أنا أعرف أنه أمر غريب، لكن في البداية دعني أدفع عن نفسي تهمة التحريض. هذا المقال لا يحرضك أبدًا على التدخين، كما لا يعدك مطلقًا بالفوز بالمونديال، بصراحة نحن لا نحظى بفرص كبيرة بالتتويج على كل حال، سواء دخنا أم لم ندخن.الآن وبعد أن برئت ذمتي، أريد منك أن تتخيل مدربًا مصريًا في مؤتمر صحفي، يسأله أحد المراسلين عن الصور التي ظهر فيها لاعبه وهو يدخن، ليجيب المدرب بثقة وهدوء: حسنًا، التدخين لن يؤثر على أداء اللاعبين. لا أشك أن تصريحًا كذلك سيتحول لحديث الساعة. سيملأ الصفحات الساخرة على فيسبوك خلال دقائق. ستتناوله جميع برامج التوك شو. وسيكون هناك عدد من المداخلات الهاتفية لزملاء المدرب يتبرأون مما نطق به لسانه، ثم سيدخل المدرب نفسه ليقسم بالله أنه لا يطيق رائحة السجائر محاولًا إنقاذ سمعته، وهذا طبعًا قبل أن يستمع لخبر إقالته في المداخلة الهاتفية التالية من رئيس النادي. أما في نهاية اليوم سنكون على موعد مع فقرة الكابتن «رضا عبد العال» الخاصة، حيث حزمة من الأسرار والنكات عن انتشار التدخين في الملاعب وبين نجوم الدوري.

لحظة واحدة، ماذا لو أخبرتك أن ذلك كان تصريحًا حقيقيًا؟ وأن صاحبه ليس مدربًا مصريًا، بل هو «أرسين فينجر»؟

سيجارة ميسي

بالطبع هناك قائمة طويلة ومرعبة من الأمراض قد تصيب المدخن، حتى تم اختصار تلك القائمة بالجملة الشهيرة التي تطبع على علب السجائر: «التدخين يسبب الوفاة». ولهذا ينبغي ألا يقترن اسم أي رياضي بالتدخين، لكن كما تعلم فإن المفترض شيء، والذي يحدث على أرض الواقع شيء آخر.علاقة التدخين بكرة القدم قديمة؛ لم تبدأ مع تصريح فينجر، ولا مع الاتهامات التي طالت حارس مرماه «فويتشيك تشيزني». الأمر بدأ قبل ذلك بكثير وبصورة غريبة للغاية. فقبل مائة عام من اليوم، وتحديدًا مع نهايات القرن التاسع عشر، كانت كرة القدم تحقق انتشارًا كبيرًا. وقد تنبه موزعو السجائر للجماهيرية التي بدأ لاعبو الكرة في اكتسابها، ومن ثم قرروا إلصاق كروت تحمل أسماء ورسومًا لهم على العلب بهدف الدعايا والتسويق. تطور الأمر مع ثلاثينات القرن المنصرم، وقامت شركات التبغ بتوقيع عقود مع اللاعبين للظهور في حملات دعائية. وقد كان أول هؤلاء لاعب نادي إيفرتون «ديكسي دين» الذي ظهر على أغلفة شركة «كاريراس كلوب»، لكن شركة «كرافين أيه» حققت خطوة أكبر عندما أقنعت اللاعب الإنجليزي الفائز بجائزة البالون دور «ستانلي ماثيوس» ليكون بطل حملتها الدعائية التي حملت اسم «هذه السيجارة لي»!
صورة لحملة شركة التبغ Craven A ويظهر فيها اللاعب الإنجليزي «ستانلي ماثيوس»

والآن لابد أنك تتساءل؛ كيف تسمح الأندية والفيفا للاعبين بالترويج لمنتج ضار كالسجائر؟ في الواقع حتى ذلك الوقت، لم تكن الأبحاث العلمية قد توصلت بعد للضرر البالغ الذي يسببه التدخين، ولا ربطت بينه وبين الأمراض القاتلة كتصلب الشرايين وسرطان الرئة، ولذلك لم يكن هناك مسئولية أخلاقية تقع على ديكسي أو ماثيوس. المثير هو تخيّل كيف سيكون الأمر لو لم يحسم العلم موقفه من تبعات التدخين حتى اليوم، هل كنا لنرى ليونيل ميسي في حملة لشركة مارلبورو في مواجهة كرستيانو رونالدو بطل إعلانات شركة دنهل؟


دخان بين الشوطين

بعد الفقرة الأولى، يمكننا الوصول بضمير مستريح لاستنتاج محدد. بما أن هذه الأندية كانت تمنح الضوء الأخضر للاعبيها بالترويج لشركات التبغ، فلابد أنها كانت تسمح لبعضهم آنذاك بالتدخين. وهذا ما يؤكده الكاتب «إيدي جريفن». يستدل جريفن على ذلك الأمر بواقعتين؛ الأولى هي لـ«فرانك باكلي» مدرب ولفرهامبتون في الفترة بين 1927 وحتى 1944 والذي كان يمنع كتيبة الولفز من التدخين قبل يومين فقط من المباريات ويسمح لهم بقية أيام الأسبوع. أما الثانية فكان بطلها «هيربرت تشامبان»، المدرب الذي صنع تاريخًا لأرسنال في الثلاثينات، حيث أقدم على خطوة جريئة عندما وضع بند عدم التدخين شرطًا أساسيًا عند التعاقد مع اللاعبين، وهو ما يكشف انتشار الظاهرة بين اللاعبين في تلك الحقبة، حتى أصبح قرار تشامبان هو الاستثناء. عمومًا يمكن تفسير هذا الانتشار بسبب جهل اللاعبين والإدارات لأضرار التدخين، لكن هل انتهت تلك الظاهرة بعد أن بات معلومًا للجميع كلفته الباهظة؟ إطلاقًا، والسبعينات وحدها كانت شاهدة على مجموعة من أفضل اللاعبين في تاريخ كرة القدم واشتهر عنهم التدخين بشراهة لا يمكن تصديقها. الاسم الأول في تلك المجموعة هو «يوهان كرويف»، وينبغي أن تكون استنتجته تلقائيًا من عنوان الفقرة، لماذا؟ لأن الجناح الطائر كان يستغل الاستراحة بين شوطي المباراة فعلًا للتدخين. وقد اعترف الأسطورة الهولندية أكثر من مرة بإدمانه السجائر في كل مراحله منذ كان لاعبًا ناشئًا، وحتى صار مدربًا وإداريًا، حتى أنه فشل في التخلي عنها إلا بعدما أخبره الأطباء عام 1991 أن الأمر صار خطيرًا وأنهم لم يعودوا مسئولين عن حياته! الاسم الثاني لا يحظى بشهرة كرويف في عالمنا العربي، غير أنه في بلده إنجلترا يمتلك شعبية جارفة. هو «جاك شارلتون» أسطورة نادي ليدز يونايتد الإنجليزي. وفي الواقع نحن لسنا بحاجة لانتزاع اعتراف من شارلتون عن التدخين، فأشهر صوره على الإطلاق كانت في أحد تدريبات فريقه ليدز، وقد ظهر مرتديًا الزي الرياضي كاملًا وينفث الدخان. الجدير بالذكر أن جاك يظن نفسه محظوظًا لأنه لعب في عصر لم يمنعه فيه أحد من التبغ، أما اليوم فيرى أن اللاعبين يعيشون في عالم غريب وتفرض عليهم قوانين مقيدة! أخيرًا لا ينبغي أن نمر هكذا دون أن يذكر اسم «دييجو مارادونا». وقد لخص علينا الكاتب «سيمون هاتنستون» كثيرًا من التفاصيل عن العادات الصحية السيئة لملك الأرجنتين قائلًا إن أفضل أيامه كانت عندما يكتفي بتدخين السجائر وحسب، أما في يومه العادي فأطلق لخيالك العنان. دعنا هنا نتوقف عند نقطة هامة للغاية. حاول تأمل الجوانب المشتركة بين الأسماء المذكورة لنكتشف أن الثلاثة كانوا لاعبين على قدر كبير من الموهبة، ولا تستطيع الأندية والمنتخبات الاستغناء عن خدماتهم، كما يتمتعون بجماهيرية مهولة. وهذا هو المفتاح لفهم لماذا كانت تسمح لهم الإدارات بهذا الشكل من الانتحار البطيء؟ ببساطة لأنه لم يكن هناك في العالم سوى كرويف واحد، وشارلتون واحد، ومارادونا واحد فقط.

من اليمين: جاك شارلتون، يوهان كرويف، ودييجو مارادونا


الكرة في خدمة السرطان

يوهان كرويف، دييجو مارادونا، جاك شارلتون، التدخين، كرة القدم، الأرجنتين، هولندا، إنجلترا.
في أحيان كثيرة يتحول الالتزام بقواعد محددة وصارمة لأمر ممل يعتاده الإنسان، وعندها قد يندفع نحو خرق النظام والتحايل على المفروض ليخوض المغامرة. هذه القاعدة الغريبة تنطبق أيضًا على عالم كرة القدم. فهناك قوانين وأعراف تحكم اللعبة يحفظها المشجع قبل اللاعب، وقد تكررت أمام عينيه مئات المرات. أما تحدي هذه القوانين فإنه لا يحدث إلا نادرًا، وإن حدث فهناك احتمالية ممكنة لاكتشافه وعقاب المرتكب، لكن عندما يحدث ويفلت صاحبه من العقاب بل ويكون سببًا في أفضلية له على حساب الخصم فحينها ينال إعجاب قطاع غير قليل من الجماهير. لذلك مثلًا فإن الهدف الذي يسجله اللاعب بيده، وضربة الجزاء غير المستحقة التي حصل عليها، وحالة التسلل التي لم يكتشفها الحكم؛ كل هذه الحالات لها جاذبية ما عند البعض. وكذلك أيضًا التدخين في عالم الرياضة، خصوصًا عندما يكون اللاعب صاحب شعبية طاغية كمارادونا وكرويف. هنا الناس لن تسمح له فقط بالتدخين، ما دام قادرًا على إبهارها في الملعب، بل قد تتأثر به سلبيًا. وهنا تصبح الكرة في خدمة السرطان!وقد تنبهت المنظمات والاتحادات لهذا الخطر خلال التسعينات كما العقد الأول من الألفية الثانية، وبدأت في إشراك نجوم الكرة في حملات التوعية ضد التدخين والمخدرات لاستغلال شعبيتهم، وعندما أطلق الاتحاد الأوروبي حملة ضخمة عام 2002 لم يقع الاختيار إلا على «زين الدين زيدان» ليكون بطلها. على الجانب الآخر، ومع مرور السنوات وتطور الإمكانيات الطبية والتقنية، تمكنت الأندية مبكرًا من اكتشاف المدخنين. وغلظت عليهم العقوبات المالية والتأديبية بهدف حماية اللاعبين ومحو أي صورة سلبية قد تتشكل في عقول الجماهير. في السابق لم يكن غريبًا أن يحترف أحدهم الكرة ويواصل التدخين طوال مسيرته دون رادع، أما اليوم فإن الوضع قد اختلف ولن تجد لاعبًا يدخن بشكل دوري ومستمر إلا «ماريو بالوتيلي» طبعًا. في الوقت ذاته، نحن لا نعيش في عالم كرة قدم مثالي ويخلو من المدخنين، إذ لا يزال هناك من يظهر في الحفلات وعلى الشواطئ خلال فترات التوقف والإجازات وهو يحمل السجائر، أشهرهم على الإطلاق هما: جاك ويلشير وتشيزني، وهذا النوع من التدخين لا يراه أرسين فينجر -كما أشرنا- عائقًا أمام اللاعب.والحق أن اللاعبين يدخنون لنفس الأسباب التي قد تدفع بعضنا أيضًا للتدخين. هم في النهاية بشر يؤدون وظيفة، وأمامهم تحديات في إثبات جدارتهم والمنافسة على حجز مقعد أساسي وتحقيق طموحات الجماهير، وكل هذا يراكم الضغط فوق رؤوسهم، وهنا يتجه بعضهم للتبغ.
صورة لزين الدين زيدان يدخن خلال مونديال ألمانيا 2006

وليس دليلًا على ذلك سوى زيدان نفسه، فبعد ظهوره في حملة «لا للتدخين» بأربع سنوات، كان يتواجد في ألمانيا حيث يقود منتخب الديوك في آخر جولاته الدولية، وكان التحدي أمامه كبيرًا بعد إخفاق رفاقه في مونديال 2002، وهنا التقط أحدهم صورة لزيزو وهو يدخن قبل يوم واحد من نصف النهائي المونديال.