بعض الأزواج يحبون بعضهم إلى الأبد: فما السر وراء ذلك؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
هذا ما خلص إليه المقال الذي كتبته آرون بن زييف، أستاذ الفلسفة ورئيس جامعة حيفا في إسرائيل، وفيه تسأل سؤالًا مركزيًا عن كيف تستمر قصص الحب دون أن تفقد حدتها وتتحول إلى حبٍ رفاقي [حب العِشْرة] خالٍ من الانسجام والتوافق، وقائم على التسويات أكثر من الحب الفعلي؟
خرافة الشعارات الرومانسية
تبدأ آرون مقالتها متحدثة عن قناعته السابقة فيما يخص الحب الذي في معظم حالاته يتحول إلى مآسٍ كما في روايات السيدة بوفاري (1856) أو مايكل الخاص بي (1968)، والتي تحذر من فشل العلاقات التي يموت فيها الحب الحقيقي وينعدم فيها الشغف، مما يؤدي إلى انتحار الشخصيات التي لا تستطيع تحمل هذا الوضع (كما في حالة إيما في السيدة بوفاري) أو فقدان المعنى الحقيقي للحياة (كما في حالة حنا في مايكل الخاص بي).
فهؤلاء الأشخاص وأمثالهم هم ضحايا هذه الخرافة [كما تسميها آرون]، التي ما زالت متجذرة في الاحتفالات والأغاني عن الحب الرومانسي الذي يعبر بالحبيبين كل العقبات، وأنه لا يفرّق بينهما إلا الموت وكل شعارات الأيديولوجيا الرومانسية هذه.
تفترض هذه الأيديولوجيا توحد الحبيبين، وأن الحب بينهما مثالي صلب وغير مشروط، ولا يهم أيا كان ما يحدث خارج إطار علاقتهما، فالمهم أنهما سويًا.
وعلى الرغم من أن هذه الأيديولوجيا الرومانسية لا زالت جذابة، فإن فكرة الحب الخالد قد فقدت جاذبيتها في العصور الحديثة. وتعود أحد الأفكار التي ترفض هذا الأمر إلى المبدأ الذي عرضه الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا عن أن «المشاعر تنشأ عندما نلاحظ تغيرًا مهمًا في موقفنا»، وبما أن التغير لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، فلابد للحب إذن أن يتلاشى.
وتشير آرون إلى أن هناك العديد من الدراسات التي أثبتت هذا الأمر، حيث أشارت إلى أن الرغبة الجنسية والحب الرومانسي الحاد يتلاشى مع الوقت. فيقل معدل اللقاء الجنسي إلى النصف بعد عام من الزواج بالمقارنة مع شهره الأول، ويستمر في التناقص بشكل مستمر. ولهذا، أكد العديد من العلماء على كون الحب الحاد المستمر هو أمر غير شائع، والمعتاد أن يتحول إلى حب عشرة، به انجذاب متبادل منخفض ورغبة جنسية أقل. فكما يقول المثل: إما أن نرتفع لوقت قصير إلى أعلى القمم، أو نقنع [بمستوى أقل] لسنوات طويلة.
ولكن تؤكد آرون أن هذا المثل ليس صحيحًا بالكلية، وأن هناك العديد من الزيجات يستمر فيها الحب عميقًا لفترات طويلة. ففي 2012، توصلت دراسة قامت بسؤال 274 فردا، متزوجين لمدة تزيد عن العقد، عن مدى حبهم لأزواجهم. وكانت النتيجة أن 40% منهم أجاب «أحبه بشدة». وكذلك دراسات مماثلة وصلت إلى نفس النتيجة أو مقاربة لها.
وقامت دراسات عصبية بتحديد الآلية العقلية التي تقف وراء هذه النتائج. حيث توصلت دراسة في عام 2012، أُجريت على عشر سيدات وسبع رجال مروا بتجربة زواج بمتوسط 21 عامًا، من خلال عرض صور لأزواجهم، لكن مراكز المكافأة في المخ يتم تنشيطها بشكل كبير، بنفس الطريقة التي تنشط بها لدى من يمر بتجربة حب جديدة، وبطريقة تختلف بشكل كبير عن حالة حب العشرة.
الحب العميق في مواجهة الملل
ومع هذه النتائج، تظل آرون، كما تقول، متمسكًا بفكرته عن الأيديولوجيا الرومانسية والحب الذي لا ينتهي، على الرغم من معارضة هذا الفهم الشائع للعديد من الدراسات النفسية. فيحاول أن يربط بين هذه الدراسات وبين مفهوم سبينوزا عن أن المشاعر تتطلب تغييرًا. ويقوم بذلك من خلال التمييز بين «التجارب الرومانسية السطحية» وبين «الحب العميق» الذي تلعب فيه الجاذبية الجنسية دورًا محوريًا، ويزداد من خلال الخبرات المشتركة والتحسين الذاتي لكلٍ من الطرفين. ويؤكد أن كلا من النوعين مليء بالحب، لكن واحدًا فقط هو الذي يبقى.
تبدأ آرون محاولتها هذه من خلال المقارنة بين انفعالات كالغضب ومشاعر كالأسى. وتشير إلى أن الشعور أكثر من مجرد انفعال، حيث إنه يشكل توجهنا وتصرفنا بشكل دائم. فالغضب قد يستمر لدقيقة أو اثنتين أو أكثر ثم يمضي، لكن الأسى على فقدان حبيب يبقى دائمًا، ويشكل تصرفاتنا وأمزجتنا. وبنفس الطريقة، يمكن التفرقة بين ظاهرتين في الحب: «الحدة الرومانسية»، والتي تشير إلى الانفعالات الفورية اللحظية، و«العمق الرومانسي» الذي يعني حالات متكررة من الحدة الرومانسية لفترات طويلة إلى جانب خبرات حياتية تدفع الطرفين إلى النجاح والازدهار.
ولكن تستدرك آرون بأن الوقت ليس فقط هو الأمر المهم، فقد يتحول الحب مع الوقت إلى ملل، بل يتعلق كذلك بمدى تركيب العلاقة. فالأشياء البسيطة من الناحية النفسية يقل الإعجاب بها مع الوقت، ولكن المركبة يتم الإعجاب بها أكثر مع الوقت. وكذلك شخصية الحبيب، كلما كانت مركبة، كانت مثيرة للإعجاب وموّلدة للحب الرومانسي العميق.
وإلى جانب التركيب والوقت، تشير آرون إلى ضرورة تشارك الأشياء المهمة بين الحبيبين، فالحب يُصنع كما يُصنع الخبز، على حد تعبير الروائي أورزولا كي لوجوين. فالأنشطة المشتركة بينهما لها أثر باقٍ على حياتهما ويمكنها كذلك تشكيل شخصياتهما.
وتعود فكرة التمييز بين الحدة الرومانسية والعمق الرومانسي إلى التفريق الذي أقامه أرسطو بين السعادة الناشئة عن اللذة/السعادة التلذذية hedonic well-being، وتلك الناشئة عن المعنى/السعادة المعنوية eudaimonic well-being. ويشير آرون إلى دراسة قامت بها كارول ريف، عالمة النفس في جامعة ويسكنسون، حيث قامت بفحص بعض الدراسات التي تربط بين السعادة المعنوية وبين بعض المؤشرات الحيوية الخاصة بالأمراض القلبية والعصبية والمناعية، ومدى مقاومة الجسم لها وإمكانية الشفاء منها ووجدت أن وجود السعادة المعنوية يرتبط دائمًا بحالات منخفضة من احتمالية الإصابة بهذه الأمراض.
وتفصّل آرون في ماهية السعادة المعنوية، وتشير إلى أن فوائد الحب العميق هي أحد العناصر الأساسية الموصلة إليها. فالازدهار الإنساني لا يتحقق من خلال بعض الأنشطة السطحية كممارسة الجنس بشكل دوري، أو الحديث عن الآخرين ومشاهدة التلفاز. بل يحتاج إلى الحب العميق، الذي يتحقق من خلال الأداء الجيد، والاستفادة من المهارات الأساسية بشكل مستمر لفترة طويلة من الزمن. «وهذا هو الفرق بين اللذة الفانية والكنز الباقي».
رحلة البحث عن شريك أفضل
ولكن يظل الحب العميق معرضًا لخطر الموت، فالحبيبان قد يتغيران، أو تتبدل الظروف، ويقل الانجذاب بينهما. وتحدد آرون حجم هذا الخطر من خلال الاعتماد على عاملين؛ الأول هو الانجذاب الجنسي، والثاني هو استحقاق الثناء، أي امتلاك السمات الشخصية التي تعجب الآخرين. والحب الرومانسي يتطلب الأمرين معًا. وبدونهما لا يتحقق أبدًا. ولكن كلا العاملين متصلان ببعضهما البعض، فالجمال الشكلي لأحد الطرفين يؤثر بشكل كبير على إدراك الطرف الآخر لصفاته الشخصية، وكذلك الصفات الشخصية تؤثر على إدراك أحد الطرفين للجمال الشكلي للطرف الآخر.
وتشير آرون إلى أنه بالوقت تتغير درجة الشخص في كل من الاتجاهين، فالانجذاب الشكلي يكون مهمًا في البدايات، ويصبح استحقاق الثناء أكثر أهمية بعد ذلك. ويحدث الفشل نتيجة طغيان أحد العاملين على الآخر، والتي تسميها آرون بـ «التسوية الرومانسية».
فظاهرة التسوية الرومانسية هي أن يتنازل الطرف عن أمر ما في مقابل أمر آخر. فيتنازل عن الحب الرومانسي الحاد في مقابل الحياة براحة وهدوء دون ضغوط مالية، وهكذا. وكلما كانت هذه التسوية كبيرة، كان الاشتياق لعلاقة أفضل أكبر. تضع هذه الظاهرة عائقين رئيسيين في وجه استمرار الحب؛ الأول هو القبول بجانب سلبي في الطرف الآخر، والذي يمكن التعايش معه بسهولة، فكلنا ذوو عيوب. الثانية هي التخلي عن محاولة البحث عن شريك أفضل، وهو العائق الأقوى على الإطلاق.
وتشير آرون إلى أنه بالفعل كانت النساء التي تشعر بشك في العلاقة قبل الزفاف، أي وجود مؤشرات على ضرورة حدوث حالة من التسوية وقبول عيوب معينة في مقابل مميزات أخرى، أكثر تعرضًا للطلاق بمرتين ونصف عن هؤلاء اللاتي لم تكن لديهن شكوك فيما يخص أزواجهن. وتكون الشكوك في العامل الثاني أكثر خطورةً عن العامل الأول، فالشركاء الذين لا يجدون من بعضهم البعض الدفع نحو الإنجاز والازدهار يتم إغواؤهم من أشخاص آخرين.
كيف يستمر الحُب؟
وتختم آرون مقالها بالحديث عن فكرة أخرى خاطئة تمنع الوصول إلى الحب العميق، ألا وهي فكرة أن الحبيبين يجب أن ينصهرا في بعضهما البعض، والتي ترجع إلى أفلاطون الذي يتحدث عن أن الحب هو البحث عن «نصفك الآخر المفقود».
فالصحيح أن الحب لا يعني أن يملك أحد الآخر، بل يتشاركان فيما هو مهم لتطويرهما نفسيًا وعمليًا. فلا تُهدر شخصية أحد منهما بل تتطور وتتحسن، فيكوّنان تفضيلات متشابهة فيما يخص المسرح والموسيقى، وحتى يرتديان أزياءً متشابهة.
بل يصل الأمر إلى أنهما يفهمان بعضهما البعض دون كلام وتتكون لديهما نفس الأفكار.
ولكن، حتى في هذه الحالة، لا تندمج الشخصيتان، بل تتشاركان. فالحب يجب أن يكون عميقًا كي يستمر، وهي مهمة تحتاج إلى الانسجام والتوافق وليس الامتلاك والسيطرة وممارسات الحب السطحية.