قبل أن يصبح الإنترنت سهل المنال والملجأ الأساسي للجميع، كان بمجرد أن تقتني جهاز كمبيوتر فهناك بعض الملفات التي تتحصل عليها تلقائيًا. وكأن شركة مايكروسوفت قررت أن تهديك مع نسخة الويندوز الخاصة بك بعض الملفات. حقيقة الأمر أنه لابد أن يهديك أحد الأصدقاء القرص الصلب الخاص به لتحصل على تلك الملفات. العجيب أنها كانت نفس الملفات لدى الجميع.

ملف يحتوي على فيديوهات لمراوغات البرازيلي رونالدينهو، ألبومات محمد منير عادة تتواجد في ملف يحمل عنوان أغاني الكينج، بعض الأفلام والألعاب، ثم ملف ديني كما هي العادة بالطبع.

ضمن تلك الملفات كان هناك فيديو شهير حينئذ للشيخ وجدي غنيم عبارة عن حلقة من حلقات برنامجه رسائل والذي كان يقدمه على قناة اقرأ. الفيديو كان بعنوان رسالة إلى الرياضي. كان غنيم يتحدث بأسلوبه الساخر عن تلك الأهمية المفترضة غير المستحقة للرياضة. كيف أن الصحف تفرد العديد من الصفحات للرياضة، كيف تعنون أخبار كرة القدم بعناوين المعارك الحربية على حد قوله المعركة الدامية والمواجهة المرتقبة.

بعيدًا عن مقصد الرجل وسخريته من كرة القدم تحت منطق ديني لا مجال للحديث عنه الآن. لكن هل بالفعل تتحمل كرة القدم أكثر مما تحتمل؟ ولماذا يتخذها البعض دينًا دون غيره؟ وهل من المنطقي أن ينطق أحدهم عن طيب خاطر: الله الوطن ثم يغلق أولوياته باسم النادي الذي يشجعه؟ هل من المنطقي أن يصير البعض دراويش لكرة القدم؟

الدروشة والهروب من الواقع

ما نعيشه اليوم هو صورة مطورة مما عاشه أسلافنا. تتكرر الأحداث لكن بثوب مختلف خارجيًا فحسب والمضمون واحد. هكذا يحدثنا قارئو التاريخ ودارسوه ولا يلتفت أحد كما هي العادة. دعنا نذهب لكتاب تاريخ شكل تاني للكاتب وليد فكري وحديثه عن الدراويش، والذي أوضح أن مصادر المعلومات تلك ترجع لكتب مثل التصوف الإسلامي و المدخل في تاريخ الأديان للدكتور سعيد مراد وا لتصوف بين الإفراط والتفريط للدكتور عمر عبد الله كامل.

يتحدث وليد فكري أن فكرة الدروشة، أو ظهور تصوف مزيف عن التصوف الحقيقي الأصيل، بدأت بعد أن تذوق العرب المسلمون مرارة الخسارة على يد أعدائهم رغم وثوقهم أنهم لا ينهزمون عن قلة. مما جعل النفسية العربية أرضًا خصبةً لتيارات الدروشة والزهد، لا عن إيمان بالزهد كمبدأ بل رغبة في الانفصال عن الواقع.

تطور الأمر مع ظهور موجات الغزوات المغولية والرعب الذي بثه المغول في نفوس العرب والأساطير المنتشرة عن وحشيتهم. كل ذلك نشر إحساسًا عامًا بالعجز أدى إلى عودة فكر الهروب من الواقع للفكر فكانت الدروشة مخدرًا مناسبًا تفصل معتنقيها عن الواقع المخيف. ثم استمر الأمر برعاية الحكام أنفسهم، فبعد انتشار الفساد لجأ الحكام إلى نشر التصوف الخاطئ الذي يتمركز حول قبول قضاء الله وقدره تحت أي ظرف.

ربما لا نحتاج الآن الكثير من الحديث لإيضاح فكرة دراويش كرة القدم، فقط سنطابق الصورة القديمة على النسخة الحديثة منها.

كرة القدم لا تحتمل كل ذلك

أصبحت كرة القدم ملجأً جديدًا للهروب من التعقيدات الحياتية، وهذا أمر مقبول للغاية. لكن مع مرور الوقت تطور الأمر حتى وصل لأناس تنذر حياتها لكرة القدم. أن تهرب من تعقيدات الحياة شيء، وأن تهرب من الحياة بأكملها شيء آخر. مؤخرًا أصبح من المنطقي أن تتحدث مع رجل يقر بأنه على أتم استعداد أن يضحي بحياته من أجل النادي الذي يشجعه.

كرة القدم ممارستها سهلة. أربعة أحجار وحشو محكم على شكل كرة ولتبدأ المتعة. ولذا كان حفظ قوانينها ومتابعتها شيئًا يسيرًا ومساحة يشعر خلالها الفرد بأنه يملك انتماءً نحو كيان أكبر. ثم تطور الأمر لاعتبارها مساحة منغلقة تمامًا لا تقبل الاختلاف.

أنت تفوز لأن الدولة تريدك أن تفوز ثم نتبادل الأدوار ويصبح الآخر فائزًا لأنه اشترى ذمم الحكام والمسئولين عن إدارة اللعبة. سيطر اليأس على الكثيرين بخصوص تحسن الأوضاع فانغمسوا في كرة القدم أكثر فأكثر وهو ما راق بطبيعة الأمر لهؤلاء المسئولين عن هذا اليأس في الأساس.

أصبحت جملة على شاكلة أن النادي كذا هو الأمر الوحيد الذي يفرح. لذا أصبح الدفاع عن فوز هذا الفريق دفاعًا مستميتًا لأنه آخر ما تبقى للمرء من أمل في ظل تلك الظروف المحبطة من كل اتجاه. تلك بالطبع ليست دعوة لأن يغرق الفرد في إحباطات لا قبل له بحلها، لكن هل تضحي بحياتك ذاتها لإنقاذها من الإحباط؟ هل من المنطقي أن تحمل سلاحًا من أجل كرة القدم؟

نحن هنا لا نتحدث عن شغب الملاعب الذي يشمل جميع البلدان ومشجعي كرة القدم لأسباب مختلفة. لا سبب يجعل المرء يهجر عمله وحياته ويصبح درويشًا لكرة القدم سوى العجز، لا متعة كرة القدم وسحرها الأخاذ كما يبرر البعض. إن كانت الدروشة هي الصورة المزيفة من التصوف، فدروشة الكرة هي الصورة المزيفة للشغف بها.

شغف كرة القدم يحتمل كل الاختلاف

ربما هذا الطرح يتشابه مع طرح المثقفين المحتقر لكرة القدم. وهنا تحديدًا وجب التفرقة بين الطرحين. فكما يتحدث إدوارد جلياني في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» أن كرة القدم تشبه الرب من حيث الورع الذي يبديه المؤمنون والريبة التي يبديها المثقفون. هنا تحديدًا تتضح الأمور. نحن نبحث عن منطقة رمادية بين المغالاة في حب كرة القدم من جهة، واتهامها أنها أفيون الشعوب الجديد من جهة أخرى.

تلك المنطقة الوسط هي الشغف بكرة القدم. تلك الأنا التي تحتاج بشدة إلى أن تصبح «نحن». أن تشاطر عددًا لا بأس به من الأفراد نفس القناعة، القناعة بأنك الأفضل، بأن الحظ لا يلتفت إليكم، الشعور بمدى أهميتك، بأن إمتاعك هو الغرض هنا، وبكونك شريكًا أساسيًّا في النصر والهزيمة حتى لو لم تحرك ساكنًا في كليهما.

ذلك هو ما تقدمه كرة القدم إلى المشجع عن طيب خاطر، المشجع الشغوف بتعبير أدق. ذلك الشخص الذي أصابه الشغف فبات يهمس بدعواته من أجل الفريق، ويصرخ فيشق حنجرته احتفالًا بهدف، ويرتحل إلى مدن لم يرها من قبل من أجل أن يساند فريقه. كرة القدم تكافئ من هُم مثل هؤلاء بمشاعر يصعب وصفها، تمنحهم ذروة السعادة الممكنة، وتتركهم بعد نهاية كل مباراة كرجل وحيد يتسكع في مدينة مهجورة كانت تعج بأحبائه قبل فترة وجيزة.

شعف كرة القدم يحتمل أن ينهزم فريقك فتحزن لكن لا تهاجم الفريق المنتصر. أنت تقامر على لعبة عشوائية تمامًا ولذا فجزء من متعة المقامرة أن تعود إلى ديارك خالي الوفاض. لكن هذا الشغف للأسف استغله البعض ووقع في شركه البعض الآخر حد الدروشة حتى أصبح مع الوقت لكرة القدم أولياء صالحون.

أكذوبة أولياء كرة القدم الصالحين

لم تسلم دروشة كرة القدم إذا جاز التعبير من فكرة الأولياء الصالحين. فالدراويش وجدوا فكرة أولياء الله مناخًا خصبًا ليكتمل تصوفهم المزيف. هم يعرفون في قرارة أنفسهم أن هذا الرجل الصالح المتعبد لن يجدي لأحد نفعًا من دون الله، لكنهم قرروا أن يلصقوا به ما لا يطيق من كرامات ومعجزات. وبعد وفاته أقاموا على جثمانه ضريحًا والتزموا أماكنهم كنوع من الولاء المزيف.

يتشابه الأمر مع دراويش كرة القدم، انتماء أحدهم إلي نادٍ ما أو عشقهم للاعب دون الآخر، جعلهم يبررون كل شيء ممكن ليبقى هذا النادي وهذا اللاعب مكتمل الزهاء لا يمسه خطأ. مع الوقت أصبح هناك هالة حول بعض الشخصيات في كرة القدم تشبه تلك الهالة التي رسمها الدراويش حول أولياء الله الذين لا يخطئون في ظن دراويشهم.

دفاع دراويش البرتغالي رونالدو عن أدائه الضعيف في آخر موسمين له مع ريال مدريد رغم الأداء الباهت، كان واجبًا لأن رونالدو هو الدون والطفرة والماكينة البشرية التي لن تعطل. التمس دراويش الخطيب أيضًا له ألف حجة وحجة رغم إدارته السيئة وغير المتوقعة بعد تقلده مقاليد الحكم للنادي الأهلي المصري، بحجة أنه الخطيب هو الرمز وأن هذا ليس الوقت المناسب للحديث عن أخطاء الرجل.

شيكابالا الذي اهتز مستواه كثيرًا خلال السنين الأخيرة لعدة أسباب، يكفي أن ترتد الكرة وتمهد له فيحرزها حتى ينطلق الدراويش مهللين. يقسم العاقل منهم أنها كرة سهل إحرازها من أي لاعب، فيرد الدراويش القسم بأن تواجد شيكا في هذا المكان هو إحدى كراماته.

أصبحت كرة القدم صناعة ضخمة ينقلها البث التليفزيوني بالكثير من التدقيق والتشريح، وتتدخل التكنولوجيا في تحليل وإيضاح الأخطاء. ولا زال هناك من يكذب عينه رغم تأكده التام في قرارة نفسه أنه على خطأ. لا زال من يؤكد أن ضربة الجزاء التي احتسبت على فريقة هي محض ظلم. رغم رؤيته للاعب فريقه يطيح بالخصم من منطقة الجزاء. رأى ذلك بعد أن التقطت الموقف عشرات من الكاميرات وتمت إعادة اللقطة من كل الزوايا آلاف المرات. إلا أنه رجل منتمي لا يصح أن يؤكد بأن فريقه يستحق أن يحسب ضده مجرد ضربة جزاء وفقًا لقواعد اللعبة التي يحبها.

أصبحت كرة القدم للأسف مناخًا خصبًا للدروشة رغم أنها تصلح بما تمتلك من شغف وإثارة أن تبقى أهم وسيلة متعة للبشر على الإطلاق.