هكذا تحدثت «رضوى عاشور»
1. قُبلة على جبينِ العالم
وُلدت بالمنيل، المنزل يُواجه كوبري عباس ويرقد النيل أمامها هادئًا. جدها لأبيها الحاج محمد عاشور: تاجر مينا فاتورة. وجدها لأمها الدكتور عبدالوهاب: يُتقن الفارسية والأردية؛ فيحقق الشهنامة والمثنوي وشعر محمد إقبال، وسفيرٌ سابقٌ لمصر في باكستان.
تُردد أكثر من مرة فخورةً بنبرةِ شجن: أنا رضوى بنت ميّة ومصطفى. يتزوجان عام 1942 ينجبان طارق ورضوى وحاتم ووائل.
مصطفى محامٍ مُغرمٌ باللغة العربية والبلاغة والخطابة، يمتلك مكتبة زاخرة بالأدب العربيّ القديم.
تُولد رضوى في السادس والعشرين من مايو/ آيار عام 1946 كقُبلةٍ على جبينِ عالمٍ يتعافى من حربٍ عالميةٍ طاحنة. ورضوى اسم جبلٍ بالمدينة المنورة تضرب به العرب المثل في الرسوخ فتقول: أثقل من رضوى.
تُحب الأنهار والخُضرة والفن والمتاحف، تعشق القهوة، مُدخنة، مطيورة وثرثارة، لا تحرمها الشيخوخة من إحساسها بكونها طفلة، ترتدي خاتمًا معدنيًا في بنصر يدها اليسرى بجانب خاتم الزفاف، قيل لها إنه مأخوذٌ من طائرة إسرائيلية مُحطمة من مُخلفات حرب أكتوبر.
تصف نفسها:
2. اللحاق بالقطار
تَربَّت وسط ثلاثة ذكور، هي الثانية في الترتيب، تخشى أن تُنسب الشجاعة والإقدام لهم لأنهم ذكور بينما يرتبط بها الضعف والتخاذل فكانت تُحاول دائمًا إثبات العكس. تريد أن تؤكد لنفسها أنها تستطيع أن تفي بالمطلوب، ولهذا فقد ظلت طوال حياتها تركض، ركضت طفلةً تُغذيها الحياة وطاقتها النابضة، وركضت مراهقةً خوفًا من الحرملك المُنتظر، ثم ركضت امرأةً حتى لا تخسر نديتها للرجال من جيلها، وحتى تبتعد عن الدونية المُعدة سلفًا للنساء.
تسألها صديقتها آنّا عندما كانت تدرس في أمريكا: لماذا أنت دائمًا في عجلة من أمرك كأنك تريدين اللحاق بقطار؟ فتجيب: «أو كأنني خائفة أن يدهمني قطار يا آنّا».
عندما رأت تمثال المُفكر لرودان تساءلت: كيف يكون تمثال المُفكرة؟ هل يُمكن أن نُقدم تمثال المرأة العارفة وهي عارية الجسد؟ أم نظل سجناء الموروث بأن جسد المرأة ينحصر في الشهوة فقط؟ ولماذا ينفيني الأزهر من تاريخه؟ فلا تجلس تاء التأنيث في صحنه تُلقي الدروس؟ أو تدعو مع الداعين لنصرة قائدٍ في الحرب أو بسقوط طاغية من الحكام؟ وهل في الجو شيءٌ يُصيب الفتيات بعدم الثقة؟ ولماذا تُغني أم كلثوم أغانيها العاطفية مُكرسةً علاقةً غير متكافئة بالرجل؟ علاقة تصفها رضوى بعلاقةٍ عثمانية.
3. ما الذي يجعل الفن فنًا يا مريد؟
مُثقلةٌ بالسؤال عن قيمةِ ما تكتب، تكتب انسياقًا على طريقة المدمنين أو العشاق، وتنتظر أحيانًا اللحظات «العفاريتي» التي تنساب فيها الكلمات بفعل عفريت الكتابة الذي تؤمن به.
تقول رضوى عن الكتابة إنها:
تنبهرُ من فعل الكتابة أو فعل الخلق الفنيّ بشكلٍ عام، وترى الكُتّاب كأن هالةً تُحيط برؤوسهم كالقديسين، ويوم رأت عباس العقاد في إحدى المكتبات لم تصدق عينيها.
بدأت تكتب منذ الصغر حتى نزلت عليها قصص تشيكوف القصيرة كالصاعقة فقررت أنها لا تصلح، كيف تقص القصص وتشيكوف قد كتب ما كتب؟ ثم جاء عام 1980، بعد أزمةٍ صحيةٍ تساءلت، ماذا لو أن الموت داهمني؟ كانت في الرابعة والثلاثين، يومها قررت أن تتخلى عن فكرة أن تأتي بما لم يأت به الأوائل، هنا قررت أنها من الممكن أن تكتب بعد تشيكوف بلا خجل.
تصف كتاباتها الروائية بأنها:
تقول في مقابلة على قناة الجزيرة، إن الكاتب يجب أن يشتبك مع الواقع، وتذكر مثالًا لكاتبٍ يكتب بينما بيته يحترق ولكنه يواصل الكتابة دون محاولة إخماد الحريق، فتصف هذا الكاتب بأنه سيكون أمثولة!
عندما سافَرت إلى أمريكا كان هدفها محددًا، الحصول على درجة الدكتوراه في الأدب الأفرو- أمريكي. فهي تدرس ما يدخل في نطاق همومها والقضايا الأكثر إلحاحًا بواقعنا الثقافي كجزء من انشغالها بعلاقة الأدب بواقع النضال الشعبي.
كثيرًا ما تَمَنَت ترك التدريس بالجامعة والتفرغ للكتابة، وظلت تعيش ممزقة بين الجامعة والكتابة «كزوج الاثنين».
تتساءل: ما الذي يجعل الفن فنًا يا مريد؟
تكتب الأدب بين الرواية والقصة، تنشر دراساتٍ أدبية، تترجم من وإلى الإنجليزية، تحصد الجوائز والتكريمات.
تتساءل وتكتب، لأنها تحب الكتابة بشكلٍ يجعل السؤال غريبًا وغير مفهوم، تكتب لأنها بينما تستمتع بدور المُراقِب، تستوقفها الحياة، تُدهشها، تشغلها، تستوعبها وتربكها وتخيفها، تتجول بين الحقب والأماكن، تحاول أن تحكيها.
4. كأنبياءٍ أو كأرغفة
تمقتُ اليأس، فاليأس لا يصح وهي من «حزب قشة الغريق، تتشبث بها ولا تفلتها من يدها، من حزب الشاطرة التي تغزل برجل حمارة»، وإن هُزمنا يا رضوى؟ تقول: «نموت كالشجر واقفين».
لا ترى النهايات نهايات لأنها تتشابك ببدايات جديدة، ولا نملك ترف التشاؤم، توزع ثمار الأمل على من يطلب ومن لا يطلب، بُحكم عملها كأستاذة بكلية الآداب بجامعة عين شمس بقسم اللغة الإنجليزية، ترى أن إرسال خطابات يأس عمل غير أخلاقي لكونها مُدرسة، أليست مُدرسة؟ أليسوا طُلابًا؟ أليست مُهمتها في الحياة رعايتهم وحمايتهم؟
وعندما يرتبك المسار يا رضوى وتُظلم الدنيا؟ لا يهتز يقينها، تتشبث بالقشة:
5. لوحتان
لا يُمكن الحديث عن رضوى دون الحديث عن لوحاتٍ تُحبها، ولا يُمكن قراءة كُتب السيرة الذاتية الثلاثة التي كَتَبَتهَا (الرحلة،أثقلمنرضوى، والصرخة) التي هي مادة هذا المقال دون ملاحظة أجزاء تتحدث عن لوحاتٍ بعينها ولوحاتٍ تشغل غلاف الكُتب.
سأتحدث عن لوحتين اهتَمَتَ بهما تحديدًا، لوحة الجرنيكا لبيكاسو، ولوحة الصرخة لإدفارت مونك.
الجرنيكا
شاهَدتها كثيرًا في نيويورك ومدريد وعلقت نسخةً منها في غرفتها بسكن الطالبات في جامعة ماساتشوستس. تقول: «تسمرت أمامها كأن ساقيّ قررتا أن تُجاورا في المكان».
تحدثَت عنها في كتاب «الرحلة»، ثم تحت عنوان «بيان المذبحة» بداية من الصفحة 291 إلى الصفحة 307 في كتاب «أثقل من رضوى». تتأمل رضوى لوحة الجرنيكا، تشرحها كما تفهمها وتربطها بأحداث شارع محمد محمود في مصر.
الجرنيكا هي قرية في إقليم الباسك بإسبانيا، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939) استعان الجنرال فرانكو بهتلر وموسوليني لقصف المدن الثائرة ضده، وأثناء غيبة رجال الجرنيكا عن القرية لمشاركة الثائرين ثورتهم، قصفت الطائرات القرية بسيداتها وأطفالها ومبانيها وأبادتها.
تُرى، متى تُرسم مذابحنا؟
لن أسرد شرح رضوى للّوحة وسأكتفي بالشرح الوافي للفنان التشكيلي عادل السبوي، ولكني سأشارك القارئ خاطرة ما.
انظر للّوحة، هل ترى السيدة ذات الوجه بلا جسد؟ ثاني وجه يظهر من اليمين، تلك التي تحمل شمعةً أو قنديلًا، لا أدري لماذا أرى وجه رضوى عندما أرى اللوحة.
الصرخة
اختارت أن تضعها غلافًا لكتابها الأخير «الصرخة».
6. فتكونُ ثورة
تقول رضوى:
هذه الجملة تُلخص مواقفها السياسية، هي منحازة دائمًا للمظلومين والمهمشين، منحازة لما تراه أكثر عدلًا وجمالًا.
تذهب لأمريكا للدراسة، لا تُبهرها الأضواء، تصف حضارتها بالكسيحة، تنحاز للمسحوقين، للهنديّ الأحمر ولذوي الأصل الأفريقي والبورتوريكي والفيتنامي، تؤسس لجنة الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني والعربي مع أصدقائها بجامعة ماساتشوستس. تعرف ميزات أمريكا وحضارتها لكنها تدرك أن الأضواء اللامعة لتلك الحضارة تُخلّف ظلًا قاسيًا فتقول: «هذا البلد لا يقرئنا الأمان!».
وفي مصر ترفض الظلم وتشارك في حركة 9 مارس/ آذار لاستقلال الجامعات، تشارك في المظاهرات منذ شبابها وبعد تخطي الستين.
كتابيّ «أثقل من رضوى» و«الصرخة» كُتبا عن الفترة بين نوفمبر/ تشري الثاني 2010 وحتى يوم السابع من سبتمبر/ أيلول، تاريخ آخر كلماتها على الورق. والحديث عن الوضع السياسي في مصر شغل حيزًا كبيرًا من الكتابين.
تتحدث عن الثورة وأحداثها الكثيرة بين الفرح والمرارة وشهادتها على بعض الأحداث التي رأتها أو سمعت شهاداتٍ عنها، عن انتخابات الرئاسة بين محمد مرسي وأحمد شفيق، تذهب لانتخاب مرسي فيما سُمي وقتها بعملية «عصر الليمون» لتجنب عودة شفيق للمشهد السياسي المصري، وعندما أمسكت بورقة الانتخاب وجدت نفسها تشطب على الاسمين وتكتب «المجد للشهداء». تفرح رغمًا عنها بفوز مرسي، تعترض على ممارساته بعد الفوز، تعترض على الإعلان الدستوري وعلى سوء الأوضاع، تتحمس لمظاهرات 30 يونيو/ حزيران راغبةً في استفتاءٍ شعبيٍ لا أكثر، ترفض تفويض وزير الدفاع، تُخبر تميم ابنها أنه كان على حق بعدم المشاركة بمظاهرات 30 يونيو، تأتيها أخبار أحداث رابعة والنهضة وهي في رحلة علاج فتغتم لرائحة الدم.
تؤمن بفكرةِ المؤامرة، في صفحتيّ 211 و212 بكتاب «أثقل من رضوى» تتحدث عن أن التضحية بنظام مبارك جاءت حفاظًا على النظام الذي ظل موجودًا بعد الثورة. ما هو النظام؟ «يعني إعادة إنتاج العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الظالمة التي ثار الشعب عليها».
تحكي مشهدين داليّن في كتابين مختلفين، مشهد في كتاب «الرحلة»، تحكي عن أحد قادة الهنود الحمر الذين شهدوا مجزرة وونددني سنة 1890 التي حسمت الصراع لعشرات السنين بعد ذلك بين الأوروبيين والسكان الأصليين. يقول الهندي الأحمر في آخر كلامه:
والمشهد الثاني في «أثقل من رضوى»، تحكي عن أطفال مدارس خرجوا متظاهرين لدعم الانتفاضة الفلسطينية:
7.الحر للحرة
بدأت الحكاية أمام المكتبة المركزية بجامعة القاهرة، فتىً يلقي الشعر وفتاةٌ صغيرة الحجم تكتب الشعر على استحياء تستمع، تنبهر، تقرر بعدها ألا تكتب الشعر ثانيةً. يتحدثان عن الدراسة، يشتركان في جماعةٍ أدبيةٍ في الجامعة، أصدقاءٌ فقط. يسافر الفتى الفلسطينيّ إلى الكويت للعمل، يراسل أصدقاءه ومن بينهم رضوى، لا شيء مميزٌ بعد، ينتبه مريد لأمرٍ ما فيقول في كتابه «وُلدت هناك وُلدت هنا»: «لكني اكتشفت أن رسائلي لرضوى تخلو من أخباري ووقائع حياتي وتقتصر على إحساسي الصامت بتلك الحياة».
وعندما عاد إلى القاهرة في زيارة وجدا أنفسهما يتحدثان كأب وأم وأحيانًا كجد وجدة، لم يتبادلا الغزل ولم يتحدثا عن المستقبل، عاد إلى الكويت وصارا يتراسلان كزوجٍ وزوجة.
طلبها للزواج، عارض الأهل؛ كيف يتركوا وحيدتهما إلى شابٍ ضبابيّ المستقبل؟ لم تنته القصة هنا، بل بدأت.. تزوجته رغمًا عن كل شيء.
يقول ابنهما الوحيد تميم البرغوثي في قصيدته «قالولي بتحب مصر»:
يزور السادات إسرائيل عام 1977، في الصباح التالي يأتي رجال الأمن، يتم ترحيل مُريد من مصر وتميم ابن خمسة أشهر، ويبدأ الشتات. سبعة عشر عامًا، في بعضها مُنع مريد تمامًا من دخول مصر وفي البعض الآخر كان يدخل بتصريحٍ خاص لأيامٍ قليلة، لا يجتمع شمل الأسرة سوى في الإجازات يقضونها مع مريد في منفاه.
يصل إلى أمريكا ليحضر مناقشة رسالة الدكتوراه، يذهبان إلى نيويورك، تُريه لوحة الجرنيكا، يتسكعان في الشوارع كصبيين عاشقين، يشعران بالأمان وسط المدينة الصاخبة.
يقول مُريد:
8. رضوى أينعت، وحان قطافها
المرضٌ فصلٌ قاسٍ لا بد منه حينما نتحدث عن رضوى، ولكني سأحرص على اختصاره. تقول: «تورمٌ مزعجٌ خلف أذني اليمنى، يبدأ بحجم حبة لوز، ثم يكبر. نستأصله. يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة. هذا هو الحال منذ ثلاثين عامًا».
التشخيص: تليفٌ حميد. هكذا ظل. بعد الجراحة الخامسة تغير، (شوانوما): ورمٌ حميد يتطلب المتابعة، هكذا صار. بين أواخر عام 2010 وحتى وفاتها ظل المرض يشتد ويخبو، حتى خارت مقاومتها في الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2014، عاشت ثمانية وستين عامًا.
«أنا تعبت يا ماجدة، اتبهدلت». هكذا تخاطب صديقتها. وتقول لابنها تميم باكيةً: «تعبت». وتحكي عن المرض الذي يفقدك الكبرياء ويُربك ثقتك في نفسك، فيتسرب إليك الخوف من أنك لا تستطيع.
تستفيق من أثر المخدر بعد عملية أجرتها أثناء الأيام الثمانية عشر للثورة المصرية، تسأل من حولها: «ضربوا العيال؟».
يحيطها أحبابها، تشعر أنها محظوظة رغم كل شيء. تقول:
تُسدل الستارة على المشهد، شابٌ وعجوز ينكسان الرأس أمام نعش السيدة، كفاك تعبًا يا رضوى، استريحي، فلا وحشةَ في قبرك.