المنازل الذكية: ثورة تجدد مفهوم السكن والتربية والصحة
تعود إلى منزلك مرهقا آخر اليوم، فتنساب موسيقى عذبة من الساعات المركزية، ويبدأ تحضير العشاء وتنطلق غلاية الماء في العمل، وتسطع الأضواء، وتبدأ تهيئة الحرارة وفقًا للنشاطات الحالية، ويُفتح التلفاز على القناة المفضلة. يحدث كل ذلك تلقائيًا، قبل أن تدلف عبر الباب، فنظام إدارة المنزل الذكي يقوم بكل ذلك بدلًا منك.
يمكنك أن تستمتع بمشاهدة شاشة التلفاز الذكية المدمجة بالحائط، وإذا أردت أن تضاعف المتعة بالاسترخاء في المسبح الخارجي؛ فيمكنك التحكم بإدارة زاوية التلفاز باتجاه المياه، أو التمتع بليزر النجوم الهلوجرامي الذي تقدمه أمازون، ويضيء قبة منتجعك الشخصي بعرض صور سحب متحركة ونجوم متلألئة.
وعندما تسافر بعيدًا، يمكنك تفعيل وضع العطلة؛ لتشغيل وضع الحماية والمراقبة والرصد عن بعد.
فعبر شاشة إلكترونية مدمجة بالحائط،يمكنك بضغطة زر واحد تغيير بيئة المنزل، بكل ما تشتمله من أجهزة وأدوات؛ لتحقيق المستوى الأمثل من الراحة.
مفهوم جديد للتربية
في المساء، ينبهك النظام بموعد خلود الأطفال إلى السرير، فيبدأ في التهيئة بخفض الحرارة تدريجيًا، وكذلك الإنارة بمقدار 30% قبل ساعة من النوم، ويحول الإضاءة في غرفة المعيشة لوضع الاسترخاء؛ فبفضل التغيير الذكي للإضاءة، يمكن التأثير في السلوك والنشاط ومزاج الأطفال والكبار كذلك.
وفي الصباح، يزيل النظام الستائر المعتمة، ويفتح النوافذ لتعبر أشعة الشمس وتتمتع بالمنظر الخارجي فيوقظك، ويوقظ الأطفال للحاق بحافلة المدرسة، بينما يبعث مقطوعات موسيقية رقيقة عبر النظام الموسيقي المنزلي أو يشغل محطة الراديو المفضلة لديك، وبينما تتهيأ لأخذ حمامك، الذي قام النظام الآلي بتدفئة أرضيته، تخرج لتنتظرك منشفتك الموضوعة على الرف المسبق تدفئته، وتتناول وأطفالك الإفطار الساخن الذي قام بتحضيره، ثم تستعد للخروج، فيقوم بالتحكم في الإضاءة والحرارة وإغلاق النوافذ والموسيقى، وربما نصحك بأن تأخذ المظلة معك تحسبًا ليوم مطير.
فهذه التكنولوجيا لا تحدث تغييرًا في الطريقة التي نؤدي بها المهام المنزلية وحسب، بل مسئوليات التربية التي يمكن تفويضها للنظام كذلك.
منازل تفكر من أجلك
فاجأنا مارك زكربيرج، مؤسس موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك، في نهاية العام الماضي بإطلاقه جارفيس Jarvis، نظام ذكاء اصطناعي لإدارة منزله كاملًا، وهو صورة في طور التطوير يقدمها زكربيرج عن نظامه الذكي الذي قضى عامًا في تطويره، ويظهر في الفيديو هذا المساعد الرقمي وهو يوقظه، ويحضر له الإفطار، ويساعد ابنته في تعلم الصينية كذلك.
لكن الترويج لمفهوم المنازل الذكية Smart homes، أو أتمتة المنازل Home automation، كان قد بدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عندما طرحت شركة ويستنغهاوس Westinghouse «منازل الغد»، التي تقدم لك خدمات تغنيك عن 864 خادمًا بضغطة زر، فماذا إن كان منزلك يستطيع التفكير من أجلك والإحساس بك؟ فمثل هذه المنازل تصغي إليك وتطيعك.
ازداد انتشار الفكرة عقب الحرب الباردة خصيصًا، وحاجة المصانع إلى النساء؛ ف تعين تخفيض الوقت اللازم لهن لقضاء الأعمال المنزلية، ومن ثم، ظهرت الثورة التقنية في المنازل الذكية تباعًا لقيام الثورة الصناعية.
وهي منازل رخيصة الثمن، ومنخفضة الطاقة، وعالية الكفاءة. وتعتمد في تكوينها على الأجهزة أو المواد الذكية، وتستخدم من خلالها التطبيقات والهواتف الذكية والحواسيب اللوحية وأجهزة الاستشعار والشبكات المنزلية والشاشات التي تعمل باللمس والكاميرات وغيرها، تتكامل جميعها داخل نظام يتحكم في الأجهزة المنزلية، بجانب أنظمة الأمن والطوارئ.
تندرج هذه التقنيات عادة وفق أربع فئات؛ تكنولوجيا لاسلكية متكاملة (IWT)، ونظام إدارة الطاقة المنزلية (HEMS)، وحواسيب دقيقة للمنازل الذكية (SHMC)، وأتمتة المنزل (SHS/HA).
العيش المستقل أضحى ممكنًا
مع تطور مستوى المعيشة، وارتفاع متوسط عمر الفرد،يتوقع أن يتضاعف عدد المسنين الذين يتجاوزون 84 عامًا نحو ثلاثة أضعاف، بقدوم 2050.
لكن ليس على المسنين الانتقال إلى دور الرعاية، أو إنفاق تكاليف باهظة في سبيل ذلك. يمكن لهذه المنازل مساعدة المسنين وذوي الإعاقات في عيش حياة مستقلة، وهو ما تسعى إليه الأبحاث التكنولوجية الحديثة لتطوير ومعرفة مدى دعم هذه التقنيات للمسنين، وقبولها في أوساطهم، وكيف يمكن تأهيل المسنين لتبني هذه المفاهيم الجديدة والاستعداد لها.
التنبؤ بالسلوك لمساعدة أصحاب الإعاقات والإصابات
يبدو أنه يمكن تقدير البلاء قبل وقوعه، فوفقًا للأبحاث العلمية، مثل تلك التي أجرتها كلية علوم الكمبيوتر والهندسة الكهربية بواشنطن، يمكن ملاحظة سلوكيات الأفراد والخروج بنتائج استباقية.
فقد نجحت هذه التكنولوجيا في تقديم نموذج يمكن من خلاله التنبؤ بسلوكيات اليقظة والنوم وأنماطها، عبر خوارزمية حاسوبية؛ أي أنه يمكن التنبؤ عن طريقة سلوكيات النوم بأنماط اليقظة والعكس. ووصلت دقتها في حدها الأدنى 84%، ويمكن أن تصل حتى 99%.
وعلى سبيل المثال، بلغ عدد مرضى آلزهايمر في الولايات المتحدة الأمريكية نحو 5.5 مليون، وهو الرقم الذي من المتوقع تضاعفه نحو ثلاث مرات، بحلول عام 2050.
لذا تقدم هذه التقنيات رعاية لمرضى الإعاقات العقلية، مثل آلزهايمر والخرف، الذين يعانون من ضعف بالذاكرة واستكمال النشاطات الروتينية؛ فعن طريق أجهزة الاستشعار وتقنية التعلم الآلي التي تتعلم أنماط سلوك المستخدم، يمكن تذكير المستخدم بالنشاطات عندما تكشف بيانات النظام وجود صعوبة في استئناف أحدها، أو ملاحظة نمط نشاط غير المعتاد.
توفير الوقت والجهد والطاقة
تمنحنا هذه التقنية مزيدًا من الوقت، وتحرر أذهاننا من القيام بالمهام الروتينية اليومية؛ للتركيز على أمور أكثر أهمية.
ومع أنها تعتمد على أجهزة تقنية متطورة، لكنها موفرة للطاقة. فعلى سبيل المثال، يغلق نظام الإنذار الآلي الأنوار التي تركها الأطفال مضاءة، ويقلل درجات حرارة الغرف التي لا تستخدمها تلقائيًا، وهو يخفض من استهلاك الطاقة بنحو 10 إلى 25%.
كذلك، أظهرت دراسة أن استخدام الأجهزة عالية الكفاءة في المنازل يمكن أن يخفض الطاقة بنسب وصلت إلى 20% في الصين، و27% في البرازيل، ونحو 30% بالهند.
وهم التقنية والخصوصية والعزلة الاجتماعية أبرز المخاوف
- وهم التقنية: تكمن المخاوف في أن هذه التكنولوجيا التي يفترض أن تختصر الوقت والجهد قد تتحول في حد ذاتها إلى أمر يستنزف كليهما؛ معطية المستهلك وهمًا ومفارقة بأن تسويق مجموعة واسعة من الأجهزة والخدمات التقنية وسيلة لتعزيز الممارسات اليومية وتبسيطها.
- اختراق الخصوصية: تجمع هذه الأنظمة بيانات عن المستخدم، تشمل مقاطع صوتية ومصورة، وتحلل أنماط سلوكه؛ ما أثار جدلًا حول الحدود الأخلاقية لهذه التقنيات، وما إن كانت المنافع المحتملة لزيادة الاستقلالية تستحق مبادلتها بالخصوصية التي يوافق عليها المستخدم، وتبدو وسيلة للتحايل على المشاكل الأخلاقية من ناحية الخصوصية. لكن ماذا عن الأطراف الذين لم يوافقوا عليها، أو يعلمون بها مثل الزوار أو الأطفال؟ هذا يكشف أن الموافقة عملية أكثر ديناميكية من مجرد سماح المستخدم الأساسي بذلك، وتحديد تفضيلاته. بل يتعدى الأمر إلى عمليات التلاعب التي تتم بخيارات المستخدم؛ خوفًا من اتخاذه «قرارات تقنية سيئة»، ومدى إتاحة وصول المستخدم لهذه البيانات.
أبرز التحديات
- أدلة متضاربة على دقة أنظمة مراقبة الصحة: ما زالت تقنيات المنازل الذكية المستخدمة في مراقبة الصحة العقلية والبدنية والأنشطة اليومية قاصرة عن التنبؤ بحدوث الإعاقات، أو الوقاية من خطر السقوط، بجانب مدى دقة حكم هذه الأنظمة، وما إن كان تفسير السقوط مثلًا باعتباره علامة على تدهور حالة المريض، أم مجرد حادثة عرضية.
- تصميم واحد ومستخدمون مختلفون: تهدف التكنولوجيا إلى رفع مستوى معيشة البشر وراحتهم وسلامتهم، من خلال تصاميم ذكية؛ لكن لا يوجد حل واحد يناسب الجميع، فواجهات أنظمة الأتمتة الذكية بوضعها الحالي تواجه إشكالية في اعتمادها على نطاق واسع، بعيدًا عن التصميم العالمي الأوحد، وإنما يتعين تقديم تصاميم واجهات مرنة، تناسب تباين المستخدمين لها ومتطلباتهم. إضافة إلى ضعف التكامل بين أنظمة أتمتة المنازل الذكية، والتي بحثتها منصتا أتمتة المنازل؛ إكليبس سمارت هوم (ESH)، والوحدة العالمية للتحكم عن بعد (URC)؛ من أجل التكامل بين مظاهر الاختلاف والتشابه لهذه الأنظمة، وطرح نموذج يدمج بين مختلف الأجهزة والتكنولوجيا، مع توفير واجهات مرنة للمستخدمين وأجهزتهم الشخصية، يمكن إلحاقها وتوصيلها بالنظام، وهو رهين تطوير المفاهيم وراء هذه التصاميم، ودعمها ببنية تحتية مرنة ومتطورة وشاملة.
- شبكات لاستهلاك الطاقة وتوليدها: لم تعد شبكات الطاقة التقليدية قادرة على الإيفاء بالاحتياجات، ما يعد حافزًا أمام ظهور الشبكات الذكية؛ وهو يغير مفهوم إنتاج الطاقة، ويطرح تساؤلًا حول إمكانية الطاقة الممكن توفيرها وتوليدها. فمن خلال هذه الشبكات، يمكن للمستخدمين توليد الطاقة واستهلاكها، وتصدير الفائض منها إلى هذه الشبكة، أي أنه يتعين توفير آلية اتصال ثنائية الاتجاه، باستخدام شبكة الأتمتة المنزلية، وتكوين نظام إدارة الطاقة للسماح بذلك. وهو يمكن تنفيذه عبر خطوتين؛ أولهما، عبر الأوامر الذكية، ونظام إشراف قادر على التفاعل مع عمليات الاستهلاك والتوليد. وثانيهما، تمكين عملية التواصل مع الشبكة الخارجية، من خلال زيادة تبادل المعلومات بين أجهزة المنزل ومرافقها، والمستخدمين عبر شبكات الاتصال الحالي، والتغلب على تعقيدها واتجاهها؛ لتحقيق المراقبة والتحكم في الأجهزة المنزلية، من أجل إدارة مستويات الطاقة، والاستفادة اقتصاديًا منها. علاوة على ضرورة تطوير نماذج للتنبؤ بمستويات توليد الطاقة، وجدولة عمليات التشغيل على النحو الأكفأ اقتصاديًا؛ بما يلبي احتياجات التحميل من الشبكات، ما يمكن تحسينه بالشكل الأمثل، عبر تحديد خارطة الاحتياجات الاقتصادية والصناعية لمنطقة أو مدينة ما.
منازل للسكن أم العزلة؟
ومع كل ما تقدم، فإن مختصين بالعلوم الاجتماعية يعربون عن قلقهم من أن مثل هذه المنازل تكرس للعزلة الاجتماعية، ويطرحون تساؤلات حول نوعية الحياة التي تقدمها هذه المنازل، وتغييرها لمفهوم المسكن باعتباره بشريا في الأساس، وما هي هوية المستخدم ودوره في منظمة الأتمتة الذكية، وصلاحياته في التحكم والسيطرة، والتأثير الإيكولوجي الناجم عن انتشار المنازل الذكية، وتبعاتها الشخصية والاجتماعية، وهو ما ننتظر أن تخبرنا به الدراسات والأبحاث.