كيف تحولت سوريا إلى بلاد الموت؟ 3 أسباب تجيبك
في إحدى المدرجات بالكلية الجامعية في لندن، في الثاني من حزيران/يونيو 2009م، ألقى الدكتور أمارتيا سِنْ (Amartya Sen) محاضرة بعنوان «العنف في المجتمع»، يستعرض فيها أسباب الانتشار الواسع للإرهاب إضافةً إلى هيمنة العنف السياسي في العالم المعاصر، وقد خلصت محاضرته إلى أن العنف الذي ترتكبه الجماعات الإرهابية بكافة تصنيفاتها سواء كانت دينية أو عرقية أو جماعات المافيا لا يشكل على وجه الحصر تحديًا عسكريًا، إنما هو نتيجة حتمية للانقسام المُتشبِع به عالمنا اليوم.
وبالتالي فإن الإرهاب يمثل تحديًا فكريًا في المقام الأول والأخير، ثم تطرق بحديثه إلى تقرير هيئة الكومنولث الذي نشر في عام 2007م، بعنوان «مسارات مدنية للسلام»، والذي أُصدِر في الأساس للحد من الإرهاب والعنف المتنامي في العالم المعاصر، وقد بُنيت ركيزته الأساسية على قاعدة جون ستيوارت مِل (John Stuart Mill)، أن الديمقراطية بالمعنى الواسع هي «الحكم بالنقاش»، وتعد قاعدة جون ستيوارت مِل ترسيخًا أدبيًا أكثر عمقًا لمفهوم الديمقراطية، إذ اعتبرها أكثر من مجموعة مؤسسات محددة، مثل الاقتراع والانتخابات؛ لتكون تلك المؤسسات جزءًا لا يتجزأ من عمليات الحوار الوطني، وحرية المعلومات، والنقاش الذي لا قيود عليه.
وقد قال جورجي سامبايو (Jorge Sampaio)، الرئيس السابق للبرتغال والممثل الأعلى للأمم المتحدة لتحالف الحضارات حاليًا (UNAOC): «أن التنوع الثقافي أصبح قضية سياسية رئيسية تمثل تحديًا للديمقراطيات الحديثة، للتعددية، للمواطنة وللتماسك الاجتماعي، إضافةً إلى السلام والاستقرار بين الأمم»، وبالتالي فإن تجاهل المفهوم الواسع للاختلافات بين البشر في الحوارات الوطنية، يجعل من الحوار ساحةً للشد والجذب ومن ثم عداوة وضغينة وصولًا إلى نقطة اللاحوار والبدء في تنفيذ السياسات الممنهجة بصورها المختلفة سواء كانت في صورة عنف أو تحريض إرهابي.
وبالرغم من كل تلك الإسهامات في سبيل نشر السلام المجتمعي وتحقيق أمن الفرد، إلا أن هذه المفاهيم لم تصلنا نحن العرب. فسوريا لا يوجد بها شبر واحد إلا وهو ملطخ بالدماء البريئة العفيفة، فصار الشعب السوري بين مفخخات الإجرام الغربي وطائرات النزعات الطائفية المشئومة، فهل مكتوب على سوريا «بلاد الموت»؟.
بلاد الموت؛ كلمة جريئة قالها ويلفرد أوين (Wilfred Owen)، في ساحة المعركة، قبل أن تأخذ ويلات الحرب العالمية الأولى حياته، كان لديه الوقت كي يسجل احتجاجه الخاص على القيم التي تمجد القتال العنيف في سبيل الطائفية والقومية والعرقية البائسة.
يا صديقي، لن تخبر بمثل هذه الحماسة الكبيرة
أطفالًا متحمسين لبعض المجد اليائس،
الكبار يكذبون: الحو والجميل منزوران
لبلاد الموت
1. ديكتاتورية طائفية عسكرية
تتمحور إشكاليات التحول الديمقراطي في النظم السياسية تحت بند العلاقات المدنية العسكرية، فهذه الإشكاليات تغيرت في كلٍ من الدول المتقدمة ذات الديمقراطيات الراسخة وتلك التي لا زالت في مراحل التحول الديمقراطي، أو التي تحكمها نظم ديكتاتورية. فشبكة التفاعلات بين المكونين المدني والعسكري في النظم الديمقراطية تهدف إلى تقوية السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية باعتبار تلك السيطرة إحدى ركائز الحكم الديمقراطي، وفي حالة الدول الأقل ديمقراطية فإن مفهوم السيطرة المدنية غير قابل للتطبيق، حيث يُنظر للمؤسسة العسكرية على أنها صاحبة الفضل في تأسيس الدولة القومية الحديثة والضامن الوحيد للحفاظ على وحدتها بعيدًا عن التفكك والانهيار.
ومفهوم السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية، لم يكن مجردًا من الإشكاليات، فقد تحدث صامويل هنتغنتون (Samuel Huntington) في كتابه (الجندي والدولة) عن مفهوم السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية باعتبارها «السيطرة الموضوعية» والتي تعني ترك الجيش دون تدخل من السلطات المدنية للحفاظ على احترافيته وتنميتها كخير رادع للتدخلات العسكرية في السياسة، إلا أن موريس جانويتس (Morris Janowitz) كان له رأي آخر في نفس ذات المفهموم في كتابه (الجندي المحترف) باعتبار أن السيطرة المدنية هي ترادف طبيعي لــ«السيطرة الذاتية» والتي تعني دمج الجيش في الحياة المدنية باعتبار أن ذلك الرادع الأمثل للتدخلات العسكرية في عالم السياسة.
وبالنظر للمشهد السوري نجد أن شعبًا خرج ليسقط نظام يعتبره ديكتاتوريًا طائفيًا عسكريًا، وكانت مطالبهم تندرج تحت لواء «الحياة المدنية»، فكان الصراع في مستهل الأمر يندرج تحت طاولة الصراع المدني العسكري، وعند النظر للصراع بصورته الأولية نجد له تفسيرًا في الأدبيات الغربية وهو أن المؤسسات المدنية السياسية في سوريا تعاني القصور والرجعية، الأمر الذي أفسح المجال للصدام المدني العسكري، إضافةً إلى المصالح المؤسسية للجيش في وقف دفتي التحول الديمقراطي في سوريا.
وسرعان ما تحول المشهد إلى صراع دموي عنوانه الطائفية والآن تمتزجه العرقية، كانت تلك النتيجة طبيعية للمشهد السوري، فالمؤسسة العسكرية تعد امتدادًا طبيعيًا للمجتمع المدني الأوسع وأنها تخضع مثله تمامًا للتقسيمات الطائفية والطبقية والإقليمية والعرقية، والمجتمع المدني في سوريا ينقسم من الناحية الدينية إلى سنة وشيعة ومن الناحية العرقية نجد الأكراد وحلم دولتهم، فوقف الجيش في صف الشيعة العلوية باعتبار أن قائده الأعلى بشار الأسد شيعي علوي وانصرف السنة في سوريا منقسمين حول ألوية متعددة وقوات سوريا الديمقراطية تبحث عن حلم الأكراد المفقود.
وبالتالي فإن التحول الديمقراطي في سوريا وإشكالية وضع إطار للسيطرة المدنية على الجيش، يجب أن يسبقه أولًا الاتفاق على آلية وئام وسلام بين الطوائف والأعراق المدنية، ثم يتم التحدث عن أنماط السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية.
2. معضلة الأمن الإنساني والأمن القومي
هناك تناقضان في النظم السياسية هما «الأمن الإنساني» و«الأمن القومي» وهي المرادفة لكلمة «أمن الدولة»، وفي عالمنا المعاصر نجد أن مطالب الأمن الإنساني يمكن أن تتجاوز اهتمامات الأمن القومي بمفهومه الضيق، ومن هنا صار الأمن القومي الحجة الصريحة والعباءة الأكثر قبحًا لقمع الحياة الإنسانية في بعض الدول، وباتت ألوية الصراع في العديد من الدول بين المدنيين وأجهزة الدولة يندرج تحت مسمى (أمن الدولة أهم بكثير من أمن ومصلحة الفرد المدني)، ومن هنا جاء التناقض.
ولعل دكتور الاقتصاد بجامعة كامبردج (محبوب الحق) حاول أن يقلل من التناقض بين المفهومين حينما قال: «إن دمج مفهوم الأمن الإنساني بنهج التنمية البشرية هو صفة تفاؤلية للبشرية أجمع»، وأراد محبوب بذلك أن يكسر حدة التناقض بين الأمن الإنساني والقومي إذ أنه لا يمكن أن يعترف الساسة بتناقض التنمية البشرية مع الأمن القومي في مفهوم تكوين الدولة الحديثة، وكانت ركيزته في ذلك تقوم على أن انعدام الأمن الإنساني يهدد بقاء البشر وأمانهم اليومي، وبالتالي تكون البشرية عرضةً لمخاطر القتل والقمع والفقر المدقع والمرض والوباء، وبالتالي فإن مصلحة الإنسان جزء من منظومة أمن دولته.
وبالنظر لتلك القاعدة نجد أن النظام السوري نجح في استخدام الأمن القومي كسبب له في قمع المدنيين وساعدته على ذلك الدول الكبرى في العالم الغربي، إذ أن العالم كله يرسل رسائله التفاؤلية في الحوار بين الفصائل السورية في ظل تكاثر معدلات انعدام الأمن الإنساني في سوريا، فبات هناك ملايين اللاجئين السوريين في الدول الغربية، إضافةً إلى ملايين المواطنين الذين ينتظرون تساقط القنابل العنقودية عليهم من طائرات حلفاء الأسد.
3. الفقر واللامساواة
في نهج الاقتصاد السياسي نجد أن الفقر واللامساواة أسباب جذرية للعنف. وليس صعبًا أن نرى أن الظلم واللامساواة يمكن أن يولدا انعدام التسامح، وأن معاناة الفقر يمكنها أن تشعل الغضب والضراوة. فهناك دول كثيرة عانت ولا تزال بسبب تزامن الضائقة الاقتصادية مع النزاع السياسي، من أفغانستان والسودان إلى الصومال وهاييتي. وعلى افتراض التعايش، ليس غريبًا على الإطلاق أن نسأل إن كان الفقر يقتل مرتين، مرة من خلال البؤس الاقتصادي، ومرة ثانية من خلال المذابح السياسية.
إلا أن تلك الأطروحة التي تربط الفقر بالعنف تعد أطروحة مشككًا بها أخلاقيًا، بل يراها البعض ممتلئة بالمشكلات المعرفية. إن الادعاء بأن الفقر مسؤول عن العنف الجماعي هو على المستوى الإمبيريقي فج جدًا؛ لأن الصلة بين الفقر والعنف هي أبعد من أن تلاحظ عالميًا، وأيضًا لأن هناك عوامل اجتماعية أخرى مرتبطة بالفقر والعنف. ولعل أكبر مثال على ذلك هي مدينة كالكوتا، ليست واحدة من أفقر المدن في الهند فحسب – وبالتأكيد في العالم – بل يصادف أيضًا أن نسبة الجريمة فيها قليلة جدًا.
في الواقع، تمثل الجرائم الكبيرة في كالكوتا الفقيرة النسبة الأقل من الحوادث في المدن الهندية جميعها، ويبلغ معدل حوادث الجريمة في المدن البالغ عددها 35 مدينة في الهند 2.7 لكل 100000 نسمة، منها 2.9 في دلهي. أما النسبة في كالكوتا فهي لا تتجاوز 0.3. وبمقارنة معدلات الجريمة في كالكوتا الفقيرة مع عواصم الدول الرائدة نجد أن معدل الجريمة في باريس 2.3، وفي لندن 2.4، وفي بوينس أيرس 6.4، وفي لوس أنجلوس 8.8. وحتى في مدن اليابان الشهيرة بانخفاض معدلات الجريمة يعتبر معدل جرائم القتل فيها أكثر بثلاثة أضعاف من كالكوتا، أي 1.0 لكل 100000 نسمة في طوكيو، و 1.8 في أوساكا.
وعلى الجانب الآخر من الشرفة لا يمكن أن لا يكون للتاريخ العنيف لأفغانستان علاقة بالفقر والحرمان اللذين عاناهما الشعب، إضافةً إلى سياسة الطائفية الدينية. وهو المثال الأكثر تقاربًا للوضع السوري.
- .(Nadine Gordimer, Living in hope and History. (London 1999
- (1996) .Huntington, The Clash of Civilizations and the Remaking of world order
- (Nadine Gordimer, Zaabalawi: The Concealed Side. (1995
- .The National Crime Record Bureau of India, Crime in India 2005