شيء من حتى: كيف صمم العراب آلة الزمن؟
الهروب من الواقع
«فانتازيا» هي العالم الذي صاغه د. أحمد خالد توفيق من العدم، هي الحلم والمهرب والمطمع، وأسس به لقرائه نبعًا ما نضب يومًا من الخيال والعلم معًا كما جرت بذلك عادته معهم، ولكن في «فانتازيا» كان للأمر بعض الخصوصية والتفرد.
فإن كان أبطال سلاسل العراب دومًا أشخاصًا عاديين لا يستطيع أحدهم أن يطير في السماء أو أن يقاتل بأطرافه الأربعة في آن كحال الأبطال المعهودين، وإن كان أبطال العراب دائمًا كحالنا وهو ما كان مع د. رفعت إسماعيل ود. علاء عبد العظيم، إلا أن بطلة «فانتازيا» عبير عبد الرحمن قد تجاوزت حد الشخص الاعتيادي، حتى أصبح كونها عادية إلى حد غير مسبوق هو سر تميزها كشخص متفرد بطباعه وآرائه.
عبير التي لم تكن رائعة الجمال، ولا عظيمة الغنى، ولا رفيعة المنصب أو التعليم، لم تكن إلا فتاة بسيطة الحال يتحدث أخوها عن العريس المناسب الذي سوف يأتي بـ«النابوليا» من دمياط ولكنها رغم ذلك امتازت بشيء آخر. فلها خيال لا محدود أصقله وميّزه قراءة لا تنضب مهما كان المكان أو الزمان، ففي خضم عملها البسيط عند صفوت ما كان في يدها دائمًا إلا روايات مهترئة في شكلها، وهذا وارد ولكنها ما انفكت يومًا من قراءاتها المستمرة حتى صارت أفضل مجرب للاختراع الجديد.
فانتازيا
مهندس شاب طموح وعبقري في نفس الوقت، اخترع جهازًا ينقلك إلى عالم آخر، عالم من صنعك فقط. وليد خيالك وخبراتك ومعارفك وعلومك، عالم كالحلم إلا أنه في اليقظة. ومن يملك الخيال أكثر من عبير؟
من هنا كانت البداية، في عوالم لا نهاية ولا حد لها، ومهما اجتهد الشخص في السرد عنها أو عما دسه فيها العراب من علم وطرق، فلن يوفي الأمر حقه، ولكن نعم بدأت الرحلة وتشعبت في كل ناحية من جيمس بوند إلى فلاد الولاشي، ومن مرافقة نابليون إلى السعي لتحرير الدوتشي بنيتو موسوليني حليف الرايخ، ومن العبور مع دستويفسكي في متاهاته وعوالمه ومرافقة المتنبي في رحلته إلى الوصول إلى البصرة العباسية وهناك وجدته عبير؛ وجدت سيبويه.
الخليل بن أحمد الفراهيدي
في مغامرتنا هذه تصل عبير عبر الزمان والمكان معًا كصحفية إلى بغداد، دار الخلافة العباسية، وفي عصر هارون الرشيد أمير المؤمنين كانت المناظرة النحوية الكبرى بين مدارس النحو، وعلى رأسها الكبيران سيبويه والكسائي.
ولكن قبل أن نرى سيبويه كان لا بد من معرفة أستاذه ومعلمه الأكبر وصاحب التأثير العظيم فيه، وهناك كان الخليل بن أحمد الفراهيدي ينتظر.
ذلك كان الوصف، وأما اللقاء الأول لنا معه فقد كان غريبًا ومذهلًا بعض الشيء، فالخليل العظيم كان مقلوبًا في بئر بيته يردد أبيات الشعر لأن رجع الصدى يناسبه! ومن هنا أخرج الخليل لنا من جعبته بحور الشعر العربي، فما من شاعر اليوم إلا ويدين للخليل بفضل في نظمه وشعره وأوزانه.
ثم استمر العراب في اصطحابنا مع الخليل حتى كدنا أن ننسى سيبويه، فهو في علمه وقوته وثباته لشخص جدير بالانبهار قبل الإعجاب والتقدير، ومن ينسى يومًا قولة الخليل المشهورة:
سأطلب علمًا لا تُلَحِّنيّ فيه
ومن عباءة الخليل خرج التلميذ العالم سيبويه، الذي ألف كتابًا في النحو كان سراجًا على مر العصور لمن أراد أن يستزيد من بحر تلك اللغة وينهل منها فلا يشبع يومًا.
وكما تتقلب حياة الفرد من وقت إلى وقت ومن موقف إلى موقف، حتى يكون فيها ذلك الموقف الذي يحدد حياته ويرسم هداه في السير فيكون ما بعده ليس كما قبله أبدًا، وتنقلب أحوال الإنسان إلى الطموح الذي إن جرف صاحبه فسوف يقضي عليه، فكم من رجل عظيم ساقه الطموح إلى ما لا يُعقل حتى أورده المهلكة! وأما إن أمسك صاحبه بزمام طموحه فقد أوصله إلى المبتغى وهداه الطريق وأرشده.
ولسيبويه الفارسي الأصل والعربي اللسان كانت تلك اللحظة حينما أخطأ في إعراب وصححه له أستاذه وهو يقول: «لحنت يا سيبويه»، وهنا يضحك التلاميذ على الغلام الفارسي ولكن الفتى الذي احمرت أذناه خجلًا ما يرد إلا بطموح قلبه وعقله ورحه: «لا جرم.. سأطلب علمًا لا تُلَحِّنيَّ فيه».
شيء من حتى
صار الفتى عمرو بن عثمان بن قنبر -والذي خطأه أستاذه حماد بن سلمة البصري- اليوم إمام النحاة والعلماء في البصرة، فهو أبلغ من حمل علم الخليل وزاد عليه، فعلى ذلك دائمًا كان ميراث العلماء لتلاميذهم، وفي الرحلة التي يصحبنا فيها العراب وعبير نرى الفتى الذي تفوح منه رائحة التفاح وهو يجلس على رأس علماء النحو في البصرة عن جدارة واستحقاق، فقد طلب غايته وعلمها – علمًا لا تلحني فيه – ولكن العالم ما فتئ يومًا من استغرابه من ذلك الحرف الغريب في اللغة فقد كانت «حتى» هناك دومًا تؤرقه وتدفع شغفه.
فـ«حتى» تأخذ أكثر من شكل ومن وضع في سياق الكلام، والعجيب أنه كلهم صحيح، فهي تارة تنصب الفعل، وتارة أخرى كحرف جر بمعنى إلى، ثم تتنكر فتكون كحرف العطف، ثم هي في أول الكلام ابتداءً ولا محل لها من الإعراب!
لذلك وعلى مدى الرحلة الطويلة مع سيبويه تتجنب عبير ذكر «حتى» وهو ما تخفق فيه أحيانًا كثيرة، فالعالم العبقري أتعبته «حتى» ودومًا ما استفزه مكانها المختلف حتى قال:
المناظرة
بهذا تصل الرحلة مع عبير إلى بدايتها، وفي بغداد عاصمة هارون الرشيد كانت المناظرة النحوية بين سيبويه والكسائي، والتي سارت ببداية حذرة حتى تفرعت إلى مسألة نحوية معقدة هي المسألة الزنبورية، ومهما قلنا فيما حدث ببغداد ذلك اليوم، فقد رافقت عبير عالِمنا سيبويه من العراق حتى بلاد فارس لتضع خيوط النهاية التي رسمها د. أحمد خالد توفيق ببراعة أدبية ودقة تاريخية، وفي أرض الفرس كان جسد العالم قائمًا ونفسه مستمرة في شغفها حتى النهاية ورغم أي ظروف، ولكنها ما فتئت أبد الدهر تحمل دومًا شيئًا من حتى.