سوسيولوجيا الإسلام ومعادلة المعرفة والسلطة
يمثل كتاب «سوسيولوجيا الإسلام: المعرفة والسلطة والمدنية»، لأرماندو سلفاتوري، وترجمة ربيع وهبة. وقد صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2017، الجزء الأول من ثلاثية ستصدر تباعًا. يسعى سلفاتوري من خلالها لتقديم سوسيولوجيا الإسلام. لكن وقبل عرض الكتاب سأقدم بعض الملاحظات المتعلقة بالشكل الذي أتى عليه الكتاب.
يواجه المرء العديد من المقاطع والعبارات المصاغة بشكل شديد التعقيد، بذريعة أنها تحيل إلى عمليات ودينامية تاريخية معقدة بدورها، إلا أنها تفشل في النهاية في تقديم تصور واضح ومفهوم عما تصفه أو تشرحه، حيث تخفي اللغة المعقدة ضعف المحتوى الذي تقدمه. وهكذا سنقرأ مقاطع عديدة تخبرنا عن عدم قابلية التنبؤ والتفاعل والتقاطع والتداخل والدينامية وكلمات أخرى شبيهة، يضاف لها طبعاً إحالة منتظمة إلى أعمال فوكو وقضايا السلطة والمعرفة، دون أن تخبرنا في النهاية شيئًا مفهومًا وواضحًا بصدد الموضوع المفترض أنها تشرحه لنا. لهذا يقرأ المرء الصفحات الطوال ليخرج بفكرة يمكن شرحها بجملتين، وهو ما يظهر جليًا في القسمين الأولين من العمل والمخصصين لما قبل فترة الإمبراطوريات النارية المبكرة (العثمانية والصفوية ومغل الهند).
الأمر الآخر يخص الترجمة العربية وهو عدم مراجعتها بشكل حقيقي، فالعديد من العبارات ليست مفهومة. طبعًا، يُقدر المرء أن لغة سلفاتوري ليست سهلة ويسيرة وهو يعتمد – كما يبدو – على الجمل الطويلة التي تتضمن بدورها جملًا ثانوية، مما يجعل مسألة ترجمتها عملًا مرهقًا. لكن هذا لا يبرر أن تكون الترجمة العربية غير مفهومة. على سبيل المثال هذه الجملة «ولكن حاملي السلطة والمعرفة هؤلاء، على الرغم من اهتمامهم برفاهية شعوبهم، أعطوا أفضلية متزايدة على صلاحيات بلاطهم المركزي؛ وهو تحول لم يجعل البعد المدني لتجليات المعرفة – السلطة في الفترات الوسطى خاضعًا؛ إذ فجأة وبصورة لا رجعة فيها بنمط حكم الأسرة المالكة المركزي الجديد» (ص٢٢٣). وهذا ما يجعل من قراءة الكتاب مسألة مرهقة – عدا القسم الثالث، وسنعود لهذا لاحقًا – إنْ للجهة أسلوب سلفاتوري ولغته المقعرة أو لجهة الترجمة العربية.
التاريخ المفقود في سوسيولوجيا الإسلام
أهم ما يغيب عن هذا العمل، فيما عدا القسم الثالث، هو المادة التاريخية التي يفترض بها أن تقدم نقاط ارتكاز للسوسيولوجيا المزمع تقديمها. فتصبح أطروحات الكتاب وتعليلاته غائمة ومبتسرة ومفرطة في شكلانيتها وحتى أحيانًا متناقضة.
فمثلاً، حين يتناول العمل العلاقة بين الصوفية والعلماء (الفقهاء)، فإنه يفعل هذا في صفحات قليلة تغطي مدى تاريخي وجغرافي واسع، وفي النهاية لا يفهم المرء تمامًا ماهية هذه العلاقة، هل هي تقارب أم تكامل أم عداء؟ حتى عند الحديث عن الدور المحوري الذي لعبته الأخويات الصوفية في انتشار الإسلام وتوسعه، تراه يقفز في فقرات قليلة بين السهروردي والطرق الصوفية العثمانية التي حملت على عاتقها تحقيق الفتوحات، أو ما بين أرثوذكسية الطرق الصوفية أو بدعيتها، شيعيتها أو سنيتها.
تأتي الأحكام والتعليلات غير مفهومة أو متسقة، وتعوزها المادة التاريخية التي عليها أن تشكل محتوى السوسيولوجيا. وهنا يُطرح السؤال حول فائدة سوسيولوجيا للإسلام فقيرة بالتاريخ إلى هذا القدر وشكلانية إلى هذه الدرجة. يختلف الحال تمامًا مع القسم الثالث والذي يعالج الفترة الممتدة من القرن السابع عشر وما بعد، وهو كما يبدو حقل اختصاص سلفاتوري. تصبح اللغة أوضح وأدق، والمادة التاريخية أغنى -لكن دون أن تكون كافية ووافية – مع العديد من الأمثلة المقارنة، الكتاب فعليًا هو القسم الثالث وبعض الشذرات والملاحظات المهمة الموزعة على القسمين الأولين.
يتحرك العمل على جبهتين تحكمان بنيته الداخلية. الجبهة الأولى في مواجهة المركزية الغربية القائمة على استثنائية الغرب من جهة ومعياريته في أي مقارنة تاريخية من جهة أخرى. وهنا يمثل ماكس فيبر، كشخص ومدرسة، الوجهة الأولى للنقد في هذا الإطار. فالغرب، بحسب المركزية الغربية، يمتاز ببنيته المؤسساتية وعقلانيته، اللتين تفسران ضمن نسق تاريخي غائي امتياز الغرب عن الآخرين ومنهم الإسلام. فكل محاولة لفهم الإسلام تنطلق من تصور الغرب عن نفسه، وعليه تصبح الأسئلة من نوع، لماذا لم ينجح الإسلام في تحقيق هذا أو ذاك؟ ما الذي يفسر غياب هذه الصفة أو الخاصية عن الإسلام؟ لماذا عجز الإسلام عن تطوير هذا الشيء؟ أي أن مقاربة للإسلام محكومة في النهاية بتصور معياري للغرب عن نفسه، ولا يمكن لها فهم الإسلام إلا بوصفه انحرافًا أو عجزًا في ضوء النسق المعياري الغربي.
هذا ما يرفضه سلفاتوري ويسعى في المقابل، وهنا الجبهة الثانية التي يدور حولها العمل، إلى تقديم سوسيولوجيا للإسلام مستقلة ومتحررة من الفرضيات الضمنية للمركزية الغربية وقادرة على تقديم فهم أفضل لتجربة الإسلام من جهة وتفكيك الفرضيات المركزية الغربية من جهة أخرى. والسؤال، الآن، هل نجح سلفاتوري حقاً في هذه المهمة التي تصدى لها؟
النقطة الأولى التي أود إلقاء بعض الضوء عليها تدور حول ما يمكن تسميته بالمقاربة الجوهرانية للإسلام، وهي مقاربة يرفضها سلفاتوري، ويبدو لي أن الرفض غير مؤسَس بشكل كافٍ ويبدو أقرب إلى الاندراج في مزاج ثقافي معادٍ للجوهرانية أكثر من كونه معللًا بأسباب واضحة. يمكن طرح السؤال بصيغة بسيطة: هل هناك إسلام؟ السؤال يحيل إلى مسألة الصفات الأساسية اللازمة لأي تصور عن الإسلام. الجوهراني سيقرر وجود صفات أساسية للإسلام، وبمعزل عن ماهية هذه الصفات التي قد تكون مثار اختلاف، وأن أي معتقد يجب أن يحققها ليكون إسلامًا. في المقابل من يرفض تصورًا جوهرانيًا عن الإسلام، ربما يفضل الحديث عن «إسلامات» عوضًا عن الإسلام.
إذا أتينا لسلفاتوري فهو يعارض مبدئيًا المقاربة الجوهرانية للإسلام، خاصة أن تحديد الصفات الضرورية للإسلام مسألة متعذرة بقدر ما هي مرتبطة بتصورات المركزية الغربية عن الإسلام. وفي هذا الإطار يُدخل سلفاتوري مفهوم «عالم الإسلام» مميزا إياه عن الإسلام وليعبر عن التجربة التاريخية والممتدة للإسلام في التاريخ. قد تبدو الأمور للآن جيدة، لكن: لماذا نتحدث عن «الإسلام» عندها؟ وهل هناك ما يجمع هذه المعمورة الإسلامية سوية؟ يرى سلفاتوري أن هناك ما يجمع هذه المعمورة، ويتمثل بوجود لغة أخلاقية كونية قدمها الإسلام لهذه المعمورة.
حسنًا، ما هي «الخصائص» المشتركة لهذه اللغة الكونية التي قدمها الإسلام؟ أليست هي نفسها «الصفات الجوهرية» اللازمة للحديث عن الإسلام وتعينه؟ هذه النقطة تبدو غير واضحة ومختلة في عرض سلفاتوري، من ناحية يرفض مقاربة جوهرية للإسلام، ومن ناحية ثانية يسعى إلى تقديم سوسيولوجيا للإسلام على امتداد جغرافي وتاريخي واسع متوحد من خلال لغة أخلاقية قدمها الإسلام. كيف لنا الجمع بين هذين الموقفين سوية؟ ليس واضحًا، ويبدو أن سلفاتوري ليس معاديًا للجوهرانية كما يدعي، بل يتمحور خلافه حول الصفات الضرورية للإسلام. أو أن هذه النقطة تحتاج لمراجعة وتوضيح أفضل لما يعتبره آلية توحيد «إسلامي» للمعمورة الإسلامية دون الوقوع في مقاربة جوهرانية.
السلطة والمعرفة في سوسيولوجيا الإسلام
يقوم النموذج التفسيري المقدم على معادلة السلطة – المعرفة وتجلياتها التاريخية وطريقة عملها، وأن الإسلام في إطار تجربته التاريخية قدم حلولًا مختلفة لهذه المعادلة عن تلك التي شهدناها في السياق الأوروبي.
لا تحيل السلطة أو المعرفة إلى جماعات أو مؤسسات، وإن تداخلتا معهما بأشكال كبيرة، بقدر ما تبدوان مفاهيم ناظمة للتركيب الاجتماعي. فالمعرفة يُعبر عنها من خلال الأخويات الصوفية والفقهاء، وهؤلاء يقدمون معرفة تدور أساسًا حول الشرع. لكن هناك نوعًا آخر من المعرفة وهو الأدب، أدب البلاط والذي مارسه الكُتاب/البيروقراطية، المرتبط بالسلطات الحاكمة. لهذا يبدو أن السلطة والمعرفة لا تحيلان إلى «جماعات» مستقلة، بل إلى تموضعات داخل بنية المجتمع.
تمثلت المعرفة أساسًا في الفقهاء والطرق الصوفية وحازت في مواجهة السلطة على استقلال أوسع من نظيرتها الغربية، وهذا بفضل «الوقف» الذي يحوز، بحسب سلفاتوري، على بنية شبه مؤسساتية. وقد لعب الوقف دورًا حاسمًا في تحقيق وضمان الاستقلال الخاص بالمعرفة في الفترة اللاحقة على الخلافة، الفترة التي كانت حاسمة في تشكيل عالم الإسلام.
إلى جانب العلماء، لعبت الطرق الصوفية دورًا مركزيًا في نشر الإسلام، ونقل المعرفة وتشكيل لغة أخلاقية عامة ومشتركة للجميع، أسست للانتماء إلى عالم الإسلام. وقد سمحت هذه اللغة بدورها للأفراد بالتعاقد وإقامة الصفقات والالتزام بها، فشكلت بهذا الإطار المرجعي المشترك الذي يفهم الأفراد أنفسهم من خلاله ويملكون بفضله قيمًا مشتركة يستندون إليها في علاقتهم مع بعضهم البعض. بالإضافة إلى تقديم هذه اللغة المشتركة ونشرها، امتلكت الطرق الصوفية أيضًا قدرات عسكرية مهمة وأخويات سمحت لها بتكوين قوة عسكرية موازية لتلك التي امتلكها أهل السلطة (السيف)، يضاف إلى هذا وجود قادة كاريزميين (أي بنية شبه مؤسساتية).
كل هذا سمح بضمان وحفظ استقلال المعرفة وحامليها الاجتماعيين تجاه السلطة. فوجود شبكة مرنة من المؤسسات (أو بنية ما قبل مؤسساتية) ضمن تفوق المعرفة أمام السلطة التي امتازت بضعف مؤسساتها السياسية وسلطتها المركزية. فقد استند استقلال القضاء،مثلًا، على وجود لغة معيارية يمثلها الشرع في مواجهة السلطة السياسية. الفقهاء بلغتهم المعيارية ووقفهم، والطرق الصوفية بلغتها الأخلاقية العمومية والمستندة بشكل أو بآخر إلى اللغة المعيارية الخاصة بالفقهاء، وبروابطها وتجربة الانتماء المشترك وقدراتها العسكرية شكلا قطب المعرفة في معادلة السلطة – المعرفة.
في المقابل قُدمت السلطة، لدى سلفاتوري، من خلال فكرة العصبية لابن خلدون، السلطة بوصفها سيفًا وعصبية. فبحسب نموذج ابن خلدون، انطلقت السلطة القائمة على العصبية من الصحراء عمومًا، حيث تمتع البدو بعصبية قوية وشكيمة قتالية بالإضافة إلى الاستقلال الكبير تجاه المدينة والسلطة الحاضرة فيها. إلى جوار السلطة وبشكل مرتبط بها وجد نوع آخر من المعرفة وهو الأدب، وسلفاتوري يستند هنا على أعمال نوربرت إلياس حول دور أدب البلاط وإشعاعه في تمدين المجتمع في التجربة الأوروبية بوصفه نموذجًا تفسيريًا يمكن أيضًا استخدامه لعالم الإسلام. لعبت المعرفة المرتبطة بالسلطة (الأدب) دورًا مهمًا إلى جانب المعرفة الشرعية والمستقلة عن السلطة في عملية تمدين العالم الإسلامي.
إن ما امتاز به الإسلام هو وجود شبكات من المؤسسات المرنة، شبه المؤسسية أو ما قبل المؤسسية، حفظت وضمنت استمرار قطب المعرفة في مواجهة قطب السلطة. وهذه بدورها شكلت الميزات الخاصة بالمدنية الإسلامية مقارنة مع نظيرتها الغربية. ففي حين تمتعت المدينة الغربية باستقلال مؤسساتي لم يكن موجودًا لدى مثيلتها الإسلامية، فإن الأخيرة استندت بالمقابل إلى وجود لغة معيارية ذات امتداد جغرافي هائل وانتماء إلى«الأمة الإسلامية»، مع ما يفرضه هذا الانتماء من حقوق وواجبات، لتحظى بحصانة واسعة أمام السلطة. كذلك اختلفت المدنية الإسلامية عن الغربية في نموذجها الأخلاقي، ففي حين انطلقت المدينة الغربية على أساس من نموذج تطهري وبروجوازي لاحق، فإن المدينة الإسلامية قامت على نموذج مستند إلى متسامح ويفضل الانتماء إلى الجماعة ومعزز بفضائل أخلاقية.
مع التحديث، وقد بدأ قبل الفترة الكولونيالية، سيحصل تحول في التوازن الذي حكم العلاقة بين السلطة والمعرفة لصالح الأولى وعلى مستويات مختلفة. فالسلطة راكمت وبشكل مستمر سلطات متزايدة، والمدينة قويت بشكل أكبر على حساب الريف والصحراء. فأصبحت المعرفة وبشكل متزايد ذات طبيعة مؤسساتية، مؤسسة شيخ الإسلام مثلًا، مما سهل على السلطة مواجهة قطب المعرفة، بعد أن تخلت الأخيرة وبشكل متزايد عن شبكاتها المرنة شبه المؤسساتية. كذلك تم ترويض البدو المحاربين وإلحاقهم بشكل متزايد بالبلاط وتأديبهم بآدابه. كذلك كان الحال مع الطرق الصوفية التي طورت بدورها أشكالًا جديدة من الانضباط الذاتي.
عبّرت الفترة الحديثة ما قبل الكولونيالية عن توجه متزايد نحو المركزة وتطوير مؤسسات أقوى وأكثر مركزية، مما سمح بتحول في ميزان القوة باتجاه السلطة في معادلة السلطة – المعرفة. هذا التحول في ميزان القوة لمصلحة السلطة ازداد بشكل كبير خلال مواجهة القوى الاستعمارية ولاحقًا في الفترة الكولونيالية نفسها. فازدادت قوة الدولة بشكل كبير، والتي نجحت بإدماج العلماء داخل الإدارة المركزية للدولة كما في الحالة العثمانية. حتى اللغة التي استندت إليها أفكار الإصلاح ظهرت مع العاملين في مكاتب الترجمة وعكست بدورها المفاهيم الأوروبية حول العالم والمجتمع. وهذا ما عبر عنه صعود ثقافة الطبقة الوسطى القائمة على الروح الفردية والمسؤولية الشخصية والحقوق الفردية.
هل قدّم سلفاتوري سوسيولوجيا أم غير ذلك؟
هذا كان محاولة، وبحسب فهمي، لتقديم الأفكار الأساسية والإطار التفسيري الذي قدمه سلفاتوري لسوسيولوجيا الإسلام، ونعود للسؤال الذي بدأنا منه، هل نجح في هذا؟
برغم أن هدف سلفاتوري تقديم سوسيولوجيا للإسلام، فإن ما يغيب عن عمله هو البعد السوسيولوجي نفسه. فسلفاتوري ينطلق من معادلة سلطة – معرفة لفهم المعمورة الإسلامية، وباستعارة لغة ماركسية يمكن القول، إن سلفاتوري يقلب الطاولة رأسًا على عقب فهو ينطلق من جزء من البنية الفوقية (السلطة والمعرفة) ليشرح لنا المجتمع وتحولاته.
بالمقابل فإن مصداق المعرفة لدى سلفاتوري شديد التقييد، فلا يشمل الفلاسفة ولا العلماء الطبيعيين، بل يقتصر تمامًا على الصوفية والفقهاء. لن تجد لدى سلفاتوري معلومات حول التطور العلمي والتقني في المعمورة الإسلامية، لن تجد معلومات عن تطور الديمغرافي في البلاد الإسلامية أو التجارة وتحولاتها أو قوانين الملكية، وإن ظهرت فلن تزيد على إحالات بسيطة وهامشية تقريبًا. وهذا بدوره يجعل من مقاربة سلفاتوري مقاربة وصفية وليس تفسيرية، تكتفي بوصف تحولات العلاقة بين السلطة والمعرفة. فمع غياب مادة تاريخية ومعلومات سوسيولوجية يصبح من الصعب تقديم تفسير لتحولات هذه العلاقة.
لا يمكن في هذا السياق إلا مقارنة الكتاب بالدراسات الإسلامية التي أنتجها ماركسيون قبل عقود، مثل حسين مروة وطيب تيزيني ومحمود إسماعيل وأحمد صادق سعد. فرغم أيديولوجيتها الصارخة، كانت تلك الأدبيات غنية بالمادة التاريخية والاجتماعية التي حاولت تفسيرها والاستناد عليها في تقديم نماذجها التفسيرية. في المقابل يُقدم هذا العمل، مثل مجمل أعمال النظرية الحديثة، تنظير هائل ومحتوى فقير إلى حد كبير.
في مسعى سلفاتوري لمواجهة المركزية الغربية وتفكيك فرضياتها فإنه يعمد إلى إظهار أن ما يميز الغرب، بحسب المركزية الغربية، لم يكن غائبًا عن عالم الإسلام. فهناك قانون وهناك مؤسسة وهناك عقلانية وهلم جرا، لكن كل هذا يعتمد على إعادة تعريف المؤسسة والقانون والعقلانية بطريقة «أخف» بما يسمح باكتشافها لدى الآخرين.
لا يعني هذا أن هناك تعريفًا خاطئًا أو صحيحًا، إنما التنبيه على أن تحريك الخط الفاصل قد لا يفيد تمامًا في فهم الفروق، خاصة حين نستخدم معاني شديدة السعة. فالقانون لدى سلفاتوري يحيل تقريبًا إلى مجرد قواعد، بما يسمح له اعتماد الشريعة بوصفها قانونًا لا يفرق عن القوانين الأخرى، الأوروبية عمليًا. ونفس الشيء مع البرجوازي وإشكالية التنوير التي يعالجها في بداية الكتاب، فهو في النهاية يفهم البرجوزاي بوصفه شخصًا يتمتع بأملاك وثقافة، دون اعتبار جدي لفكرة الفرد الحر المستقل. مما يجعل المحاججة ضد الافتراضات البرجوازية والتنويرية مسألة سهلة.
يبدو أن هذه الاستراتيجية عامة لدى قطاع واسع من مناهضين المركزية الغربية، فمثلًا جاك غودي في «التاريخ المسروق» يقدم حجاجًا ممتازًا ضد مجمل النظريات التي تستبطن مركزية غربية في شرح سبب تفوق أوروبا، مثل القانون والعقلانية والمؤسسة والمدينة المستقلة والنظام المالي ليرى أن كل هذه الخصائص كانت ولحد بعيد مشتركة بين الحضارت الأوراسية. لكن هذه المحاججة استندت على استخدام معان واسعة للقانون والعقلانية والنظام المالي.
يضاف إلى هذا، وربما أيضًا في مواجهة فرضيات المركزية الغربية، تبني تصور وردي عن السلطة في الإسلام عمومًا، والتي تصبح بحسب سلفاتوري مهمومة برفاه شعبها، طبعًا بعد اهتمامها الأساسي بحفظ سلطتها. وهكذا تغيب الصراعات الداخلية والنزاعات عن عالم الإسلام بطريقة غريبة تمامًا، ولا تحضر إلا في سياق عملية التحديث التي ارتبطت بالفترة الكولونيالية، وكأنها أثر لهذا التحديث القسري والغربي، وتصبح الصورة الوردية مقلوبة. يصبح الفلاحون المصريون، مثلاً، موضوعًا للضبط والتحكم من قبل النخبة والبيروقراطية. غير أن هذا التصور يُقدم، أيضًا، دون معلومات سوسيولوجية حول حياة الفلاحين وتطور الإنتاجية وقوانين الملكية. يغيب الفلاحون كبشر لهم حياة يجب وصفها ولا يحضرون في هذه السوسيولوجيا ولا تتم الإشارة إليهم إلا كموضوع للسلطة والضبط. يبدو أن الأعمال المهجوسة بكشف السلطة هي في نفس الوقت أعمال مأسورة تمامًا في غلال السلطة.
لا أعتقد أن العمل نجح في تقديم ما يمكن اعتباره سوسيولوجيا الإسلام، فالسوسيولوجيا كما التاريخ غابا عنها. كما أن النموذج التحليلي المقدم كان أسيرًا لمركزية جانب ضيق من البنية الاجتماعية وهو معادلة السلطة – المعرفة، المفهومة بدورها بشكل ضيق سلفًا، حيث تتركز المعرفة حول عالم الشريعة والفقه. كذلك فإن هاجس مواجهة المركزية الغربية الذي حكم هذه السوسيولوجيا فرض تبني خيارات وتصورات غير مبررة إلا بهذه المواجهة.