السوشيال ميديا بديلًا عن المسارح والمعارض
فيديو لولد صغير يرتدي ملابس منزلية يمسك بيديه دورقًا بلاستيكيًا ويجلس على كرسي في منزل عادي، يغني وهو ينظر لكاميرا موبايل ويدق على الدورق مجارياً إيقاع الأغنية، في خلفية الفيديو صوت امرأة تغني معه، وأكثر من فرد يصفقون، آخر فيديو لهذا الولد على الفيس بوك بلغ أكثر من ثلاثة آلاف مشاهدة في ساعات، الولد يغني بسلطنة حقيقية لدرجة أنه يقفز من على الكرسي في آخر مقطع في انتشاء حقيقي، المقطع كله لا يتعدى الأربعين ثانية، خلال هذه الأربعين ثانية الكثير جداً من الشغف والفن.
السوشيال ميديا أصبحت منبراً حقيقياً ومنفذاً لكل أنواع الفنون، هذا الولد الذي يغني بمصاحبة الدورق البلاستيكي ليس الوحيد، هناك غيره كثيرون في كل المجالات، الأمر لم يعد يقتصر على فيديو أربعين ثانية على كرسي خشبي، السوشيال ميديا أصبحت نافذة وخشبة مسرح يقف عليها كل من لديه موهبة، يعرض فنه، يجذب المتذوقين، ثم ينطلق بسرعة الصاروخ.
تمثيل وغناء.. صندوق الدنيا
الأمر لم يعد يتطلب حلماً لا يتحقق، ومحاولات لتدبير مقابلة مع مخرج واعد، أو تجارب أداء للالتحاق بفرقة مسرحية، الأمر أصبح بنفس السهولة التي تلتقط بها السيلفي، جرأة فقط وتتمكن بعدها من تقديم نفسك للمشاهدين بضغطات أزرار معدودة، جرأة وهاتف ذكي بكاميرا عالية الجودة، أو لو كانت لديك رفاهية الكاميرا فالأمر أسهل وأسهل.
«أبلة فاتن»، سيدة مصرية ثرثارة تشبه جارتك وصديقة والدتك، بل ربما تشبه والدتك نفسها، تحاول تعلم القيادة أو تجلس في عزاء أمها، أو تقترض من جارتها أشياء لزوم الطبخ، اسكتشات كوميدية خفيفة الدم، بديهة حاضرة، وحوار ذكي، أبلة فاتن تستطيع انتزاع الضحك منك، المضحك أكثر أن أبلة فاتن ما هي إلا أحمد البسة.
شاب سمين خفيف الدم، يحب التمثيل الكوميدي، وجد في السوشيال ميديا منبره المضمون، أنشأ صفحة ساقية البسة على غرار ساقية الصاوي، ينشر عليها فيديوهاته الكوميدية ويخرج لايف لجمهوره يطبخ معهم على الهواء، حياة كاملة وكأنه يمتلك قناة تليفزيونية كاملة، ناجح جداً، ويتداول مستخدمو السوشيال ميديا فيديوهاته، حقق شهرة معقولة، وما زال يعمل على الأمر.
«مش انتي اللي بتغني في المطبخ؟» كان هذا تعليق أحد الأشخاص عندما التقى بها، فتاة سمراء مجعدة الشعر، تغني أغنيات تراثية نسيها الزمن وقررت هي أن تذكره بها، تغني في المطبخ وراء الكاونتر، أو تمسك الدف وتجلس على الكنبة وتغني أيضاً، أحياناً تقف أمام حائط مزين بالصور كلوكيشن مبتكر، ثم الانطلاقة الأكبر عندما صورت فيديو كليب بكاميرا هواة بمساعدة أصدقائها ونشرته على صفحتها.
انهالت عليها الإعجابات، اشتهرت مرام بجملة «لا والنبي يا عبده»، وكانت السوشيال ميديا انطلاقتها فقد وقعت مرام عقد ألبومها الأول، عرفها المتابعون من الفيس بوك ولم يقتصر الأمر على متابعين فقط، فكونها توقع عقداً مع شركة إنتاج موسيقي يعني أن غناءها وجد صدى حقيقيًا لدى من يديرون صناعة الفن، وهذا نجاح حقيقي جداً، لها في المقام الأول وللسوشيال ميديا كمنبر فعال جداً لمن لديه الموهبة.
الأدب والكتابة المجردة
أكتب هذا التقرير بعد خمسة أعوام من احتراف الكتابة والتحرير الصحفي كمهنة، وبعد أكثر من عشرة أعوام من اكتشاف الإنترنت كنافذة أستطيع من خلالها أن أكتب فيقرأ أشخاص لا أعرفهم كلامي ويبدون فيه رأياً. منذ أيام اكتشفت كراساتي التي كنت أكتب فيها قبل اكتشاف بلوجر، بلوجر الذي تحول بمرور الوقت لحوائط الفيس بوك، والذي أهداني مستقبلي الحقيقي في الكتابة.
سارة هجرس أيضاً، مهندسة ديكور وأم ومدونة، كانت تكتب يومياتها مع أبنائها على صفحتها على الفيس بوك، وفي المدونة، وربما نشرتها في جريدة إلكترونية هنا أو هناك، كانت السوشيال ميديا متنفسها الوحيد للكتابة الكوميدية، والطريقة الوحيدة التي يمكنها من خلالها أن تكون جمهوراً، هذا الجمهور هو الذي دعمها وانتظر اسكتشاتها الكوميدية التي كانت تكتبها لبرنامج البلاتوه مع أحمد أمين على فضائية النهار، وهم نفس الجمهور الذي ينتظر صدور كتابها الأول مع دار نشر نهضة مصر، والذي وقعت عقده منذ أيام. سارة هجرس امتلكت موهبة الكتابة، وامتلك إنترنت وقنوات سوشيال ميديا مكنتها من أن تجد شغفها الحقيقي في الحياة، الديكور لم يعد مهماً لهذه الدرجة بعد الآن.
هناك نوع آخر من الكتابة يحترفه حاتم عرفة، هنا نحن نتحدث عن الكتابة المجردة، الخط العربي، فحاتم عرفة خطاط سكندري يعيش في تركيا منذ عدة أعوام، بدأ كمصمم أغلفة مع دور النشر، ثم استهواه الخط العربي فبدأ في تعلمه، ثم بدأ يرسم لوحات مستخدماً الخطوط العربية المختلفة، جمهوره يعرفه من صفحته على السوشيال ميديا ولوحاته تجد رواجاً وتصميماته تطلب خصيصاً، حاتم أيضاً يعطي ورشات تدريبية على الرسم بالخط العربي، هنا وفي تركيا وأيضاً عبر الإنترنت، حاتم عرفة يدرس الآن الرسم والخطوط في جامعة تركية، وكل هذا بدأ عن طريق السوشيال ميديا.
ما زال هناك الكثير
في السنوات الأخيرة انتشرت الفنون اليدوية باستخدام الخيوط، صناعة العرائس بالتحديد، عرائس شخصيات كرتونية وعرائس لأشخاص حقيقيين، عرائس صغيرة وكبيرة وعرائس على أشكال الحيوانات، يقولون إن فنون الخيط تساهم في شفاء الروح، وبعض المعالجين النفسيين يستخدمون فنون الخيط في جزء العلاج بالفن الذي يستخدمونه مع مرضاهم.
رانيا منصور أحد المعترفين بفضل فن صناعة العرائس من الخيوط عليها، بعد إنشائها صفحتها كروشيرهرجي، التي تعرض من خلالها العرائس التي تصنعها، وبعد أن أصبح لها جمهورا ومشترون يطلبون عرائس معينة بالاسم، وجدت رانيا متنفساً آمناً للقلق والإحباطات التي ربما تواجهها، صناعة الجمال تساعدها في التخلص من التوتر، وفنون الخيط تساعدها في اكتشاف العالم مرة أخرى، رانيا أصلاً تعرفت على هذا الفن من خلال السوشيال ميديا، وطورت نفسها في احترافه عن طريق السوشيال ميديا، وتعرض فنها هذا أيضاً عن طريق السوشيال ميديا.
السوشيال ميديا جبارة فعلاً، يكفي أن تمتلك موهبة حقيقية، وذكاء لإدارة هذه الموهبة، ويمكنك وقتها إبهار العالم، السوشيال ميديا ليست فقط لتراشق الاتهامات وتداول الأخبار الكئيبة، على السوشيال ميديا يمكنك أن تجد الكثير من الفن والأدب والسينما، يمكنك أن تجد بشراً يشبهونك ويحبون نفس ما تحبه، مجتمعات كاملة ليست افتراضية أبداً، والدليل – غير الأمثلة الواردة سلفاً – هو أنك تقرأ هذا المقال الآن.