الماركسية والدين: بحث العلاقة بين الاشتراكية والكنيسة
تبدأ «روزا لوكسمبرغ» كراسها «الكنيسة والاشتراكية» بعرض موقف الاشتراكيين الديمقراطيين من الدين فتقول:
في الحين نفسه تحاول تفكيك الرؤية المضادة -موقف الكنيسة من الاشتراكية- وتبدأ في بيان مواقع الارتباط بين المسيحية والاشتراكية، ونقد الخلافات المزعومة بين الرؤيتين. حيث تقول:
كذلك أوضحت تقارب الظروف السائدة بين نشأة المسيحية في روما وميلاد الثورة في روسيا:
كما حاولت الوصول إلى إجابات متوازنة ومعقولة من خلال طرح الإشكالية وما تثيره من تساؤلات: ما السبب أن الطبقة العاملة في سياق سعيها نحو التحرر لا تجد في خدم الكنيسة أصدقاء بل أعداء؟ وما السبب أن الكنيسة اليوم ليست ملاذًا للمُستغَلين والمضطهدين، بل حصنًا وملجأً للثروة والاستغلال الدموي؟
الجماعات المسيحية الأولى
كانت طبقة العبيد في فترة انهيار الإمبراطورية الرومانية تُعاني تحت سلطة الأغنياء والدولة، كانوا بعيدين كل البعد عن المجتمع، في عزلة يائسة لا تُمكنهم من رؤية الخلاص على الأرض. لذلك تطلع البائسون إلى السماء ليبحثوا عن الأمل المفقود، ونظروا إلى المسيحية على أنها ديانة الفقراء والمحتقرين، وأصبحت المسيحية منذ اللحظة الأولى ديانة الطبقة الرومانية الكادحة.
تمسّك المسيحيون الأوائل بمبدأ الملكية العامة، فالجميع يملكون معًا كإخوة، ويتشاركون الثروة بعدل ومساواة.
وتستشهد «روزا لوكسمبرغ» بوصف المؤرخ الألماني «فوجل» لأحوال الجماعات المسيحية الأوائل:
جاء في الإنجيل أن حنانيا وسفيره اللذين حاولا أن يحتفظا ببعض من نقودهما خفية عن المجمع، قد جُوزيا على هذا الانتهاك بالموت بتدخل إلهي. كما نقرأ في سفر أعمال الرسل– الإصحاح الرابع– وصفًا دقيقًا عن مشاعية المسيحية الأولى:
الشيوعية بين المسيحية الأولى والماركسية
إن الفارق الذي تُوضِّحه الكاتبة بين مشاعية المسيحيين الأوائل وشيوعية الاشتراكيين الديمقراطيين، هو السبب الرئيسي في تدهور أحوال الجماعات المسيحية الأولى. حيث تُفسِّر ذلك الاختلاف بإيضاح مفهوم «المشاعية» عند المسيحيين وبالإشارة إلى عجز ذلك المفهوم وما يطرحه من رؤى اشتراكية غير ناضجة البناء. فقد جاءت دعوة المسيحية للأغنياء بأن يشاركوا الفقراء ثرواتهم، ولم يشغل المسيحيون المشاعيون السؤال حول مصدر هذه الثروات.
بينما تمثّل المطلب الأهم للاشتراكيين الديمقراطيين في عودة الأدوات ووسائل الإنتاج إلى الجميع بشكل مشاعي ليستطيع الكل العيش من عمل أيديهم. لأنه إذا امتلك الأغنياء فقط وسائل العمل سوف يستمر تدفق الثروات المكتسبة من خلال العمل إلى قلة من المالكين، وفي حين لا تمتلك الطبقة الكادحة شيئًا يمكنها من العمل، تنتفي إمكانية إقامة المساواة بين الناس.
أراد المسيحيون الأوائل سد عجز الطبقة الكادحة الضخمة وغير العاملة من خلال اقتسام مستمر للثروات التي تُمنح من الأثرياء. واقتصر هدف المشاعية عندهم على استهلاك المنتجات الجاهزة، وتمثل مبدأ الملكية المشتركة حينها فيما يتعلق بوسائل الحياة (الطعام، المسكن، الملبس) لا بوسائل الإنتاج، وتوقفت مطالب الجماعة المسيحية على تسليم الأغنياء لثرواتهم عند اعتناق الديانة إلى الملكية العامة ليتقاسمها الجميع.
لم يكن الفقراء يعيشون من عملهم، بل كان جيش من المتسوّلين يحيا على صدقات الأغنياء، ولم تساعدهم مشاعية استهلاك المنتجات الجاهزة هذه- التي لا تقوم على مشاعية العمل- علي تحسين وضع المجتمع أو تغيير الظروف الواقعية، ولم تستطع الإبقاء على ذاتها طويلاً. لأن وسائل الإنتاج، والأرض بشكل أساسي، بقيت ملكية خاصة، ولأن العمل من أجل المجتمع ظل قائمًا على العبودية، استمر إذًا تدفق الثروات المكتسبة من خلال العمل إلى قلة من المالكين، في حين بقي الشعب مسلوبًا من المال اللازم للمعيشة.
طبقة رجال الدين: النشأة والتحول
بازدياد عدد المسيحيين عبر أرجاء الإمبراطورية كافة، أضحت حياة المؤمنين المشتركة أكثر صعوبة. ولم تعد كامل الملكية تُمنَح من أجل الاستهلاك المشترك من قبل المسيحيين، فالذي يُمنح من قبل الأثرياء للجماعة المسيحية لم يعد مشاركةً في الحياة المشاعية، بل كان إحسانًا وصدقةً. ومع انتشار الديانة المسيحية، نشأت طبقة من رجال الدين تختص بإدارة شئون الطائفة والكنيسة.
رصدت روزا نشأة طبقة رجال الدين في المجتمع المسيحي من خلال تحول إدارة شئون الطائفة لمنصب ديني يتطلب تفرغًا كاملاً لشئون الكنيسة، وذلك لقاء أجر يكفي معيشتهم.
هكذا نشأت طبقة موظفي الكنيسة، فقد بدأت الجماعات المُشتتة من المسيحيين بالاندماج والاتحاد في شكل كنيسة كبرى، وبدأ رجال الدين في الجماعات المتفرقة بعقد لقاءات منتظمة تُناقش خلالها مسائل الإيمان والعقيدة. وحين انعقاد المجتمع الكنسي الأول في نيقية عام 325م، كان قد اكتمل تشكل طبقة رجال الدين المنفصلة عن الشعب والجماهير المؤمنة، وتأسست هرمية رجال الدين التي انفصلت تدريجيًا عن الشعب، وترفّعت عنه أكثر فأكثر.
في ذات الوقت تغيّرت العلاقة الاقتصادية بين الشعب والكنيسة. فقد بدأ رجال الدين بجمع الثروات والاستحواذ عليها لأنفسهم، وفي حين كان يتم اعتبار كل شيء يقوم أعضاء الكنيسة الأغنياء بتقديمه قربانًا للطائفة اعتمادًا مالياً للشعب الفقير، بدأ تحويل جزء كبير من أجل تغطية أجور رجال الدين واحتياجات الكنيسة. وتحالف الكهنة مرة أخرى مع الطبقات الحاكمة والمالكة التي عاشت على استغلال عمل الشعب والسيطرة عليه.