كتاب «التخلف الاجتماعي»: سيكولوجية القهر في مجتمعاتنا
تُعرَف مجتمعاتنا العربية بأنها من بلدان العالم الثالث، أو «دول العالم المتخلف»، وقد برز هذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية، بعد نيل عدد من الدول استقلالها، وكثرت الكتابات عن هذا المصطلح ومحاولات تفسير واقعه وخصائصه منذ خمسينيات القرن الماضي، وإذ بسيل من الباحثين من ذوي التخصصات المختلفة يتعاطون هذه المسألة من جوانب متعددة، ويحاولون الوصول إلى نظرية تُفسِّر خصائص هذه المجتمعات، وكيف تلحق بركب الدول الصناعية المتقدمة.
يعرض «مصطفى حجازي»، في كتابه «التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور»، محاولة لفهم خصائص مجتمعاتنا والعوامل التي أدت إلى تخلفها، وسنعرض في هذه السطور تلخيصًا لما ورد في قسمه الأول «الملامح النفسية للوجود المتخلف».
الخصائص الذهنية والنفسية للعقلية المتخلفة
يكثر في هذه المجتمعات الكسل وقلة الإنتاج والعمل، وتعيش في جو عام من العشوائية والتخبط وانعدام التخطيط، كذلك تبرز مظاهر التأخر والجهل والمرض، ويغرق كثير منها في الخرافة وحتمية المصير البائس والتواكل، كذلك يزدري الإنسان في هذه المجتمعات ذاته ويبخسها ويتهرب من مواجهتها، وسنحاول فيما يلي عرض هذه الخصائص تفصيليًّا:
1. عقدة الشرف
يكون شعور الخوف هو الشعور المسيطر على حياة الفرد في هذه المجتمعات والمتحكم في قراراته، مثل الخوف من كلام الناس إذا فعل كذا أو كذا، والعار الذي سيلحق به، وأهمية جعل الرأس مرفوعة أمام الناس، والحديث عن الكرامة والشرف، وكأنه يعيش في حالة تأهب دومًا للثأر.
وتُمارس كل هذه المبالغة والإصرار نظرًا لأن كرامته تكون مُهددة في ظل ظروفه الاقتصادية التي تربّى عليها ونشأ فيها، ويزدري الإنسان المتخلف ذاته في قرارة نفسه، ويخجل منها ومن وضعها، وتُمثِّل مشاعر الدونية والموقف السلبي بشكل عام موقفه من الوجود، لذا يفسر ذلك حالة التأهب الشديد للحفاظ على كرامته، وذلك لأن الإنسان يمكن أن يعيش دون خبز، لكنه إن فقد كرامته وكبرياءه يفقد كيانه كإنسان ويكون عاريًا.
2. اضطراب الديمومة
عادةً ما يشعر الإنسان المقهور بالقلق والاضطراب إزاء مستقبله، إذ لا يكون حاضره منطويًا على أي بادرة أمل بالتغيير، ويكون غارقًا في مشاكل حاضره وماضيه محاولًا الهروب منها أو حلها، وبما أن حاضره ومستقبله يكونان مصدري التنغيص والتكدير، فهو عادةً يلجأ إلى الهروب للماضي باحثًا فيه عن أمجاد الأجداد وحضارتهم ويركن إلى شعور العزاء الذي غُمر به.
كذلك يكثر لدى هذه المجتمعات التمسك بفكرة وجود خلاص قريب، يكون وليد الصدفة أو العناية الإلهية، أو معجزة قريبة، وفكرة «المهدي المنتظر» الذي سيقلب الموازين والواقع المعاش إلى آخر أكثر رخاءً وسعادة.
وإذا لاحظت نوع الأغاني المنتشرة في هذه المجتمعات، ستجد أغلبها يتغنى بألمه ومشاكله وإحساسه بالضياع وتعرضه للخيانة وغيرها، وعذاب الشوق وآلامه، وما هذا إلا ستار يغطي به خيبته الكبرى في الحياة، فيُسقطها على علاقة عاطفية أليمة ويشكو منها في أغانيه، ويندر سماع أغانٍ حماسية أو تبعث على التفاؤل والأمل في ظل هذا البحر الهادر من التغني بالعذاب والألم.
3. التخبط والعشوائية
إن المجتمع المتخلف لا يعرف النظام، وهو يفتقر إليه في كافة أموره وفي حياته المعاشة، ولا يوجد هناك خطة ممنهجة أو طريق محدد يرنو إليه، وربما أقرب لفظ يصف هذه الحالة، هو «الفهلوة» أي الاعتماد على العشوائية والفوضى الفكرية حتى نصل إلى حل، دون معرفة المشكلة أو سبيل حلها.
واستشراء العشوائية في العقلية المتخلفة لا يقتصر على الأمور النظرية فقط، فالعمل المهني أيضًا لا يسلم من هذه العقلية؛ ومن أبسط وأكثر الأمثلة على هذا الأمر، هو العامل الذي يعتمد على المحاولة والخطأ عند إصلاح آلة مثًلا، فلا يقين له عن أصل العلة ومن ثَمَّ لا يعلم سبيلًا للحل، فإذا به -وبعشوائية بحتة- يذهب في كل اتجاه ويبحث كل السبل، وذلك بسبب قلة الكفاءة وادعاء الخبرة، واللذين يلجأ إليهما ليستطيع كسب قوته.
مثال آخر يصف حالة التخبط في هذه المجتمعات، وهو يخص شريحة طلاب العلم، وخاصةً طلاب الدراسات العليا، فنجد الطالب لا يعلم من أين يبدأ وماذا يفعل! ويصطدم بحائط من العجز والشلل العقلي، فلا يوجد طريق منهجي يتبعه أو يدله عليه أحد، فعلى الرغم من نجاحه وتفوقه في المناهج النظرية، فإنه يفتقر إلى أسس البحث العلمي السليم، ما يؤول به الأمر إلى ضعف الاستفادة من معلوماته الدراسية المتراكمة، مما يؤدي إلى حالة من الشعور باليأس والفشل تسيطر عليه.
ولا يقتصر الأمر فقط على الطالب، بل المدرس أيضًا، فكثير من الأساتذة الجامعيين حينما يؤلفون كتابًا علميًا أو دراسيًا، يفتقرون في تأليفه إلى الدقة والتنسيق، فتكون مؤلفاتهم أقرب إلى كلام عشوائي في ثوب يبدو عليه التنظيم، يذهب في كل حدب وصوب، ولا يقود إلى معلومات كاملة مفهومة للطالب.
4. العجز عن التحليل الشامل
تعد العقلية المتخلفة عقلية جامدة وآنية -أي تعيش في المكان والزمن الحاضر وتفتقر إلى التخطيط المستقبلي- وذلك بسبب قصور عمليات التحليل والاستنباط لديها، إذ يكون مستوى الملاحظة لديه مستوى بدائيًا وساذجًا، ومن ثَمَّ يظل على السطح ولا يغوص في تحليل التفاصيل المعاشة، لذا فإن مستوى التحليل لديه لا يرقى إلى استنتاجات ذات قيمة.
ويكون جزء كبير من نتائج تحاليله، هي نتائج مبنية على عوامل انفعالية وعاطفية، أي أنها عوامل متغيرة وهشة، لذا تكون عادة خاطئة وسطحية وغير مأخوذ بها، ورغم ذلك تكون في نظره نتائج نهائية قطعية غير قابلة للنقاش أو التفاوض.
ويؤدي عجزه عن التحليل الشامل وقصور التفكير النقدي لديه -عادةً- إلى طابع انعدام المثابرة، فيكون مُركِّزًا على أمر محدود زمانيًا ومكانيًا وينطلق في الأمر بحماس شديد، ثم سرعان ما ينتابه النفور من الأمر وفقدان الحماس، وتكون التزاماته كلها مُعرَّضة للنسف والهدم.
وكما ذكرنا سابقًا، فإن العقلية المتخلفة تعاني من اضطراب الديمومة والخوف من الغد، وهو ما يكون له دور في انعدام المثابرة لديه.
وقد نجد صعوبة في أن الشخص صاحب العقلية المتخلفة يكون باحثًا متخصصًا، إذ يتطلب هذا الأمر جهدًا دؤوبًا ومثابرة للتغلب على صعوبات البداية، ثم صبرًا شديدًا وعزمًا للتغلب على الملل والإخفاقات التي ستحدث له، لكن صاحب العقلية المتخلفة يعتريه –سريعًا- إحساس الملل والعجز والإخفاق، ويذهب للبحث عن مكان آخر يضمن له نجاحًا سريعًا مضمونًا.
5. الاستهتار والتهاون
يعد الاستهتار من أكثر ما يميز العقلية المتخلفة والبلدان النامية، وذلك بسبب انعدام القدرة على التنسيق لديه، وتهاونه في مسئولياته وما يقع على عاتقه، ويظهر ذلك جليًا في عدم التزامه بتعهداته، مثل تأخره عن مواعيده دائمًا، وعدم الالتزام بفعل واجباته أو مسئولياته تجاه الآخرين.
6. العجز عن التخطيط
تعيش الذهنية المتخلفة في جزء من الزمان والمكان، وتظل آفاق المستقبل لديه ضيقة ومحدودة جدًا، لذا نجد دول العالم النامي تفتقر إلى تخطيطات سليمة ومُتقنة، فتُوضع مشاريع كثيرة وتُصرف أموال طائلة عليها في لحظات حماسة مُفرطة، ثم تدخل بعدها في مآزق عديدة تخص هذه المشروعات، إذ لم تخضع هذه المشاريع لتخطيط شامل مُتقن منذ البداية.
7. الذهنية الانفعالية
يفتقر المجتمع المتخلف تمامًا إلى الحياد الانفعالي والعقلانية في مواجهة الأزمات، ويظل يرزح تحت عبء الانفعالات، ولا يتيسر لإنسان العالم المُتخَلف التوازن الضروري بين الانفعال والتعقّل، وذلك لأسباب عديدة منها إحساسه الدائم بالقهر وسيطرة مشاعر الدونية عليه، وفقدانه لمعنى الأمان، وفي ظل هذه المشاعر لا يتيسر للإنسان تحكيم العقل والمنطق، إذ إنها عوامل تُولِّد الشعور بالقلق والخوف الملازمين.
وتتجلى الذهنية الانفعالية في التحيز والقطعية اللتين تُسيطران على قراراته وأحكامه، فيميل دومًا إلى تصنيف الناس بشكل حاد، وكذلك اتباع الآراء الشائعة والتعصب الأعمى وإصدار الأحكام المتسرعة.
عوامل تخلف العقلية
بعد عرض سمات وخصائص العقلية المتخلفة، فلا بد من البحث في الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذه السمات وهذا الموقف العاجز التي تتسم به شعوب الدول النامية.
هناك تفسيرات قديمة تحيزية قد وضعها علماء الغرب، وهي بطبيعة الحال تفسيرات قد ظهرت لتُبرِّر استغلال هذه الشعوب واستعمارها.
ومن هذه التفسيرات، أن سكان هذه البلاد يتسمون بالقصور التطوري، أي أنهم بدائيون لم يتجاوزوا في سلم التطور المرتبة الحيوانية أو الطفلية، إذ تُسيطر عليهم نزواتهم وانفعالاتهم وغرائزهم، ويفتقرون إلى التفكير المنطقي الجدلي.
هناك أيضًا منْ أرجع الأمر إلى القصور العرقي، جاعلًا العقلانية والتطور والعمليات الذهنية العليا حكرًا على العرق الأوروبي الأبيض، وأن منْ نصيب الشرق الانفعال والاستكانة والتأخر. لكن هذه النظريات وغيرها كما ذكرنا نظريات تحيزية عنصرية تفتقر إلى الأسس النظرية والعلمية.
وهنا يمكن القول إن مفتاح فهم خصائص هذه المجتمعات تكمن في جوانب الحياة المعاشة لأفراده:
1. سياسة التعليم وتخلف الذهنية
لا شك أن تفشي الأمية والجهل في العالم النامي هو المسئول بالدرجة الأولى عن الذهنية المتخلفة التي تسيطر على هذه الدول؛ ولا شك أن الارتقاء العلمي والتعليمي يأخذ بيد الدول إلى مكانة أعلى ومرموقة، لكن حتى العقليات المتعلمة في هذه الدول لا تسلم من الخصائص الذهنية المتخلفة.
يبدو أن التعليم في هذه الدول، هو مظهر سطحي وقشرة خارجية رقيقة تنهار عند الأزمات، تخفي تحتها عقلية انفعالية متذبذبة وعاجزة ومضطربة، وأهم أسباب هذا العلم المزيف هو الأم.
لقد تربى هذا الطفل في صغره على يد أم جاهلة وخائفة ومقهورة ومغلوبة على أمرها، ولا غرابة في أن تنقل إليه ما تربت عليه وعاشت فيه، وليست الأم فقط هي منْ تبذر فيه هذه البذرة السوداء، إنما الإطار الاجتماعي العام الذي يعيش فيه هو منْ يقوده إلى هذا المصير.
ونادرًا ما يجيب هذا المحيط عن تساؤلاته أو يلبي احتياجاته الذهنية، إنما يتعامل معه بالترهيب والكذب حتى لا يتحملوا عناء الإيضاح له، وحتى يُداروا جهلهم وقلة حيلتهم، ومن الأساليب الشائعة هي ترهيبه بالدين، مثل عذاب النار والحساب العسير إن فعل كذا أو كذا، مما يُفجِّر لديه مشاعر خوف حقيقية تقمع طفولته وتكبتها.
وبدخوله المدرسة، يمنحه التعليم طرق التلقين والحفظ، ويحجب عنه أساليب المشاركة أو المناقشة أو الممارسة العملية، ولا يساعد هذا الطبع الجامد على اكتسابه مهارات التفكير النقدي الجدلي، ويظل يحفظ هكذا دون وعي أو إدراك.
وعادةً ما يُمارس هذه الطرق مُعلم، تحيطه هالة من القدسية والسلطة، فهو لا يُناقَش في خطئه، ولا يسمح بمقاطعته، وكل ما يفعله من قمع أو إساءة فهو من باب التعلم ولا حرج عليه، وما على الطفل سوى الطاعة العمياء، ما يُولّد داخله إحساس بالعجز والخوف يظل يرافقه باقي حياته، ما يجعله يفقد السيطرة على شئونه.
أمّا المواد الدراسية؛ فهي تظل غريبة عنه وفي منأى عن حياته المعاشة، وأغلبها مواد دراسية مستوردة من الخارج تضم نظريات وعلوم لا تمت لواقعه بصلة، خاصةً في مراحل تعليمه العليا، ويظل العلم مكتوبًا بلغة أجنبية منفصلًا عن لغته المعاشة، أي أنه يظل يعيش انفصامًا بين لغة العلم ولغة الحياة اليومية.
2. علاقات القهر والتسلط
منذ أن يُولد الإنسان في مجتمع متخلف الذهنية، يسبح في بحر من القهر والتسلط والتحكم، ويأخذ هذا الأمر مسميات عدة تبدو وكأنها أسس تربوية لازمة لتنشئته تنشئة قويمة صالحة، لكن في حقيقة الأمر ما هي إلا بذرة لتنشئة إنسان مُتخاذل وجبان ويعاني من شلل فكري.
يبدأ الأمر معه من البيت، فأمه التي تشرف على تربيته مثال صارخ على الاستلاب، إذ إنها ملكية عشائرية ولا كيان لها مستقل، ولا يحق لها النقاش أو التفكير أو التحليل، ويدفعها تعطيل قدراتها الذهنية إلى الاندفاع إلى العاطفة والانفعال والمعاناة وربما الإيمان بالخرافات، ومن ثَمَّ تفرض الأم هيمنة عاطفية شديدة على الأبناء، وتبدأ في غرس ما غُرس فيها قبلًا من التبعية والخوف والطاعة، وتملأ عالمهم بالخرافات وتشل لديهم القدرة على الفكر والإبداع.
ثم يأتي دور الأب، ومن خلال قانون الطاعة والتسلط يفرض سيطرته على الأسرة، ويُعرِّض الطفل لسيل من الأوامر والنواهي باسم التربية القويمة، وليس هناك مجال بالطبع للاعتراض أو النقاش أو الاستيضاح، وينمو الطفل في ظل جو من القهر والقمع الفكري، وربما يتعرّض أيضًا لإساءات جسدية عنيفة بهدف تقويمه وتربيته.