الثلج في الدولة العباسية: «بهرج الدنيا» الذي رفضه الزهاد
اختلفت نظرة الناس إلى الثلج خلال المراحل المتعاقبة للتاريخ الإسلامي، وارتبط ذلك بالأساس بالتطور السياسي والاجتماعي الذي شهدته الدولة، إذ احتل مكانًا مميزًا على موائد الخلفاء وكبار القوم، باعتباره من مظاهر الترف، ثم ما لبث أن أقبل عليه العامة وصار ملاذًا لهم من حرارة الجو.
ويذكر السيد عادل عباس جاسم، في دراسته «استخدامات الثلج في الدولة الإسلامية حتى منتصف القرن الرابع الهجري»، أن استخدامات الثلج اقترنت في العصور الإسلامية بالطبقات العليا في المجتمع، كالأغنياء والموسرين ورجال الدولة، بخاصة أن جُل المجتمعات الإسلامية في القرن الأول الهجري –على أقل تقدير– تربت على أساس الزهد والتقوى وبساطة العيش، ما يشي بأن استخدام الثلج يشير لمظهر من مظاهر الترف والبذخ.
واعتبر أن من ينفق أمواله على بعض الأمور، مثل اقتناء المغنيات وشراء الفاكهة والطيب والشراب والثلج مخالفًا للشرع ومسرفًا، حتى إن الزهاد كانوا لا يقبلون على الماء المُثلج بعد أن شاع استخدام الثلج، واعتبروه من بهرج الدنيا.
مظهر دعة وترف
ظلت هذه النظرة المتقشفة قائمة ولآماد طويلة، ويؤيد ذلك افتقار الروايات والنصوص التاريخية الأصلية والمتقدمة لما يشير إلى استخدامات الثلج في تلك المرحلة من القرن الأول، إلا ما ذكره أبو هلال بن سهل العسكري، وهو مؤرخ متأخر نسبيًا، في كتابه «الأوائل»، من أن الحجاج بن يوسف الثقفي عامل الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان (65-86هـ) على العراق، هو أول من حُمل إليه الثلج في الإسلام، بحسب جاسم.
جاء هذا النص على أهميته بشكل مختصر ومقتضب من دون الإشارة إلى طريقة نقله، وممن تم جلبه، وكيفية تخزينه، وطرق استخدامه، لكن بالنظر إلى سلطة الحجاج القوية والمحكمة وبسط يده على جميع المناطق التابعة له، سواءً في العراق وبلاد فارس أو خراسان، لم يكن من الصعب عليه أن يستجلب الثلج إلى منطقة واسط، لا سيما أن أجواء العراق الوسطى والجنوبية تمتاز بشدة الحر في أشهر الصيف، ومن ثم كانت هناك حاجة إلى جلب الثلج من مناطق الجبال التي يتساقط فيها.
ويبدو أن اعتدال الأجواء في عاصمة الدولة الأموية دمشق، وتمييزها بمناخ بارد نسبيًا في أشهر الصيف، أسهم في قلة الحاجة إلى استخدام الثلج في دار الخلافة، وما يعضد هذا الرأي هو عدم وجود ما يشير إلى هذا الاستخدام في ما ورد من نصوص وروايات تاريخية اهتمت بأخبار العاصمة، رغم أهميتها كمركز للخلافة الأموية، وإن كانت هذه المصادر لا تنفي في نفس الوقت استخدام الثلج.
وما يؤكد أيضًا أن استخدام الثلج في العصر الأموي اتسم بالندرة، هو أن الناس كانوا قريبي عهد برسالة الإسلام وعهد النبوة ومن ثم الخلافة الراشدة، وأن تعاليم الإسلام لم تكن تزال تحث به على الزهد ونبذ معالم الترف والبذخ، كما أن الأمة كانت مقاتلة ومستنفرة بكل طاقتها في نشر الإسلام، ولم تركن بعد إلى الراحة حتى تستجلب مظاهر الدعة والترف والسكون، ولعل استخدام الثلج ومعرفة طرق نقله وجلبه وحفظه لمدد زمنية طويلة يأتي في مقدمة هذه المظاهر، ذكر جاسم.
نقطة التحول في العصر العباسي
في العصر العباسي (132-656هـ)، تغير الأمر بسبب انفتاح الدولة على الأمم المجاورة، وتقبلها لعادات وقيم المجتمعات الجديدة التي انضوت تحت لوائها، وما ترتب عليه من تبادل وتمازج لتلك العادات، فتسربت مظاهر الترف والدعة ولو بشكل نسبي ومحدود في أول الأمر بين الفئات العليا من المجتمع.
وبحسب جاسم، فإن الرمزية التي اكتسبها الثلج في المنظومة الإسلامية رمزية، بأنه نمط ينم عن معالم الترف والبذخ، ظلت قائمة حتى العصور العباسية اللاحقة، لكنها ما لبثت أن تغيرت مع مرر الوقت.
ويرد أول نص متقدم عند محمد بن جرير الطبري (ت310هـ) في كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، إذ يشير إلى استخدام الثلج على نطاق رسمي من قبل الخليفة المهدي (158-169هـ)، ففي سنة 161هـ حمل محمد بن سليمان عامل الخليفة على البصرة الثلج للمهدي حتى وافى به مكة أثناء أداء مناسك الحج، فكان المهدي أول من حُمل له الثلج إلى مكة من الخلفاء.
وشاع استخدام الثلج في قصر الخلافة بعد ذلك، حتى إن الخليفة هارون الرشيد (170-193هـ) حُمل إليه الثلج أثناء أداء مناسك الحج في مكة من بغداد بعدما كان يُحفظ له في مخازن خاصة ومعدة وثابتة، وانسحب الأمر كذلك على ابنه الخليفة المأمون (196-218هـ) الذي حرص هو الآخر على استخدام الثلج في عهده، أما الخليفة المتوكل (232-247هـ) فبلغت نفقات الثلج في عهده ألف ألف درهم حسب ما روى جاسم.
ولم يكن حال الوزراء بأقل من حال الخليفة، حتى إن الثلج أصبح يعطي ضمن مخصصات رجال الإدارة.
مصادر الثلج وطرق نقله وحفظه
في ظل هذه التحولات التي مرت بالثلج في العصور الأولى للدولة الإسلامية، تبرز تساؤلات خاصة بمصادره، لا سيما في ظل عدم توافر تقنيات تحول الماء إلى ثلج، أو تحفظه كما الآن، وهو ما تشير إليه فوزية عبداللطيف شحادة في دراستها «فن الطبخ والموائد في العصر العباسي»، حيث ذكرت أن طقس إقليم العراق كان باردًا في الشتاء، وربما جُمد الماء في البصرة وبغداد، وتكونت الثلوج التي كثيرًا ما كانت تلحق الضرر بالزرع، لذا كان الثلاجون يجمعون هذا الثلج ويكبسونه ويخزنونه بطريقة معينة لاستخدامه في فصل الصيف الذي كان شديد الحرارة، كما كان الثلج يُحمل أيضًا إلى السكان من جبال بلاد فارس.
وذكر الطبري أنه في سنة 285هـ وقع بردٌ كبيرٌ، وفي سنة 296هـ سقط في بغداد ثلج كثير، وكذلك في عام 339هـ في منطقة أعالي الفرات سقطت ثلوج كثيرة، وجمد الماء في بغداد عام 392هـ.
وفي بداية القرن الرابع الهجري سنة 417-418هـ شهدت العراق موجات برد شديدة وعواصف ثلجية هوجاء، صحبها سقوط مطر وثلج في منطقة النعمانية، وفي عام 430هـ سقط في بغداد ثلج علا وجه الأرض قدر شبر، وفي صيف نفس العام كان حر شديد.
وسقط ثلج كبير في بداية القرن الخامس الهجري أيام الخلفاء الرشيد والمعتز والمقتدر والطائع والمطيع والقادر والقائم، وفي سنة 553هـ، و554هـ، و573هـ، جُمدت مياه الآبار وسقطت الثلوج.
وبحسب شحادة، كان الثلج يُجمع من أعلى الجبال ويُكبس ويُحفظ في أكياس خيش، ويغطي تمامًا بنشارة الخشب، لمنع تسرب الحرارة إليه، وهذه الطريقة كانت مستعملة في الأقطار المختلفة، واستعمل الثلاجون أيضًا صهاريج أو «مثالج» تحت الأرض لحفظ وخزن الثلج في أوان سقوطه في الشتاء إلى أوان استعماله في الصيف.
وكانت هناك مراكز للثلج ينتقل فيها من منطقة لأخرى بواسطة مراكب أعدت خصيصًا لنقلها، وكانت تُدفع مكوس كبيرة على عملية النقل، وكان قيمتها في الشام أكثر من بغداد لتوفر الثلج بصورة أكبر في العراق، لكن هذه المكوس أزيلت في ما بعد، ذكرت شحادة.
وبسبب شدة حرارة الصيف في بغداد، استعمل الخلفاء والأغنياء الثلج في حياتهم اليومية لتبريد الماء والمشروبات، أما العامة من الناس فاستعملوا وسيلة أخرى من خلال ملء أوان ووضعها داخل أوانٍ أخرى في الشتاء، فإذا انقضت شربوا منها ماء باردا في الصيف، وسموا هذه الأكواز بـ«الثلجيات». كما استعملوا أيضًا الجِرار لتبريد الماء، وكذلك ما يسمى بـ«المزملة» أو «البرّادة»، وهي عبارة عن آنية تُلف بالخيش أو الجلود للحفاظ على برودة الماء. ونفس هذه الطرق التي استعمل العراقيون فيها الثلج استعملت في باقي الأقطار الأخرى كالشام وطرابلس ومصر.
وكان التثليج هو الطريقة الوحيدة الشائعة لحفظ المأكولات طازجة، فعلى سبيل المثال، كان الشمام يُنقل من خوارزم إلى بغداد محفوظًا في صناديق نحاسية حولها جليد.
كما استعملوا قوالب رصاص معبأة بالثلج لحفظ الفواكه والبطيخ وبعض العلاجات والوصفات الطبية، وكانت تُرسل إلى المأمون والواثق.
الفقراء والثلج
يذكر الدكتور فهمي سعيد في كتابه «العامة في بغداد في القرنين الثالث والرابع للهجرة. دراسة في التاريخ الاجتماعي»، أنه منذ نهاية القرن الثاني عرفت بغداد محلة «أصحاب الثلج» أو «درب الثلج» حيث يكبسونه ويبيعونه.
وكان بعض الموسرين يكبسون الثلج في دورهم ويشربونه، لكن ذلك لم يمنع من حصول الفقراء على الثلج، فقد كان الماء المثلج يباع في شوارع بغداد، إذ كان من الطبيعي أن ينتشر السقاؤون يبيعون الماء المبرد أو المثلج للحرفين والتجار والمتسوقين، وكان في بغداد منفذ يعرف بـ«مشرعة الروايا» يأتيها السقاؤون ويملؤون جِرارهم منها، وكان المحتسبون يوصون موظفيهم بمراقبة السقائين وجِرارهم ونظافة مياههم.
وبحسب سعيد، من الثابت أن الخليفة وكبار رجال القصر كانوا يستهلكون الثلج بكميات كبيرة، فقيل إن نفقاته في زمن المتوكل بلغت مليون درهم، وأقام مفلح الأسود أحد الخليفة المقتدر مأدبة للسلطان سنة 312هـ، فأغلق أنهار بستانه ورصف بعضها، وطرح فيها 50 ألف رطل ثلج، وأجرى فيها الماء والشراب.
ولم يكن ولع الوزراء بالثلج بأقل من ولع الخلفاء به، وأشهرهم علي بن محمد بن فرات وزير المكتفي بالله ومن بعده المقتدر بالله، حيث كان يقدم لرواد داره الماء المثلج في الفصول الأربعة، فكان سعر الثلج يرتفع دائمًا في بغداد أيام وزارته، وذكر أنه سقى الناس في أول يوم من وزارته الثانية أربعين ألف رطل من الثلج.
وكان الثلج يُعطى ضمن مخصصات رجال الإدارة، فقد كانت وظيفة ابن بقية وزير معز الدولة سنة 358هـ في كل يوم ألف رطل ثلج.
ورغم ذلك، استمر عدم إقبال الزهاد على الماء المثلج، واعتبروه من بهرج الدنيا مثلما كان الحال في العصر الأموي، حتى أن الوزير علي بن عيسى رفض أن يفطر صيامه على ماء مثلج قدمته إليه إحدى الجواري في قصر الخليفة المقتدر.
تبريد منازل الأثرياء بالثلج
ولم يقتصر استخدام الثلج على تبريد الماء أو حفظ الطعام، فامتدت استخدماته أيضًا إلى تبريد البيوت عبر أدوات بدائية، مثل «برادات الخيش»، الذي يُبل بالماء ويتم تدويره أو ترويحه شمالًا ويمينًا على يد غلمان بما يشبه حركة المروحة، وكانت تعلق على البرادة كيزان الماء ليجعلوها تبرد، ومن هذه «البرادات» ما كان ثابتًا ويستخدم في البيوت، ومنها ما كان يستخدم في حرّاقات (سفن صغيرة) في نهر دجلة، بحسب ما ذكر جاسم في دراسته المذكورة آنفا.
إلا أن تلك الوسائل في تبريد الهواء اقتصرت على الفئات العليا في المجتمع، ولم تكن لتطال الفقراء لكلفتها العالية، كما لم يكن باستطاعتهم الحصول على الثلج، فلجأوا إلى تبريد المياه بالجرار، وربما وضعوها في الظل كأن تكون تحت شجرة أو بجانب شباك يدخل منه الهواء فيبرد الماء، وكانوا يقارعون حر بغداد بالنوم على السطوح.