دراسة جديدة: حالتك الاقتصادية تؤثر على وظائفك العقلية
مقولة قرأتها ذات مرة، لا أدري من قائلها -وفي الحقيقة لا أتذكر نصّها- لكني أحفظ معناها هذا، وأؤمن بها جيدًا. فبيئة الشخص يمكن أن تؤثر سلبًا على صحته العقلية والإبداعية، خاصة إذا كانت البيئة التي نتحدث عنها تفتقر لأبسط مقومات الحياة. وما يحدد طبيعة هذه البيئة، هي الحالة الاجتماعية والاقتصادية فيها.
فهل للحالة الاجتماعية والاقتصادية علاقة بتطور وطريقة عمل أدمغتنا في مختلف فترات عُمرنا؟ هذا السؤال الكبير، وهنا نعرض ما قد يكون الإجابة!
ننشأ جميعًا في بيئاتٍ مختلفة، في عوائل يتراوح مستواها المعيشي بين الغِنى والتوسط والفقر. هذا الاختلاف يعبر عنه بـ«الحالة الاجتماعية الاقتصادية – Socioeconomic status» للفرد، أو اختصارًا (SES)، وهو سِمة مركزية في البيئة المحيطة به، وقد يكون مرتبطًا ببنية وتنظيم الشبكة الوظيفية للدماغ عبر فترات مختلفة من حياته، خاصة في المراحل المبكرة في الطفولة.
الحالة الاجتماعية الاقتصادية هي بناء متعدد الأوجه يتم تحديده من خلال عدة عوامل. تتضمن هذه العوامل التحصيل العلمي للفرد، الوظيفة التي يعمل بها، كما يلعب مقياس الحالة الاجتماعية الاقتصادية دورًا بارزًا في تشكيل بيئة الفرد المحيطة. هذه البيئة تتشكل من خلال تحديد الغايات التي يريدها الفرد، على سبيل المثال سعيه في الحصول على الرعاية الصحية، الغذاء، والإثراء.
وحتى يتمكن الشخص من تحقيق هذه الغايات، عليه أن يتمتع بصحة بدنية وعقلية جيدة، ونمو عصبي سليم، وقدرة معرفية. كما يمكن أن يشمل الوضع الاجتماعي الاقتصادي أيضًا بعض الفرص والامتيازات الممنوحة للأفراد داخل مجتمعاتهم.
الفقر على سبيل المثال ليس عاملًا منفردًا، وإنما مؤثر مباشر على الفرد. فالذي يعيش في مجتمعٍ فقير، يحاط بالعديد من عوامل مثبطة، مثل الإجهاد البدني والنفسي والاجتماعي في سبيله للبحث عن مقومات الحياة الأساسية. بالتالي فقد يتأثر دماغه سلبيًّا وسط هذا كله!
هكذا تتأثر أدمغتنا
نأتي هنا للإجابة على السؤال الكبير في البداية، فقد نشرت في الأكاديمية الوطنية للعلوم دراسة تمت على 304 أشخاص بالغين، تتراوح أعمارهم بين (20 – 89) عامًا، حيث تعتبر هذه الفترة الزمنية حساسة للتغيرات التي تطرأ على تشكيل الدماغ ووظيفته. تضمنت الدراسة أشخاصًا من أصحاب المؤهلات الدراسية ما قبل الجامعة، أو المتوسطة، لمعرفة حقيقة العلاقة بين عملية تشكيل وتطور ونضج الدماغ بالحالة الاجتماعية الاقتصادية.
كان الباحثون ينقبّون في دراستهم عن أمرين: التغيّر في سماكة القشرة المخيّة في الدماغ، وكيف يبدو شكل الشبكات الوظيفية فيه. أظهرت النتائج أن الحالة الاجتماعية الاقتصادية المنخفضة للأفراد في فترة الطفولة والمراهقة؛ يؤثر بشكلٍ سلبي على نموهم العصبي.
يقول الدكتور «جاجان ويج – Gagan Wig» الأستاذ المساعد في كلية العلوم السلوكية والدماغية في جامعة تكساس والمشارك في الدراسة:
في البالغين متوسط أعمارهم (35-64 سنة)، أظهرت الدراسة أن الأفراد أصحاب الحالة الاجتماعية والاقتصادية المنخفضة لديهم عدم تنظيم في الشبكات الوظيفية في الدماغ، وانخفاض سماكة القشرة المخية المسئولة عن الحواس، والحركة، ومراكز التفكير والإبداع، والذاكرة والعواطف، مقارنة بأولئك الذين لديهم مستوى اجتماعي اقتصادي عالٍ.
فهؤلاء البالغون أصحاب المكانة الاجتماعية الاقتصادية العليا، لديهم قشرة مخيّة سميكة، و«انفصال – segregation» في شبكات الدماغ. يعني ذلك تمتعهم بذاكرة أفضل، ولديهم فرصة أكبر في الحماية ضد الخرف، وأي علامات أخرى لشيخوخة الدماغ.
استنتاجات
الأكيد -وفقًا للدراسة- أن مقياس الحالة الاجتماعية والاقتصادية في مرحلة الطفولة ليس له علاقة بتنظيم شبكة الدماغ. فقط توفر الملاحظات في هذه المرحلة دعمًا للعلاقة بين البيئة والدماغ في مرحلة البلوغ. مما سبق، نستنتج أن صحة دماغ الفرد سواءً نشأ في بيئة فقيرة أو غنية، تتعلق بنمط حياته في مرحلة البلوغ بصورةٍ أكبر.
فالشباب يتمتعون بعلاقة خاصة بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية والدماغ. هناك اختلافات غير مستقرة تستمر بمرور الوقت بسبب أن الدماغ في الشخص البالغ يكون في حالة تغير مستمر. كما يعتبر الدماغ حساسًا للعوامل الاجتماعية والاقتصادية بشكلٍ أكبر من دماغ الشخص في مرحلة الطفولة والشيخوخة. فضلًا عن أنه مرتبط بتغيير أو تحديد نمط الحياة، أو الاهتمام بالصحة البدنية، القدرة المعرفية، والتركيبة السكانية أيضًا التي تلعب دورًا مهمًا في حياة الأفراد.
أما كبار السن فلهم شأن خاص. وجدت الدراسة أن العلاقة بين الحالة الاجتماعية الاقتصادية وبنية الدماغ والصحة ترتبط باختلاف بنية الدماغ الكلية مع تقدم العمر، وحدوث الخرف. لذا فإن أسلوب الحياة مثل ممارسة التمارين الرياضية، والتحفيز البيئي المحيطي، مثل التواصل وتغيير نمط الحياة اليومية، يمكن أن يحافظ -أو حتى يعزز- على جوانب مختلفة من بنية الدماغ ووظيفته على مدى سنين الشيخوخة.
مميزات أخرى
قد تكون الحالة الاجتماعية الاقتصادية عامل حماية أيضًا، فيمكن أن تؤخر أو تقلل عملية تغير أو تدهور الدماغ نتيجة تغيّرها في الفئة العُمرية بين (16 – 23). هذه النتائج تعطي دليلاً على أن مقياس (SES) يتعلق بتشريح وتنظيم الشبكة الوظيفية للدماغ لدى البالغين في فترة منتصف العمر. أيضًا ارتفاع هذا المقياس (أي تحسين مستوى البيئة المحيطة) قد يكون عاملاً وقائيًا ضد تراجع عمل الدماغ المرتبط بتقدم العمر.
أشارت دراسات سابقة أيضًا إلى أن انخفاض المستوى الاجتماعي والاقتصادي يمكن أن يؤثر على طريقة التفكير. دراسة في مجلة ساينس في عام 2013 وجدت أن الوظيفة الإدراكية للشخص تتضاءل بسبب أنها تستنفد في أمور مشتتة للذهن. على سبيل المثال، الجهد المستمر والمستهلك للتغلب على امتلاك الفرد للقليل من المال، مقابل مسئوليته في تحمل مسئوليات أخرى مثل دفع الفواتير، وخفض تكاليف المعيشة اليومية… إلخ.
كما وجدت دراسة أخرى في العام الماضي نتائج أكثر تدعيمًا. تفيد هذه الدراسة بأن الأشخاص الفقراء كان أداؤهم سيئًا في اختبارات الذاكرة الشفهية، والأداء التنفيذي، بخلاف الأشخاص العاديين أصحاب الحالة الاجتماعية والاقتصادية المتوسطة.
أخيرًا، هذا يعني أن على الفرد أن ينظر للأمام، وأن ينسى مأساة نشأته إذا نشأ في بيئة فقيرة. فقط عليه أن يستثمر فترة بلوغه وشبابه في البحث عن المزيد من العوامل التي تعزز حالته الإدراكية/المعرفية. يتطلب هذا البحث عن فرص أفضل لتحسين وضعه المعيشي، ليس ترفًا، وإنما مستوى اجتماعي واقتصادي يحميه من التفكير طوال الليل حول الأمور المالية!