فيلم «Snowpiercer»: قطار البشرية الطبقي
بلغ سيط المخرج الكوري الجنوبي «بونغ جون هو» قمة العالمية بعد تحفته الفنية «Parasite» التي حصدت 4 جوائز أوسكار، إلا أن لهذا المخرج أعمالًا أخرى تستحق النظر أيضًا، وربما يمكن أن نعثر داخلها على جذور أفكاره المبثوثة في تحفته السينمائية «Parasite».
في هذا المقال، سأسلط الضوء على عمل آخر لبونغ جون هو، هو فيلمه «Snowpiercer» (ثاقب الجليد) الذي صدر عام 2013. سأعمل على تفكيك بعض أبعاد الفيلم الفلسفية، لذلك قد تُحرق بعض الأحداث جراء التفكيك والتركيب.
فيلم «Snowpiercer» شيء لا نجده دائمًا في دور السينما هذه الأيام. إنه فيلم خيال علمي ذكي، تدور قصته حول قطار يسافر دون انقطاع تجنبًا للتجمد، يمكن أن يثير اهتمامنا بمكانه المستقبلي في البداية، ثم يلفت انتباهنا إلى رحلته المثيرة المليئة بمشاهد مثيرة للاهتمام، حتى يصل إلى خاتمة قوية، حيث نأتي لنهتم ليس فقط بما حدث خلال رحلة الشخصيات، ولكن أيضًا بما سيحدث بعد ذلك عند وصولهم.
خلفية الفيلم قائمة على اضطراب المناخ العالمي الذي ازداد سوءًا بسبب ارتفاع درجة حرارة العالم، وهو ما دفع دول العالم في الفيلم إلى الاشتراك في محاولة خفض درجة الحرارة العالمية من خلال رش غاز كيميائي مطور حديثًا في الجو يقوم بخفض درجة الحرارة على النحو المرجو. ولكن النتيجة كانت كارثية على البشر، حيث تم الإجهاز على جل البشرية والكائنات الحية، ليعود المتبقي منهم لما يشبه العصر الجليدي، ويصبح العالم جحيمًا ثلجيًّا متجمدًا.
في حين أن الحضارة الإنسانية قد تجمدت حتى الموت، نجت مجموعة صغيرة بفضل قطار يمتلكه ملياردير غير تقليدي يدعى ويلفورد (يقوم بالدور إد هاريس). ويلفورد، وقبل بدء العصر الجليدي «الجديد» مباشرة، وضع خط السكك الحديدية الخاص به في جميع أنحاء القارات (حتى إنه بنى جسرًا بين روسيا وألاسكا). بدأ القطار على الخط منذ وقوع الكارثة. بفضل محركه عالي التقنية، استطاع القطار الحفاظ على سكة الحديد دون أي مشاكل خطيرة على مدى 17 عامًا من الثلوج والجليد، وهو يبدو رائعًا بالتأكيد لأنه يسحب بقوة وسرعة خطه الطويل الطويل من العربات على طول المسار. حتى عندما يصادف القطار كتل الجليد/الثلج، فإنه يخترقها فقط باستخدام قوته وسرعته المطلقة، ثم يستمر ويواصل جولته العالمية كل عام.
كان القطار الدائم الحركة هو المكان الآمن الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه، وهو ما حصل حيث لجأ إليه ما تبقى من البشرية.
إلا أن العلامة الفارقة والدالة في هذا القطار هي أن الولوج إليه متاح للجميع، لكن التموضع داخله يخضع لشروط؛ حيث يتواجد ويلفورد في مقصورة المحرك/مقدمة القطار، ويحصل باقي الركاب على ما دفعوا مقابله، حيث يشغل ركاب الدرجة الأولى أفخم المقصورات في المقدمة، ويحتل الركاب من الدرجة الاقتصادية المرتبة التالية. وما تبقى، الذين يمكن اعتبارهم غالبية الركاب من القطار، عالقون في مقصورات الذيل في ظروف مزرية، يتعرضون لتجويع والتنكيل والتهميش الشديد. وأي مخالفة لقانون القطار تعرض صاحبها للعقوبة الشديدة التي قد تمر بتجميد أحد أطرافه وتهشيمها وصولا لتصفيته لأسباب سنتطرق إليها.
في مثل هذه الحالات، هناك دائمًا إمكانية وجود تمرد، وهو الذي يقوده في الفيلم كورتيس، ويلعب الدور (كريس إيفانز)، في أداء يتجاوز به ما عهدناه عليه في أفلام «Avengers»، حيث يؤدي دور شاب متمرد يبحث عن فرصة جيدة. يقوم التمرد عبر مضي كيرتس قدمًا هو وركاب مقصورة الذيل على طول القطار للاستيلاء مقطورة المحرك، وهو أمر ليس بالهيِّن لأنهم لا يعرفون ماذا سيصادفون في طريقهم.
إمكانية الهزيمة واضحة للجميع جراء هذا التمرد، بما في ذلك كورتيس ومعلمه المسنُّ جيليام (يؤدي الدور جون هورت) الذي كان زعيمًا فعليًّا يحترمه الجميع في مقصورات الذيل. ولكن يبدو أن لديهم فرصة جيدة هذه المرة. يعلم كورتيس أن هناك خبيرًا أمنيًّا يدعى Namgoong Min-su (يقوم بالدور سونغ كانغ، وهو نفسه الممثل الرئيسي في جل أعمال المخرج Bong Joon Ho مثل «Memories of Murder» إنتاج 2003، و«The Host» إنتاج 2006، و«Parasite» إنتاج 2019)، ويمكنه فتح بوابة المقصورة بسرعة، وهو ما يقوم به مين سو بالفعل بعد ملابسات مثيرة.
يستوحي الفيلم قصته من القصة الفرنسية «Le Transperceneige» لـ جاك لوب وبنجامين ليجراند وجان مارك روشيت، التي لا يمكن للمتأمل فيها أن يغفل مدى تأثير رواية مثل «1984» لصاحبها جورج أورويل عليها،خاصة فكرة «الأخ الكبير» التي تجسدها في العمل شخصية ويلفورد.
يظهر ذلك في وصف مايسون -المسئولة عن أمن القطار والتواصل مع مقطورات مؤخرة القطار- لـ ويلفورد بأنه «إلهي» (Divine) و«رحيم» (Merciful)، وهي نفسها ملامح الأخ الأكبر في رواية أورويل، حيث يكون المهيمن على السلطة موصوف دائمًا عند مناصريه بنعوت القداسة بمختلف مراتبها.
الاستيحاء الثاني الذي يمكن أن نلمسه ونحن نُعاين فكرة الفيلم هو من قصة «سفينة نوح» بكل دلالاتها الثيولوجية (اللاهوتية) والميثولوجية (الأسطورية). هذه السفينة حسب ما تجمع عليه كل السرديات الثيولوجية تقوم بإنقاذ ليس فقط البشرية، بل أيضًا جميع أنواع الكائنات من الطوفان الذي يغمر الأرض. هذه هي نفس الفكرة المحورية في الفيلم. المتغير هو أن السفينة أمست قطارًا، والفيضان أصبح عواصف ثلجية تغمر الأرض.
القطار والرأسمالية
هناك مقولة قديمة تصف الرأسمالية بالدراجة، وتصف البشرية بشخص يركب تلك الدراجة. الدراجة تظل منطلقة ومتزنة كلما استمر الراكب بالدفع على دواسات الدراجة. في اللحظة التي يتوقف فيها الراكب عن الدفع، تتوقف الدراجة ويسقط، ومعه تسقط الرأسمالية.
هذا هو ما يحصل في فيلمنا، فدوام حركة القطار هو ما يحافظ على دوام البشرية من خطر التجمد، ويزود ركاب درجة الذيل القطارَ بأغلى ما لديهم، أبنائهم الصغار، ليعملوا داخل أجزاء من محرك القطار، وهو ما ذكره ويلفورد حينما قال وهو يتحدث عن المحرك:
ثم يضيف:
ومنه يظل المحرك مشتغلًا، وبالتالي يظل القطار في حركة، ومنه منظومة الإنتاج التي تخلق الرخاء للطبقة المتواجدة في مقدمة القطار.
القطار والطبقية
يمكن، بدون مجازفة، اعتبار أن فكرة الطبقية هي المحور الأساسي للفيلم، وليس هذا الفيلم فقط ولكن جل أعمال المخرج الكوري الجنوبي «بونغ جون هو». ربما ليس هذا معرض استعراضها جميعًا. لذلك، ليس بأمر مستغرب أن نجد الفكرة نفسها في فيلم «Snowpiercer»، بل أن تكون تلك الفكرة هي محور الفيلم من الأساس.
يظهر ذلك من خلال تقسيم القطار إلى مقطورات حسب وضعهم الاجتماعي، فمن يوجد قرب «المحرك» فهو في القيادة، ومن يوجد في الدرجة الأولى فهو من الأثرياء، ثم تتوالى الطبقات مرورًا بالطبقة الوسطى وانتهاء بطبقة الذيل التي اجتمع فيها الفقراء. عندها، يجتمع المرض والهشاشة والاكتظاظ والتعفن.
والفيلم لا يكف عن أن يشير لهذه الفكرة في حواراته، خاصة حينما جاءت ماسون لمقصورة مؤخرة القطار لتكرس قوانين القطار ونظامه، حيث قالت مبرزةً نظام الطبقية الذي هندس القطار: «هل ترتدي حذاءً على رأسك؟ بالطبع لن ترتدي حذاءً على رأسك». ثم أضافت: «الحذاء لا ينتمي لرأس. الحذاء ينتمي لقدميك. القبعة تنتمي لرأس. أنا القبعة وأنتم الحذاء. أنا أنتمي للرأس. أنتم تنتمون للقدم». ثم تضيف: «في البداية، تم تحديد الطلب من خلال تذكرتك. الدرجة الأولى، ثم الاقتصادية … جميع الركاب في القسم الخاص بهم».
هذا أيضًا هو ما تبنَّاه ويلفورد نفسه، باعتباره قائد القطار ومالكه، حينما قال لكورتيس عند لقائه: «كل واحد لديه موقعه المسبق الخاص، والجميع موجود فيه ما عدا أنت». أو بصيغة أخرى، الطبقة هي التي تحدد كل أبعادك، تحدد طبيعة احتياجك، بل طبيعة أفكارك.
القطار والبشرية وفكرة التوازن
هذه الطبقية التي تسكن القطار جزء منها أملاه الأمر الواقع بحكم الجليد الذي يغمر العالم، بالإضافة إلى ضرورة وجودية قائمة على فلسفة ويلفورد في التوازن، وهو ما يظهر لنا بجلاء في قول كورتيس:
ثم يضيف ليفسر أكثر من فلسفته/فلسفة القطار:
فلسفة قائمة على نظرية الانتخاب الطبيعي، ولكن بتدخل بشري بُغية الإسراع من وتيرتها. هذا جوهر قوله حينما قال ويلفورد مضيفًا:
ويلفورد يرى بذلك أنه خدمة للبشرية بمحافظته على ما يسميه التوازن، توازن القطار، أي توازن الإنسانية. فالقطار عند ويلفورد هو الإنسانية. حيث قال مخاطبًا كورتيس:
القطار/المحرك وقداسة السلطة والتمرد
لذلك وفقًا لـ ويلفورد، فهذه الإنسانية تحتاج لتوازن، هذا التوازن الذي لا يتحقق بسوى وجود نظام وقائد، حيث يقول:
لذلك نجد الفيلم يبرز تيمة السلطة بشكل جلي، وذلك بأجهزة الأمن التي تضبط طبقات القطار الاجتماعية، وكذلك جهاز المدرسة باعتباره جهازًا أيديولوجيًّا يكرس سردية السلطة في عقلية الأطفال؛ إلا أن كل هذه الأجهزة تخدم السلطة التي يجسدها القطار بمحركه الذي يحمل طابعًا قدسيًّا، يظهر من اللحظات الأولى كما رأينا في كلام مسئولة الأمن حينما قالت لركاب مقطورة الذيل: «المحرك مقدس وويلفورد شخص إلهي».
ويلفورد نفسه وهو يصف محركه باعتباره محرك سلطته التي تتسم بالأبدية يقول:
هذه السلطة المتجسدة في عمقها في المحرك تحتاج بدورها من أجل ضمان توازنها إلى استعمال آلية الانتخاب الطبيعي. ولكن للتسريع، يأتي دور قائد المحرك الذي يسرع من وتيرة حركية التاريخ بآليات مثل الانتفاضة، حيث يقول ويلفورد:
أهمية هذا التحريك هو خلق سردية تتغذى منها منظومة السلطة، حيث يضيف: «يجب أن يكون العمر الافتراضي لهذا السرد أكثر من عقد من الزمان!». تحتاج هذه التمردات لضمان نتائجها إلى أن يكون هناك دائمًا تنسيق بين مقطورة القيادة مع مقطورة مؤخرة القطار، حيث يقول ويلفورد وهو يصف علاقته بقائد مقطورة الذيل جيليام: «من المفترض أن يعمل ذيل القطار ومقدمته معًا. ونحن على اتصال دائم. كان جيليام أكثر من مجرد شريك. كان صديقًا».
ولكن لماذا التمرد؟ ما الذي تحققه الاحتجاجات لقيادة السلطة؟ في هذا الصدد يضيف ويلفورد:
هذا النظام الذي يتوسل التمرد هو الكفيل بضبط البشرية المثيرة للشفقة، هكذا وصف ويلفورد البشر وهم يتصارعون على بوابة مقطورة القيادة. فالقطار/النظام هو الذي ينقذهم من أنفسهم: «انظر إليهم، هكذا حال الناس. أنت تعرف، لقد رأيت هذا، لقد كنت كذلك. ولكن ليس أكثر. انظر إليهم، سخيف، مثير للشفقة، أليس كذلك؟ يمكنك إنقاذهم من أنفسهم، هذا هو قدرك».
النهاية باعتبارها بداية جديدة
لم يجنح «بونغ جون هو» في فيلمه إلى الانتصار لأطروحة القطار/ النظام، رغم القوة التي قُدمت بها، وذلك وفق أطروحة ويلفورد/القائد التي تؤكد ضرورة الطبقية، وتوسل القطار/النظام سرديات يخلقها من أجل الإبقاء على هيمنته، يتوسل ذلك بأدوات أهمها التمرد والثورات. لكن «بونغ جون هو» لا ينتصر في المقابل لمنطق الثورة التي تُجهِز على طبقة الأسياد لتعم المساواة، كما هو حلم أرباب الصراع الطبقي حينما يتحدثون عن بلوغ الشيوعية من أجل إلغاء الطبقية.
يجنح «بونغ جون هو» لحل راديكالي، ليس الانقلاب على قيادة القطار/النظام، ولكن قلب القطار نفسه والإجهاز على منظومة «النظام»، وهو ما نجحت في القيام به بنت خبير البوابات التي رافقها ابن صغير من أبناء إحدى قاطنات مؤخرة القطار. وكأن هذا النظام الطبقي حسب رؤية المخرج لا يمكن انتزاعه إلا عن طريق تفجيره، لبدء صفحة جديدة من تاريخ البشرية.
كورتيس بانتفاضته – حسب المخرج – ليس هو البطل، البطل هو تلك الفتاة التي لم تتردد في تفجير القطار وتفجِّر معه نظام الطبقات بأسره. لو أخذ كورتيس زمام القيادة ستحوله السلطة إلى ويلفورد جديد، فبقدر ما تسعى نحو تغيير منطق السلطة بقدر ما تغيرك السلطة بمنطقها. لذلك، وإن كان حل الفتاة جذريًّا وقاسيًا، لكنه ليس بقسوة هيمنة النظام الطبقي المتسلط.