هكذا يبدو «سيد قطب» بنظارة العقل الغربي
يبدو أن الحادي عشر من سبتمر/أيلول لم يجلب معه للولايات المتحدة الأمريكية والغرب الطائرات التي تصطدم بالأبراج فقط، في مشهد فانتازي مليء بالموت والدمار؛ إنما جلب معه أيضا أشباحًا من ماضٍ قديم مرّت على هذه البلاد يوم أن كانت على قيد الحياة. وعند البعض، «سيد قطب» سيد هذه الأشباح وأعلاها قيمة وإثارة للجدل. لا يرد ذكر «سيد قطب» في الأبحاث والمقالات والمدونات الصحفية قبل 11 سبتمبر / أيلول، إلا نادرًا جدًا، ربما في معرض الحديث عن الجماعات الإسلامية في مصر وصراعها مع نظام حسني مبارك.
أحداث 11 سبتمبر / أيلول، مثلت في المخيلة الجمعية الأمريكية عملية غزو أجنبية كالتي تقوم بها الكائنات الفضائية على شاشات السينما أو في عوالم ألعاب الفيديو. عملية هجومية تقف خلفها فكرة وأيدولوجيا وحضارة، وليست مجرد دفاع عن الذات ضد الإمبريالية الاستعمارية. لم يشكّل خطاب القاعدة مبررًا كافيًا حينها، فسعوا إلى التنقيب ما وراء هذا الخطاب. هنا تمظهر لهم فكر سيد قطب مؤسسًا و أبًا روحيا للأصولية الإسلامية وفكرة ما يسمونه بالجهاد الحديث «modern jihad» باعتباره «جهاد طلب» بالتعبير التراثي الإسلامي؛ هكذا أضحى قطب هو المسؤول الأول عن الغزوة، «غزوة مانهاتن»!
امتلأت صفحات الجرائد وأوراق مراكز الأبحاث ومنشوراتها بسيرة سيد قطب وفلسفته و أفكاره، تناولها البعض بالنقد حينًا، والبعض الآخر بالنقض أحيانًا، إلا أن التناول الحيادي أو المؤيد أو الساعي لمساحات اتفاق لم يخفَ عن الساحة أيضا.
العائد
لم يخرج التناول الغربي لسيرة سيد قطب كثيرا عن إطار الصورة الرومانسية التي تصور شابا بقلب شاعر مرهف وحساس من الطبقة الوسطى من أسرة سياسية، تلقى تعليما علمانيا واشتغل في وزارة التعليم، وبرع في مجال النقد الأدبي والكتابة الروائية وله محاولات شعرية، سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بعثة تعليمية ومكث فيها سنتين، تعرض فيهما الشاب المرهف الحساس لصدمة حضارية في عالم علماني مادي لا قيمة فيه للروح والدين؛ فعاد إلى بلاده ناقما متشددا ومؤسسا للأفكار الأصولية ومدشنا لعصر الإرهاب الإسلامي.
كثيرا ما تستهوي كُتاب المقالات والمدونات الفقرات التي كتبها سيد قطب في كتابه «أمريكا التي رأيت»، التي وصف فيها حياة الطبقة الوسطى الأمريكية، وتلك الفقرة بالذات التي تحتوي مشهدا لاحتفالية رأس السنة في إحدى الكنائس في كولورادو، حيث تتلامس الأجساد وتلتف الأذرع وتتقابل الشفاه ويخفض القس إضاءة المكان لإضفاء مزيد من الرومانسية على إيقاعات أغنية «baby its cold outside». لم تغب حياة قطب العاطفية عن هذه الصورة التراجيدية كذلك، فإحباطاته العاطفية المتكررة مع النساء وعدم زواجه مثلت إضافة قيّمة للوحة المسرحية التي أريد تمرير قطب وأفكاره من خلالها.
رغم ذلك، لم يكن عرض سيرته أحاديا تماما بهذا الشكل، فقد تحدث البعض – في مصادر مرفقة بالمقال – عن نواة لأفكاره الإسلامية والأصولية حتى قبل سفره إلى الولايات المتحدة، وعن تخرجه من كلية دار العلوم التي خرّجت كذلك حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين. وهناك من تحدث أيضا عن إتمامه حفظ القرآن وهو في العاشرة من العمر، وطالب البعض ممن عرضوا سيرته بأن يتم تناول أفكاره بطريقة أكثر موضوعية واستقلالا عن هذه الصورة التراجيدية الشائعة.
صراع السيادات في معبد المخيلة
يبدو للوهلة الأولى أن العناوين العريضة في أفكار قطب تثير لدى المتلقي الغربي هواجس دفينة أو قلقا خفيا أكثر مما تثير من نقد، من أهم هذه العناوين هو مفهوم «الحاكمية» الذي يتم ترجمته «سيادة الله المطلقة».
يستعدي هذا المفهوم بشكل تلقائي وسريع صورا عديدة في مخيلة المتلقي الغربي، فمن ناحيةٍ: ظلت سيادة الله أو الإرادة الإلهية على مر التاريخ الأوروبي الوسيط كلمة عامة مبهمة تستدعي معها فكرة الوسطاء القادرين على فهم وترجمة هذه السيادة أو هذه الإرادة الغامضة، لم ينتج هذا المفهوم في السياق الغربي إلا حكما ثيوقراطيا تسلطيا صاحبته صور وحشية من محاكم تفتيش وحروب صليبية ومحاربة للعلم الدنيوي، حتى أن التخلص من هذا المفهوم وتحرير الإرادة الإلهية من نير الوسطاء لم يتم إلا عبر سيل من الدماء في حروب أهلية مزقت أوروبا، ودفعت بها نحو العهد الجديد ونحو تحرير مفاهيم العقد الاجتماعي والتحرر والديمقراطية.
للمفارقة، فإن هذا المفهوم في السياق الحضاري الإسلامي ينتج صورة مختلفة بالكلية، حيث السيادة الإلهية مفصلة على نهجي القرآن والسنة، يعقبهما ميراث فقهي طويل ومعقد يمنع الهوى والرغبات الشخصية من التأثير على ترجمة هذه السيادة نظرًا وفعلًا، كما يستدعي المفهوم في المخيلة الإسلامية مجموعة من القيم الحضارية الأصيلة كالعدل والرحمة والنمو والرخاء والجهاد والدعوة والتحرر وسيادة الأمم.
فيما خلف الصورة المتكونة في المخيلة، تأتي المحاجات الغربية ضد هذا المفهوم في سياقات مختلفة تتحدث عن مفاهيم الحرية والقانون الطبيعي والسيادة الشعبية. تكمن الإشكالية بالأساس في الغموض الذي يكتنف المفهوم عند قطب بالنسبة للمتلقي الغربي، أهو معبر عن «أبستيم» معرفي؟ أم أم عن رؤية للوجود للإنسان حرية الحركة والفعل داخلها وله اختراع وإعادة اختراع القيم التي تؤسس وتساند هذه الحرية وهذا الفعل؟ أم أنه أقرب للمفهوم الأيدولوجي المطلق الذي يستدعي معه مآسي الحتميات الأيدولوجية؟
الثائر النقي واليوتوبيا الواقعية
رغم كل ما سبق، يبقى لنقد قطب للمادية الغربية وأفكاره عن الفطرة الإنسانية جاذبية خاصة للمخيلة الغربية، تداعب نزعة رومانسية أصيلة زرعها أحد أبرز مفكري الحداثة الغربية، وهو «جان جاك روسو»، وذلك في أفكاره عن الطبيعة البشرية والفساد الذي يجلبه المجتمع لهذه الطبيعة. لا يكتفي فكر قطب بالوقوف على النقد المحض إنما يتجاوزه للوقوف على تصور يوتوبيا واقعية للمجتمع الإنساني قائمة على الفطرة، أو مراعاة الحاجات الإنسانية وهي مكمن نقد قطب للماركسية التي اتهمها بالقفز على هذه الطبيعة وتجاهلها.
«يوتوبيا قطب» تستدعي الجدل الغربي الدائم حول مفهوم الطبيعة البشرية، وهل هي جزء أصيل كامن في الخلق الإنساني أم هي نتاج سياقات وانقطاعات معرفية ومحيطية وبيئية تجعل مفهوم اليوتوبيا نفسه غير قابل للتحقق مهما بلغ من الكفاءة النظرية؟ لا يكمن الإشكال فقط في عدم القدرة على التحقق، إنما ما يجذبه الفشل من نماذج سلطوية وأوتوقراطية بغيضة تطغى على المجتمع.
تستدعي يوتوبيا قطب إشكالا آخر في المجال الغربي، وهو تعريف المجتمع وهدفه النهائي؛ هل المجتمع بالأساس هو نوع من التنظيم أو المؤسسات التي تسمح للفرد بممارسة حريته من خلالها كما ترى النظرية الليبرالية؟ أم أن المجتمع في حد ذاته هو الهدف النهائي بما يحققه من قيم جمالية أو قيم إلهية معينة وفي سبيلها تختفي الحرية الفردية أو تتضاءل؟
موقع السياسة أو إمكان وجودها احتل جزءًا من الجدل وموقعا من مواقع النقد ليوتوبيا قطب. يقوم تصور قطب للمجتمع المثالي على ثلاثة أسس يستقيها من مجتمعين تاريخيين يعتبرهما أفضل ما حققه الاجتماع البشري؛ المجتمع البشري الأول الذي يضم آدم وحواء وأبناءهما، ومنه يستقي أو ينظر للعبودية الكاملة لله أو حاكمية الله المطلقة. ثم المجتمع الثاني، وهو ما يسميه الجيل القرآني الفريد الذي استقى من نبع القرآن الصافي دون أن يتلوث بأية أيدولوجيات أو أفكار أو أديان أخرى. ثم مسألة المساواة التامة بين جميع البشر من جميع الأعراق والأنساب، هذه الأسس الثلاثة المتسقة والمكملة لبعضها تنفي تماما أي إمكان لوجود تعددية أو اختلاف يسمح بوجود السياسة في أبسط شروطها، هذا النفي للسياسة إنما هو استدعاء لها في أبشع صورها وهو العنف المطلق سواء نحو أقليات المجتمع، أو منها، أو نحو الأمم الأخرى، أو منها.
«قطب» وتراشقات اليمين واليسار
لم يفلت قطب من تجاذبات وتراشقات اليمين واليسار في الولايات المتحدة والغرب على مختلف المستويات، سواءً على المستوى الفكري أي مستوى الأفكار المؤسسة والمعقوليات المحضة، أو على مستوى الممارسات والتقاربات السياسة. والتراشق يدور غالبا على طريقة : قطب قريب منك، قطب بعيد عني.
نلحظ في هذا التراشق أبحاثا تضع قطب في مواجهة الرموز الفكرية لليسار واليمين في محاولة لإثبات وجهة النظر. «أدم سميث وسيد قطب, رؤيتان مختلفتان للعالم» دراسة تتناول الفرق بين المفكرين من منظور الاقتصاد السياسي وتبرر الصراع بين الغرب الرأسمالي والإسلام المسلح. «معالم على الطريق, الكذبة البيضاء » عنوان آخر لمدونة قصيرة تحاول الربط بين رؤية سيد قطب في المعالم وفكرة ليو شتراوس عن الكذبة النبيلة وخلق العدو الوهمي في محاولة لإلصاق قطب بأفكار المحافظين الجدد، وغير ذلك من العناوين التي تربط قطب أو تقارنه بمفكرين مثل لينين و ماركس وجان جاك روسو و ألكسيس كاري وآخرين.
نلحظ أيضا عناوين مثل «جهاد جان جاك روسو»، و«كيف خرب الإسلام واليسار أمريكا»، احتلت صدور المنشورات والكتب اليمينية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول، مُحاولة استغلال الموجة في تسديد ضربات لليسار. في هذه المنشورات عادة ما يتم اتهام قطب بمعاداة السوق والقيمة المتولدة عنه، ومقارنة الأسس الاجتماعية لدى روسو وماركس بمثيلاتها لديه، للدلالة على التقارب الفكري الذي يتبعه تقارب فعلي على مستوى العمل السياسي. في المقابل، يتهم اليسار – في معرض دفاعه عن نفسه – قطب بأنه ضد الحرية الشخصية وحقوق المرأة والمثليين والمكتسبات الفكرية والمعرفية للحضارة الغربية بشكل عام.
طاولة للنقاش تحت مظلة النيران
رغم الاشتباك الشديد على جميع الجبهات مع سيد قطب وأفكاره، ورغم دوي الطائرات التي تقصف كابل وبغداد، وأخرى تضرب في نيويورك، إلا أن الأمر لم يخلُ من مساحات مفتوحة للفهم والحوار طرحت بواسطة بعض الباحثين سعوا للوصول إلى إيجاد نقاط للالتقاء مع فكر قطب، يبتدئ هذا السعي عادة بمحاولة فك الارتباط بين أفكار سيد قطب والقاعدة باعتبار أن أسامة بن لادن لم يكن قطبيا، ولم يذكر سيد قطب كثيرا في خطاباته، إنما كان أقرب لمحمد بن عبد الوهاب.
محاولة التفرقة، وإن كانت غير متماسكة، إلا أنها لا بد منها في إطار السعي للوصول لقطب نفسه بعيدا عن الحرب الدائرة على الإرهاب. الأسس التي تقوم عليها محاولة الفهم أو التقريب بعد ذلك تستند على عمودين رئيسين,الأول: أن الإسلام السياسي أو الإسلام الأصولي هو رد فعل حداثي بالأساس على تحديات تطرحها الحداثة على المجتمعات الإسلامية، وهذه الأفكار في بنيتها لا تختلف عن أية أيديولوجيا غربية إلا في كونها تستلهم الإسلام أساسا لها.
الثاني: أن مفهوم الحاكمية لدى سيد قطب لا يختلف كثيرا عن مفهوم السيادة في الفكر الليبرالي الغربي؛ إنما تكمن الإشكالية في التأويل، أي أن مفهوم السيادة لدى الغرب لا يعني بالضرورة سيادة الإنسان، إنما هو مشتق من القانون الطبيعي الذي أنشأه الله حين خلق الكون، وإنما يقوم الإنسان بإعادة اكتشافه فقط، وأن مفهوم قطب عن الحاكمية قد يحتمل تأويلا ليبراليا على هذه الشاكلة، بما أنه لم يطرح آلية ما لإنزال هذه الحاكمية على المجتمع.
- The Western Mind of Radical Islam
- The Muslim Brotherhood's 'intellectual godfather'
- Sayyid Qutb's America
- The Philosopher of Islamic Terror
- ‘Offensive Jihad' in Sayyid Qutb's Ideology
- Sayyid, It’s Cold Outside
- milestones: the noble lie
- Sayed Qutb, Islamic Extremism & Philosophy
- A Dangerous Mind
- Jean-Jacques Jihad
- Qutb’s Communism
- Sayyid Qutb And The French Connection: The French Catholic, Social Darwinist Doctor That Influenced Qutb's 'Jaahiliyyah
- "Adam Smith and Sayyid Qutb: A comparison of two different worldviews" Kehaan H Manjee Duke University
- "THE THOUGHT OF SAYYID QUTB" Luke Loboda
- BERMAN, PAUL (2003): "Terror and Liberalism" New York, N.Y.: W. W. Norton
- The Power of Ideas" by Virginia Murr:"Sayyid Qutb and Islamism
- "Taking people as They are: Islam as Realistic Utopia, in the political Theory of Sayyid Qutb" by Andrew F.March
- "Sayyid Qutb and Aquinas: Liberalism natural law and the philosophy of jihad" by Lucas Thorpe