المجتمع وأيديولوجيا القمع: العثمانية تهزم الكمالية
التجربة السياسية للإسلاميين في تركيا جديرة بالاهتمام والتفهم، وقد كنت لمحت إلى ذلك كثيرًا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وأنجزت رسالتي للدكتوراه عن «الإسلام والأحزاب السياسية في تركيا: دراسة حالة لحزب الرفاه 1983-1997»، وتمّ طبع خلاصتها في كتاب طُبع مرتين، الأولى عام 2009، والثانية 2010، بعنوان «الدين والدولة في تركيا المعاصرة: صراع الإسلام والعلمانية».
وبرغم تحفظاتي على ما يمكن اعتباره نزوعًا سلطويًا لرئيس الدولة الآن، الذي حوّل نظامها المستقر من برلماني إلى رئاسي فيما يشبه العودة لمفهوم «الباديشاه العثماني»، حيث جوهر السلطة يتمركز عنده كقطب حاكم، بينما تدور المؤسسات الأخرى كأفلاك في مساره؛ بيْد أن الحالة السياسية التركية تحتاج منا إلى فهم أعمق وأفضل.
نحن نسمع ونقرأ عما يطلق عليه «العثمانية الجديدة» كمظلّة للسياسة الخارجية من ناحية، والحضور المرجعي للسياسة في الداخل من ناحية أخرى. وهذه العثمانية خبت ولكنها ظلت حاضرة لم تمت أبدًا، فمن يزُر إسطنبول يجدها متحفًا مفتوحًا للحضور العثماني، ليس فقط من خلال الرمز وإنما من خلال الحضور الحي ممثلًا في المساجد الكبرى.
فحين زرت مسجد السلطان محمد الفاتح (أبو الفتوح) (1429-1481) الذي فتح القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية في 29 مايو/ آيار 1453، وسماها «إسلام بول» أي «دار الإسلام» وعاصمته، وجدت قبره خارج المسجد ورأسه ملفوفًا بعمامة خضراء وكأنه لا يزال حيًا بعدُ لم يمت. والناس يزورون القبر ويطوفون به وكأنه ولي وليس حاكمًا فقط.
وفي السليمانية تجد مسجد السلطان سليمان القانوني (1494-1566) الهائل الكبير، وقد وضع أسسه المعمارية سنان باشا، أشهر معماري عثماني في القرن السادس عشر الميلادي، وإلى جواره مكتبة السليمانية الهائلة. وهناك عالم كامل حول المسجد تشتمّ فيه رائحة واضع القوانين نامه العثمانية في الإدارة والتنظيم والسياسة والحكم.
وهناك «المسجد الأزرق» الذي بناه السلطان أحمد (1590-1617)، وهو مواجه لجامع آيا صوفيا الذي كان الكنيسة الأهم للإمبراطورية البيزنطية، ومن ثم فإن بُناته أرادوا إظهار تفوقهم على العمارة البيزنطية الهائلة التي استلهموا كثيرًا من طرائقها وفنونها. ومسجد آيا صوفيا لا يُصلّى فيه، وإنما هو متحف يُزار وفق قواعد معاهدة لوزان التي تأسست تركيا الحديثة بناء عليها عام 1923، ونالت الاعتراف الدولي بها. وهذه المعاهدة تعكس الحساسية البالغة لدى الأتراك فيما يتعلق بحدود الدولة، حيث اعتبر بعض الأتراك أن المعاهدة فرّطت في ممتلكات عثمانية كثيرة لصالح دول الجوار، خاصة اليونان، وتشير بعض المصادر إلى أن تعميد تركيا كدولة علمانية قومية وتخليها عن الخلافة كان جزءًا من تلك الاتفاقية.
وتتحدث مصادر تركية عديدة وفاعلون هناك ممن التقيناهم وتحاورنا معهم، أن كمال أتاتورك (1881-1938) – وهذا ليس اسم أبيه وإنما اسم اختاره لنفسه يعني «أبو الأتراك» – فرض على كل مواطن أن يختار لنفسه لقبًا تركيًا خالصًا غير اسم أبيه وأسرته. أما أبوه الحقيقي فاسمه علي رضا أفندي؛ الرجل (أتاتورك) لم يُطق البقاء في إسطنبول عاصمة العثمانيين، فاتخذ للجمهورية الجديدة مدينة أصبحت عاصمة البلاد عام 1932، هي أنقرة، وقد كانت منطقة يغلب عليها الزراعة وقلة السكان قبل أن تصبح مصدرًا جاذبًا للعيش بسبب المشاريع والتصنيع وخطوط المواصلات حتى أصبحت ثاني أكبر المدن أهمية وازدحامًا بعد إسطنبول، ويبلغ عدد سكانها أكثر من خمسة ملايين نسمة.
المثير أن المواطنين الأتراك بعد إعلان الجمهورية وسقوط الخلافة العثمانية اعتبروا أن المؤسسات الجديدة للجمهورية هي استمرار للمؤسسات العثمانية رغم محاولة القطع الهائلة والانقلاب الكبير الذي أحدثه كمال أتاتورك في الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد بلغ قمته بتغيير الحروف العثمانية إلى اللاتينية وتخليص اللغة العثمانية من كل الحروف العربية، وتأسيس مجمع للغة الجديدة عملُه بناء لغة تركية صافية وخالصة من كل المؤثرات الخارجية خاصة اللغة العربية، لغة القرآن الكريم.
والمعلوم أن الثقافة التركية هي فرع قائم على الثقافة العربية والفارسية، ولم تستقل بذاتها إلا مع القرن الرابع عشر الميلادي. ومن المعلوم أيضًا لدى الباحثين أن ثلث اللغة التركية ينتمي إلى اللغة العربية، بل إن أتاتورك حين أراد أن يعلن التخلص من اللغة العربية فقد تكلم بها لعمق وجودها وتلاحمها مع اللغة العثمانية.
وينظر الأتراك إلى اللغة العثمانية باعتبارها لغة القرآن، وهناك جيل جديد من الشباب في تركيا يُقبل على تعلم اللغة العثمانية التي أصبحت لغة إجبارية على طلاب الأئمة والخطباء وطلاب العلوم الاجتماعية، بينما هي لغة اختيارية للتخصصات الأخرى. وصدرت منذ عام 2013 «مجلة ثقافة وتعليم اللغة العثمانية». ومؤخرًا، صدرت أول جريدة باللغة العثمانية واسمها «حادثة»، تصدر من مدينة بورصة، واستطاعت الوصول إلى ثماني عشرة مدينة عثمانية، ولها إصدار إلكتروني لما أُطلق عليه «الدياسبورا التركية» خارج البلاد، خاصة في ألمانيا التي يوجد بها أكبر عدد من الأتراك في الخارج، وبريطانيا.
أصدر أتاتورك مرسومًا ناجزًا بطرد الخليفة العثماني الأخير عبد المجيد الثاني وسحب الجنسية منه، وطرد كل الأمراء والأميرات العثمانيين إلى الخارج وسحب الجنسية منهم أيضًا؛ بيد أن الحضور العثماني ظلّ قويًا في البنى الاجتماعية وفي تلافيف المجتمع وفي عمق المجتمع التركي الأصيل بمنطقة الأناضول الهائلة التي احتفظت صامتة بروح العثمانيين، وهي تغالب أشواقها إليهم مبدية انصرافها عما يجري في المدن الكبري من استلهام الطرائق الغربية في الكتابة والملبس والدساتير والقوانين والعمران؛ فقد كان أتاتورك، «المعلم الكبير» كما كان يطلق عليه، يرى أن دواء الشرق العثماني هو التخلص من كل مواريثه وقيمه وتركته كلها، بما في ذلك الإسلام نفسه والطرق الصوفية والشريعة الإسلامية والعمامة والمدارس الإسلامية والمساجد والآذان، ونصب صورته في كل مكان وتماثيله الصنمية في كل ميدان، تشير ناحية الغرب باعتباره دواء لما ظنه داء للشرق.
بيد أن المجتمع والناس والطرق الصوفية والأجيال الجديدة كان لها كلام مختلف، ولها تحديها الصامت، ولها حفظها لما تراه أمانة تسلمتها من سابقيهم يجب الحفاظ عليها وحمايتها. وهكذا عبرة وعظة العلاقة بين الدول والمجتمعات؛ فالحكام المتسلطون الذين يريدون قسر مجتمعاتهم وكسرها وفرض أيديولوجيات مستوردة مهزومة عليهم، قد يتطاولون في البنيان حينًا، بينما بنيانهم لا يلبث أن يتهاوى تحت إصرار المجتمعات على أن تبقى موصولة قابضة على جذورها وأصولها.