير حيرته وتيهه. تتفاوت قدرة الشخصيات على المقاومة، يستسلم أحدهم إلى المعنى الزائف، إلى الضوء الصناعي، ويكفر آخر بالحياة ويجد الخلاص في إنهائها، بينما يتبع الضوء آخرون، ليجدوا المعنى في نهاية المطاف، ويملكون القدرة على التفرقة بين السعادة الحقيقية ومسبباتها.
يقولون إن نصه ضعيف
في مقابلة تلفزيونية جمعت عددًا من نجوم هوليوود من بينهم الممثل الكبير «كريستوفر بلامر»، وبمجرد أن حضرت سيرة المخرج تيرانس ماليك، حضرت معها التعليقات السلبية المختلفة، وحضر كذلك الاستهزاء الواضح بأسلوب الرجل وتفضيلاته الفنية. يقول بلامر؛
يعتمد ماليك على التصوير الحر، بلا أي سيناريو أو تحضير مسبق، ثم يقوم ببناء فيلمه بالكامل في مرحلة المونتاج.صرح ماليك أن النسخة الأولى من فيلم Song To Song بلغت 8 ساعات كاملة، تم اختصارها وقصها لتبلغ النسخة النهائية 128 دقيقة فقط. وبالرغم من ذلك فقد خرج الفيلم في شكله النهائي على قدر كبير من التماسك، يحمل فكرة واضحة، وتطورًا ملموسًا في الأحداث والشخصيات، ويحمل أيضًا الكثير من الابتكار علي مستوى السرد السينمائي.
اعتمد السرد في فيلم Song To Song على التعليق الصوتي للشخصيات، لتظهر المشاهد في صورة أفكار متناثرة وغير متتابعة تدور في ذهن الشخصيات، وتعبر عن رؤيتهم للواقع المعيش، فالسارد هنا ليس هو السارد العليم الذي يعرف النهاية ويسردها بأثر رجعي، ولكنه يسردها من لحظة إدراكها في الحاضر وليس المستقبل.
ﻻ يبدو الأمر يسيرًا، فكيف تنتقي من بين هذا الكم الكبير من المادة المصورة ما يمثل ربعها فقط لتغزل منه خيوط الحكاية، وكيف تدمج صوتًا وصورة، صمما بشكل منفصل، لتصنع منهما كلًّا جديدًا متماسكًا وليس متنافرًا. هنا يكمن التحدي الكبير الذي واجهه كل من المخرج والممثل، وفي مرحلة ﻻحقة المونتير.
يقولون إن ماليك أصابه الكبر
يبدو هذا السؤال شديد الصعوبة، ولهذا سنتحول عنه لسؤال آخر أكثر إجداءً؛ بالنظر إلى آخر أعماله، هل حقًا فقد ماليك منابعه الإبداعية؟
الضوء هو التيمة الرئيسية في فيلم Song To Song، وفيه يكمن نصف جمال هذا الفيلم. بتنويعات بصرية مذهلة قدم ماليك الضوء على جميع أبطال فيلمه. ﻻ يخلو مشهد من مشاهد الفيلم من أثر الضوء في التكوين البصري، الكثير من التنويعات البصرية التي تؤكد فكرة الفيلم المفسرة التي لخصها BV في جملته «يقولون اتبع الضوء»، الضوء الطبيعي في مواجهة الضوء الصناعي، درجات الضوء الطبيعي المتفاوتة بين الغسق والشفق، وألوان الضوء الصناعي التي تجاهد لمحاكاة ضوء الشمس، المزج بين الضوء الطبيعي والصناعي لتأكيد معنى الحيرة بين الحقيقة والزيف، فأينما حل الضوء، ﻻبد أن يصحبه الظل.
وإلي جانب التوظيف الجمالي والذكي للضوء، جاءت كاميرا المصور السينمائي الشهير «إيمانويل لوبزكي» لتدلي بدلوها الجمالي في الصورة. اعتمد ماليك على أسلوبه المعتاد في التصوير، حيث حركة الكاميرا الدائمة والسلسلة، وعلى الرغم من الانتقال المونتاجي بين الكثير من اللقطات المختلفة وغير المتتابعة، لكن القطع هنا اعتمد بالأساس على اتجاه حركة الكاميرا، بحيث تواصل كل لقطة الحركة في نفس الاتجاه الذي انتهت إليه اللقطة السابقة، وليبدو القطع غير مرئي في كثير من المشاهد.
كما أن الحركة الدائمة وغير المستقرة للكاميرا بين الزوايا والاتجاهات المتناقضة جاءت معبرة عن حالة التيه والحيرة التي تكتنف الشخصيات، وعن بحثهم الدائم عن الإجابة التي من شأنها أن تمنح طوافهم العشوائي مركزًا وجاذبية كتلك التي تمسك الأرض في مدارها.
لم أشاهد لماليك سوى فيلمه الأخير، ولم أفهم لمَ كل هذا الهجوم علي الفيلم ومخرجه، فالفيلم ﻻ يفتقد إلى الفكرة، وﻻ يعمد إلى الغموض، وﻻ تعوزه مواطن الجمال. وإنما وجدته فيلمًا شديد العذوبة، بريئًا من الادعاء، ميالًا إلى الابتكار وكسر القيود.
هكذا أرى الفيلم، وهكذا يرونه.