معضلة الدخان واللهب: حول علاقة المرض النفسي بالإيمان
في كل مرة يدور الحديث حول ظاهرة الانتحار أو يتم فتح ملف المرض النفسي عمومًا، تجد الصراع متأججًا حول ما إذا كان للمرض النفسي صلة بعلاقة المريض بالله سبحانه وتعالى، أم أن الأمر طبي ومادي بحت وليس له أي علاقة بأي شيء روحي أو ميتافيزيقي عمومًا.
ما طبيعة المرض النفسي؟ وما الفارق بينه وبين الاضطراب العصبي؟
دعنا أولًا نتعرف على طبيعة الأمراض النفسية، وما إذا كانت جميعها تحدث لأسباب مادية معلومة وخلل يمكن تحديده وعلاجه، أم أنها روحية لا أسباب معلومة لها.
وهنا يمكننا الاستعانة بمرجع مهم ومُبسَّط، وهو كتاب The idiot brain للكاتب وعالم الأعصاب الإنجليزي Dean Burnett، حيث يشير الكاتب للأمر في الفصل الثامن في كتابه بعنوان When the brain breaks down، موضحًا الآتي:
إذًا يتضح من كلام الكاتب أن الاضطرابات العصبية هي فقط التي يمكن إسنادها لخلل مادي يمكن علاجه، أمّا النفسية فلا يمكن علاجها بالكلية بسبب غياب الأسباب المادية الحسية التي تمثل الخيط الذي يحاول العلم تتبعه، كالاضطرابات الوجدانية مثل Bipolar disorder (الاضطراب ثنائي القطب) والمعروف في الأوساط الطبية أنه مرض مزمن لا يمكن علاجه بالكلية، وإنما يعتمد المُصاب به على بعض المثبطات المزاجية (Mood stabilizers) التي تحاول علاج الأعراض فقط لمساعدته قدر الإمكان أن يحيا حياة طبيعية وألا ينتهي به الحال بائسًا أو منتحرًا.
ففي كتاب «الدخان واللهب» للراحل «شاكر عبد الحميد» ذكر فيه:
مما يدل على أن ظاهرة الانتحار يصعب تفسيرها ماديًا تحت مظلة أسس العلم التجريبي أو الطب النفسي، وإنما الأمر روحي وميتافيزيقي.
هل العلاج النفسي الدوائي هو الحل لعلاج الأمراض النفسية؟
كما سبق و ذكرت أن بعض الاضطرابات– وبخاصة الوجدانية- يكون سببها المادي مجهولًا، وهو ما يجعل الطب النفسي يحاول التعويل علي علاج الأعراض المصاحبة لها للتقليل من الأضرار قدر الإمكان، فيكون العلاج منصبًا حول موازنة كيمياء المخ.
وتاريخ الطب النفسي الدوائي لا يستطيع حقًا أن يُنصِفه في هذا الأمر، فإذا حاولنا الحديث عن بعض المشاهير الذين توفوا إمّا منتحرين بسبب الأمراض النفسية وسوء التشخيص والعلاج، أو بسبب جرعات زائدة من بعض الأدوية فقد تطول القائمة، ولكن نكتفي بسرد معاناة الراحل «روبين ويليامز» كمثال معلوم، والذي ظل يعاني الاكتئاب طوال السنوات الأخيرة من حياته، وكانت الأدوية العصبية تُصيبه بفقدان الذاكرة وتُفقِده أيضًا قدرته على الارتجال والتمثيل، مما كان يزيد من اكتئابه.
ففي نهاية مسيرته كان ويليامز يشكو انحدار قدراته الكوميدية وعسر الهضم وصعوبة الحركة حتى وصل الأمر إلي إصابته بالارتعاش، بخاصة في يده اليسرى، مما أدى إلي تشخيصه بمرض «باركنسون». ومع ازدياد الأدوية النفسية، كانت تصيبه نوبات من جنون الارتياب Paranoia، حتى انتهى به الأمر بأن مات مُنتحرًا.
والجدير بالذكر أن تقرير الطب الشرعي لجثته أوضح أنه كان يعاني من أحد أنواع الخرف يُدعى «خرف أجسام ليوي»، وما أدى إلى تدهور حالته هو سوء التشخيص.
علاقة الفن والإبداع بالاضطرابات النفسية والانتحار
في كتاب «ثمن العظمة» The Price of Greatness، أوضح «أرنولد لودفيج» أن أعلى معدلات الاضطراب الانفعالي كانت موجودة لدى الشعراء بنسبة 87%، وبنسبة أقل تصل إلى 77% بين كُتّاب الرواية والقصة القصيرة، ثم الممثلين والمؤلفين والموسيقيين.
كذلك أفرد الراحل «شاكر عبد الحميد»، في كتابه «الدخان واللهب»، فصلًا كاملًا بعنوان «مياه ونيران ورماد»، والذي كان يدور حول علاقة الإبداع بالاضطراب النفسي، حيث أوضح أن الدراسة التي قام بها «فيلكس بوست» عن علاقة الاضطراب النفسي بالإبداع لدى 291 من المبدعين، وجد خلالها خمس حالات انتحار (الكاتب «إرنست همنجواي»، والرسّام «فان جوخ»، والمؤلف الموسيقي «تشايكوفيسكي»)، وغيرهم من
المبدعين في الماضي والحاضر آل بهم المرض النفسي في نهاية المطاف إلى المصير ذاته. واختتم شاكر الفصل موضحًا أنه «لا يوجد دليل واضح عن طبيعة العلاقة بين الإبداع والانتحار».
ولكن يمكن أن نجد ذلك الدليل في ضوء العلاقة بين الفن والإنسان من منظور الرئيس الراحل «علي عزت بيجوفيتش»؛ فالعمل الفني من منظور بيجوفيتش يعكس النظام الكوني من دون أن يستفسر عنه، والفن في كينونته باحث عمّا هو إنساني، وفي ضوء هذا البحث أصبح باحثًا عن الله، سبحانه وتعالى. فكان الراحل يرى أن العمل الفني «مسألة جوانية… سر… مسألة إيمان»، وأن الفن هو «النشاط الغامض والبحث عن المستحيل والمحاولة اليائسة للإمساك بالنار… الروح… جوهر الحياة».
ففي ضوء رؤية بيجوفيتش يمكن استنتاج تأثير الفن على الإنسان، فالفن قد يكون حقًا غذاء للروح، ولكنه غذاء لا يُسمن ولا يغني من جوع النفس إلى الوصول للحقيقة المطلقة وراء وجوده في هذا الكون، فالفن يدور حول حقيقة الوجود من دون الجزم بأنه يملك الحقيقة المطلقة، أمّا الدين والخطاب السماوي هما منْ يملكان الإجابة حول حقيقة وجود تلك النفس على الأرض. لذلك، فالانتحار يمكن تفسيره في ضوء الفن علي أنه نتيجة لاكتشاف الإنسان أن «المثالية» التي يبحث عنها لا توجد هنا وإنما في الدار الآخرة، وأنه لا ينتمي للأرض كانتماء باقي المخلوقات، وإنما خلقه، الله عز وجل، للخلود، والفن يترك الإنسان مُعلقًا، يُشعِره بأنه مختلف، ولكنه لا يعطيه الإجابات الشافية.
فيمكنك تخيل وضع الإنسان الأوروبي في مطلع القرن العشرين وهو يستمع لمقطوعة Ode To Joy لبيتهوفن وما بها من دعوة للأخوة والمحبة بين أبناء الأرض جميعًا، ثم يفاجئه الواقع بالحرب العالمية الأولى والثانية، حيث بنو البشر ليسوا أخوة وإنما أعداء يزهقون أرواح بعضهم البعض، هنا تكمن معضلة الفن والانتحار.
وهنا يقدم الدين والخطاب القرآني الصورة الواقعية أن الدنيا دار ابتلاء، ولا راحة إلا في الآخرة، على عكس الصورة المثالية التي يخدع بها الفن الإنسان، فيتركه مُمزقًا بين جنة يأمل في إدراكها وواقع مأساوي لا خلاص منه إلا بالتسليم لله، أو الانتحار.
«شعب متدين بطبعه»
قديمًا كانت المجتمعات العربية- وبخاصة المجتمعات ذات الطبيعة التراحمية كمصر- تملك مرجعية دينية شديدة التأصل بين أفرادها، فالمرجعية التراحمية هي في الأصل ذات طابع ديني، فلم تكن ظاهرة الانتحار واضحة جلية في عصور ما قبل الحداثة في القرن الماضي في مصر والمجتمعات العربية، وإن كانت الأمراض النفسية حينذاك موجودة. على عكس المجتمعات الغربية التي تشرّبت الحداثة سريعًا وبدأت ظاهرة الانتحار بالتفشي داخلها كالوباء.
وكان يمكن تفسير تلك الظاهرة في ضوء المرجعية الدينية لدى الأفراد، وعدم ردّهم كل الأشياء إلى التفسيرات المادية فحسب، ففي القرن الحالي يمكن أن تجد منْ يستنكر عبارة «ابن خلدون» الشهيرة «الظلم مُؤذِّن بخراب العمران»، تمامًا كما يستنكر البعض الآن نصح المصابين بالأمراض النفسية أو منْ يُعانون من الأفكار الانتحارية بالقرب من الله ومحاولة ملازمة الصلاة والأذكار، ففي كلتا الحالتين لا يمكن للمُستنكر أن يتجاوز الماديات، فهو يرى أن خراب العمران بسبب تدهور المنظومة الهندسية وحسب، كما يرى أن النفس لا علاقة لها بالله، سبحانه و تعالى.
ففي الماضي يمكن ملاحظة غياب تلك المرجعية المادية البحتة و ظهور المرجعية الدينية –بجانب الأخذ بالأسباب و عدم تركها- في موقف يحكيه الراحل «عبد الوهاب المسيري» في كتابه «رحلتي الفكرية» حيث يقول:
فعلي عكس ما يدعيه البعض، أن أسباب الأمراض النفسية هي التخلف الحضاري والعلمي وتدني مستوى المعيشة، تظهر الإحصائيات قديمًا وحديثًا صادمة للبعض؛ حيث إنه في اليابان وخلال فقط عام 2020 الدراسي حدثت 415 حالة انتحار لطلاب مدارس تتراوح أعمارهم بين 6-18 عامًا، وطبقًا لتقرير رسمي لمنظمة الصحة العالمية أن عدد حالات الانتحار في السويد عام 1967 كان قد بلغ 1702 حالة، بما يزيد على عام 1960 بمعدل 30%، وكانت السويد آنذاك تقف على رأس العالم من حيث الدخل القومي.
الحقيقة المطلقة
الواقع يشير إلى أن الانتحار والأمراض النفسية لا يمكن التعامل معهما بمبادئ العلم الحداثية أحادية البعد، ويستحيل إهمال الجانب الروحي فيها المتمثل في ثنائية الخالق والمخلوق. فمحاولة التعامل مع الأمراض النفسية والاضطرابات التي لا أصل عضوي لها على أنها مجرد اضطرابات في كيمياء المخ، هي محاولة داروينية للتعامل مع الإنسان على أنه مادة بهيمية لا أقل ولا أكثر. فلسفة حداثية تحاول طمس ثنائية الإنسان والطبيعة وتحويلهما إلى شيء واحد، حيث الإنسان هو ابن الطبيعة المادية ولا يمكن تفسيره في ضوء أي شيء خارج الأطُر الخاصة بها.
الإنسان ليس فقط عبارة عن جسد، وإنما هو أكثر تعقيدًا من ذلك، فهو روح من أمر الله سبحانه وتعالى، ونفسٍ قد سواها وألهمها ما بها من فجور وتقوي، تطمئن بذكر خالقها وبالقرب منه، وتشقى في الإعراض عن الذكر الذي هو رسالتها وأصل وجودها على الأرض.
فالتسليم لله كما يقول بيجوفيتش: «هو الطريقة الإنسانية الوحيدة للخروج من ظروف الحياة المأساوية التي لا حل لها ولا معنى… إنه طريق للخروج بدون تمرد ولا قنوط ولا عدمية ولا انتحار».