هكذا أصبحت كوبا نموذجًا ماركسيًا شيوعيًا
كيف تحولت الثورة في كوبا من الديمقراطية الدستورية إلى الماركسية الشيوعية؟
اضطرار فيدل كاسترو إلى اعتناق الماركسية بعد نجاح ثورته خلال الظروف الموضوعية والشخصية التي كان يعانيها، يحكي لنا قصة كل حركة ثورية نضالية تنطلق من رفضها للأوضاع القائمة في المجتمع وتستهدف استبدالها بأوضاع أفضل منها، دون أن يكون لديها تصور مسبق لتفاصيل هذه الأوضاع الفاضلة التي تسعى إليها عن طريق النضال الثوري.
وبالتالي تصبح بمثابة حركة ثورية بلا نظرية، تضع همها كله في قلب نظام الحكم وتغيير شكل المجتمع دون أن تحدد الشكل الجديد الذي تسعى إليه، وبالتالي تحصر كل جهودها الفكرية في دائرة التحضير للعمل الثوري، وهي مرحلة سهلة يمكن الاتفاق عليها ويمكن تجميع الأنصار حولها من بين أولئك أو هؤلاء الذين يرفضون الأوضاع القائمة الظالمة ولو كانت أسباب هذا الرفض مختلفة بينهم.
وبعد نجاحهم في الاستيلاء على السلطة تقفز على السطح أعظم مشكلة، وهي مشكلة تجسيد الآمال الوطنية والأهداف الثورية في قوالب تنفيذية تكفل تبرير التضحيات الكبيرة التي تتكبدها الشعوب عادة أثناء مرحلة المخاض الثوري، ثم ما يعقب ميلاد الكيان الثوري من ضروريات الدفاع عنه ضد القوى المضادة التي لا تستفيد من هذا الميلاد. وها هنا نناقش الثورة الكوبية التي تحولت من حركة ثورية ديمقراطية إلى نظام سياسي تحكمه الشيوعية الماركسية.
النزعة الديمقراطية في الثورة الكوبية
يسوقنا الحديث إلى الإشارة إلى الثورة في كوبا واعتناق فيدل كاسترو للماركسية اللينينية، لأن تجربة كوبا قد تحولت إلى نموذج ثوري يعبر عن الثورات التي قامت بالقارة الأمريكية الجنوبية، ويراد للثورات الشعبية أن تقتفي أثره وتنتهج منهجه. فما هي حقيقة الثورة الكوبية؟
الحقيقة التاريخية تشير إلى أن الثورة الكوبية لم تبدأ ثورة ماركسية، ولم يكن فيدل كاسترو ماركسيًا قبل أن تنجح ثورته. ففي بيانات السييرا الصادرة في يوليو 1957م، بعنوان «الوحدة ضد الديكتاتورية» والمنشورة في كتاب «ثورة كوبا» بقلم فيدل كاسترو قال:
ليس من الضروري لأجل تشكيل التجمع الواسع؛ أن تعلن الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية نفسها ثورية، وعليها أن تعد الصلح وتقود البلاد في طريق الشرعية الديمقراطية والدستورية، وهذه يجب أن تصبح شعارًا لتجمع وطني وثوري جديد سيضم جميع الأحزاب السياسية المعارضة، وجميع المؤسسات الوطنية وجميع القوى الثورية، وليس من الضروري إعلان الثورة إذا تشكلت الجبهة التي نقترحها
في هذه المرحلة كانت حركة فيدل كاسترو ديمقراطية دستورية تسعى إلى تحقيق الوحدة الوطنية في إطار من الشرعية، ثم بدأ في وصف الحكومة التي استلمت السلطة بعد نجاح الثورة فقال: «عُيِّن في هذه الحكومة رجال كانوا في بعض الأحوال، ذوي عقلية محافظة في غير محلها، وفي نهاية المطاف كان هؤلاء وأولئك المحافظين فريقًا حكوميًا محافظًا».
واستمر تأكيده على أن ثورته لم تكن ماركسية إلى أن نجحت في استلام السلطة، فقال:
يجب أن نعيد القول أن إحدى التجارب المريعة هي أننا قمنا بثورة اشتراكية بلا اشتراكيين، لأن الفكرة المسبقة المناهضة للشيوعية في تلك الفترة كانت من القوة بحيث أنه حين كان يعيَّن موظفٌ شيوعيٌ لعمل، حتى ولو كان متواضعًا، كانت تصعد موجة من الاحتجاجات
وعلق على ذلك جورج طرابيشي في كتاب «في التنظيم الثوري»، بقوله:
إن حركة 26 يوليو بقيادة كاسترو، هي التي قادت الكفاح المسلح ضد باتيستا، وكانت هذه الحركة تضم في البداية عناصر متنوعة: قسم منها بورجوازي انضم إلى صفوف المعارضة بعد إصلاحات 1959م – 1960م، وإلى جانب ذلك كان هناك الحزب الاشتراكي الشعبي الشيوعي الذي ساهم هو أيضًا في النضال إلا أن مساهمته لم تكن حاسمة، وكان هناك أخيرًا حركة الإدارة الثورية التي نظمت في 13 مارس عام 1957م، هجومًا على قصر الرئاسة كللت جهوده بالفشل في النهاية. أما التركيب الاجتماعي لهذه الحركات الثلاث، فهو بوجه عام: حركة 26 يوليو فلاحية، والحزب الاشتراكي الشعبي عمالي، والإدارة الثورية طلابية
التسلل الشيوعي للتنظيم الثوري الكوبي
وفي عام 1962م، بدأ تسلل الشيوعيين إلى التنظيم السياسي في كوبا أثناء تسوية النزاع الداخلي الذي كان يقوم بين كاسترو وبين بعض قادة الشيوعيين، قال كاسترو في ذلك:
ينبغي ألا ننسى أن عدم توازن القوى كان يلعب لصالح الشيوعيين، لا سيما منذ هجرة قسم من أعضاء حركة 26 يوليو، الحركة التي قادت الثورة، وعاد لكوبا بعض الشيوعيين الذين يحملون نفوذ العصبية الماركسية، والذين كانوا مدربين أحسن تدريب على الدسِّ وعلى التلاعب داخل التنظيم السياسي
ثم قال: «الثورة الكوبية قادها حتى النصر قادة آخرين غير شيوعيين». وقد برر نشأة الحزب الشيوعي في كوبا بـ «صعوبة دمج حزب شيوعي كان يبلغ حدًا من البيروقراطية والستالينية حتى بعد انتصار الثورة التي قادها آخرون».
وجرت أول محاولة لدمج المنظمات الثلاث (حركة 26 يوليو – الحزب الاشتراكي الشعبي الشيوعي – الإدارة الثورية)، في 26 يوليو عام 1961م، وقد تمت عملية التوحيد من فوق، عن طريق تجميع مناضلي شتى المنظمات القائمة في تنظيم أطلق عليه «المنظمات الثورية المندمجة». وتولىهانيبال إسكيلانتي مهمة الإشراف على تنظيم «التنظيمات الثورية المندمجة»، وهو قائد سابق للحزب الاشتراكي الشعبي الشيوعي، فسلم المراكز القيادية في التنظيم لأعضاء قياديين سابقين في الحزب الاشتراكي الشعبي الشيوعي، وبعد أن استيقظ فيدل كاسترو واتخذ قرارات لمواجهة هانيبال إسكيلانتي والتي انتهت باعتقال هانيبال وتقديمه للمحاكمة العلنية، وعزل بعض من عينهم في المراكز القيادية، كان كل شيء قد انتهى وابتلع الحزب الشيوعي حلفاءه في التنظيم الموحد، والذين كان لهم الدور الأساسي في الثورة.
استيراد النموذج الشيوعي لتجربة كوبا
اتجه كاسترو لاستيراد التجربة الماركسية الشيوعية، فلم تبحث ثورة كاسترو بنفسها عن نظرية تطور تستخلصها من ظروفها الكوبية الخاصة، فوقعت في مصيدة النظرية الثورية الجاهزة المتأهبة للتصدير، والتي يقبل استيرادها الذين ليست لهم ملكات البحث والاستخلاص. وعلى إثر هذه السياسات انسحب بعض زملاء كاسترو من حركة 26 يوليو نتيجةَ رفضهم لبعض الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي اتخذها، والتي اعتبروها أكبر من طاقة الشعب الكوبي وأكثر ضررًا على مخططات التنمية.
وفي ظل التخلف الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه الأحياء النامية بكوبا، لم تستطع الجماهير في كشف الفشل الذي أحرزته المنظمات الثورية المندمجة، فبدلًا من البحث عن أنماط التنمية التي تليق بمجتمع كوبا وطموحاته تم استيراد التجربة الماركسية الشيوعية، حيث باتت الثورة الكوبية من وجهة نظر العديد من الفلاسفة بلا نظرية وبلا هدف، وبالتالي فشلت القوى الواعية آنذاك من امتلاك زمام المبادرة لوقف الأضرار القاتلة والمستمرة في الإجهاز على قدرات المجتمع وتمزيقها وسحقها تحت ظلال الشعارات الثورية البراقة والملتهبة والحماسية والمنبثقة من النظريات المستوردة التي لم تكن في الأساس في وسع هذه الحركات أن تلم بأبعادها العلمية كي تميز ما ينفع منها مجتمعاتها وما يضرها.
وهكذا قد اعتنق فيدل كاسترو الماركسية اللينينية، وقد ذكر في كتاب «أشهر الثوار في العالم»: «أن كاسترو لم يباشر حياته السياسية ماركسيًا لينينيًا، بل لجأ إلى الماركسية اللينينية كحل لابد منه من وجهة نظره لمستقبل كوبا ولمواجهة الحصار الأمريكي لبلاده». وقد عبر كاسترو عن ذلك بنفسه في تصريح لمراسل «الأوبسرفاتور الباريسية» عام 1963م، بقوله: «أنا كوبي أولًا، أمريكي لاتيني ثانيًا، ماركسي لينيني حديثًا».