فيلم «اليوم السادس»: عن حلم راقص في أحضان الموت
رؤية شاعرية لعالم القاع، قاع المدينة المسحوقة تحت ظلال الفقر والموت، حيث لقاء فريد بين كائنين استثنائيين، «صدّيقة/داليدا» منظفة الثياب، ترجلت للتو من أسطورتها امرأة مسربلة بأزل من الدموع تؤمن بأن المحبة قادرة على أن تهزم الموت. و«عوكا/محسن محيي الدين»، القرداتي الذي يحب صدّيقة و«جين كيلي» ويحلم أن يعانق النجوم.
يحمل «اليوم السادس» والذي عرض للمرة الأولى عام 1986 رقم 29 في فيلموجرافيا «يوسف شاهين»، وهو اقتباس سينمائي بديع لرواية تحمل الاسم نفسه للشاعرة والروائية «أندريه شديد»، وتدور وقائعها في مصر نهاية الأربعينيات في فترة انتشار وباء الكوليرا في البلاد.
لا يخفي «شاهين» افتتانه برواية «شديد» وبشخصياتها، لكن هذا الافتتان لم يمنعه أبدًا من إجراء تعديلات كثيرة على النص الأصلي. هذه التعديلات في نظري منحت الفيلم مزية نادرة، إذ جعلت بإمكاننا اعتبار أن هذا الشريط السينمائي هو الأكثر ذاتية في سينما شاهين بعيدًا عما أسماه النقاد رباعية السيرة الذاتية.
وجد شاهين هنا متنفسًا ليحكي عن ذاته، عن أحلامه وعقده القديمة دون عناء أو حرج. يعيد شاهين النظر إلى مفردات هويته ضمن سياق تاريخي جذاب ومثير. نحاول فيما تبقى من هذا المقال استخلاص عناصر الذاتية في الفيلم وإثبات صحة هذه الفرضية السابقة.
«عوكا»: امتداد لذاتية «شاهين»
في زمن قريب من الزمن الذي تدور فيه أحداث فيلم «اليوم السادس» كان هناك ابن عائلة فقيرة تتدبر بالكاد شئون معيشتها في مدينة أخرى محاصرة بالموت. يعشق السينما وأفلام هوليود الاستعراضية. لم يمنعه فقر أسرته ولا الموت المحيط أن يحلم بأن يكون أعظم ممثل في العالم.
لا فرق إذن بين ابن الإسكندرية وخريج فكتوريا كوليدج، وبين «عوكا» القرداتي، كلاهما يصدق حلمه رغم قسوة الظروف. أو مثلما تقول له ابنة المراكبي الواقعة في هواه: «حلمك أطول منك». يقول لها عوكا: «طيب ما أبويا كان قد الباب، شخطة واحدة من أمي تحتار مين بابا ومين ماما»، هذا تماثل آخر مع العائلة الشاهينية التي تتكرر دائمًا في سينما شاهين، الأم القوية والأب العاجز أو المهمش داخل العائلة.
عائلة «صدّيقة» أيضًا تحاكي هذا النمط، فصديقة هي الفاعلة والمتحكمة، بينما الزوج مقعد وعاجز عن الفعل. بل يمكن القول إن وضع عوكا داخل هذه العائلة هو أقرب لوضع الابن بالنظر لفارق السن بينه وبين صديقة بما يلقي على العلاقة كلها صبغة أوديبية واضحة.
يمكن قراءة علاقة الحب بين «صديقة» و«عوكا» وتطلعه المستمر نحوها وصدها له من وجهة نظر سيكولوجية؛ حيث عوكا الابن الذي يتطلع إلى نظرة المحبة في عيني الأم التي تشعره باكتماله، لكنها تحرمه هذه النظرة لتعزز إحساسه بالنقص. أحد المشاهد في فيلم «حدوتة مصرية» يمكنه أن يؤكد هذه القراءة. يعود يحيى من المدرسة مهانًا بعد أن صفعه مدرسه، يحاول أن يتواصل مع والدته لكنها مشغولة عنه بإغواء رجل آخر غير والده، بل حين تلتفت إليه تتهمه هي الأخرى بالكذب وتصفعه أيضًا.
مشهد آخر قرب نهاية الفيلم، حيث يرسو المركب الذي يحملهما إلى الإسكندرية على شاطئ إحدى القرى، هناك تتابع من اللقطات يمزج فيه شاهين طفولة «عوكا» و«صديقة» معًا. في هذا التتابع «صديقة» هي الحبيبة التي يتطلع إليها، كما يمتزج صوتها أيضًا بصوت الأم: «صايع وواطي زي أبوك». يمتزج شاهين بعوكا تمامًا حين يحدث «صديقة»: «عايزاه يطلع مهندس تدوري وتتفشخري بيه لكن لو عايز يطلع رقاص تحرقي قلبه».
وأخيرًا وجود محسن محيي الدين الذي ارتبط وجوده بوجود الأنا الآخر لشاهين، وذلك عبر فيلمي «إسكندرية ليه»، و«حدوتة مصرية»، والذي يقول عنه شاهين في فيلم «إسكندرية كمان وكمان»: «دا كان يشبهني أكتر ما أشبه نفسي».
«رفحي» أيضًا هو امتداد لذاتية «شاهين»
يبدو «رفحي» -والذي يؤدي دوره شاهين نفسه- مثل نسخة مشتهاة من شاهين. فلسطيني يمتلك دار عرض في مكان فقير تقصدها منظفة ملابس وقرداتي، تمثل مصدرًا للبهجة والأحلام في حياة هؤلاء المهمشين.
في «حدوتة مصرية» ينتقد «مهدي/محمد منير» تعلق «يحيى/نور الشريف» بالغرب وأمريكا قائلًا: «أنا أفضل الغلابة اللي في النوبة، ودولا اللي ماشيين في الشارع يحبوا أفلامك أحسن». يبدو تعلق «عوكا» و«رفحي» بصدّيقة غريبًا، فصدّيقة امرأة ليست بالجميلة ولا المغوية، مسحة من جمال قديم تناضل لتفلت من قبضة الزمن. أعتقد أن هذا الارتباط بها هو تعلق بالحياة نفسها وسط محيط يعبق بالفقد والموت. فصدّيقة وعلى الرغم من هالة الحزن التي تصاحبها أينما حلت فإن قلبها يضج بالحياة على نحو غامض.
سبب آخر أظنه مرتبطًا بشاهين نفسه، فعلاقة صديقة بحفيدها حسن وهذه المحبة التي تغرقه بها هي مثال المحبة الأمومية والتضحية التي كان «شاهين» يتطلع إليها من أمه. يمكننا أن نرى ذلك في المشهد الذي يظهر لنا قاعة السينما الخالية إلا منهما، رفحي/شاهين وصديقة، يشاهدان بنفس التأثر فيلمًا ميلودراميًا عن تضحية أم.
«شاهين»: الهوس بالكائنات المكسورة
أشار الفيلسوف الفرنسي «جيل دولوز» إلى «شاهين» في كتابه «السينما – الزمن». مبينًا أن السؤال الجوهري في سينما شاهين هو سؤال الهوية، سؤال الأنا عن نفسها والأنا في مقابل الآخر. يحاول «عوكا» التقرب من «صدّيقة» بشتى الطرق، ولكنها تقابله دومًا بالصد، تقول له متبرمة من تعلقه بها: «جرى لك إيه، أنت معلق ولا إيه؟».
هذا التعلق الذي يكاد أن يكون مرضيًا، موجود في قلب سينما شاهين، يمكننا أن نراه في شخصيات «هنومة» و«قناوي» في «باب الحديد»، يمكننا أن نراه أيضًا في علاقة شاهين نفسه بممثله الأثير «محسن محيي الدين»، والذي يتناول في فيلمه «إسكندرية كمان وكمان» وقائع انفصالهما فنيًا ومعاناته من جراء ذلك. يقول له مساعده «جندي/زكي فطين عبد الوهاب»: «دي تعليقة إيه السودا دي».
هذا التعلق يعبر عن هوس شاهين بالكائنات المكسورة، مثله ومثل قناوي وعوكا. كائنات تحاول أن تجبر كسرها الداخلي عبر صورتها في مرايا الآخر. الآخر دائمًا هو الطرف الأقوى في المعادلة. هنومة التي تفيض أنوثة وصحة، إذا قبلت قناوي حبيبًا حينها يمكنه أن يتصالح مع عرجه ويتقبل ذاته.
«محسن محيي الدين» كان بالنسبة لشاهين النسخة الأجمل من ذاته، والتي من خلالها يمكنه أن يحقق حلمه القديم بالتمثيل، والرقص، والغناء مثل معبوده «جين كيلي». لذلك كان قرار انفصال محسن عنه نكأً لجرح عميق في ذات شاهين مرتبط بصورته أمام نفسه. بل يمكننا أيضًا خلال هذا الإطار أن نفهم عقدة شاهين تجاه الغرب وسعيه المستمر لنيل اعترافهم به.
نعود الآن إلى «عوكا» و«صدّيقة»، «عوكا» أيضًا الذي يحلم بليلة في أحضان الشقراوات، ومحاولته لصبغ شعره، وحلم السينما، ومحبته لصدّيقة هي محاولة لعقد صلح مع ذاته، للَأْمِ جرحه القديم والمتعلق برفض الأم له. «اليوم السادس» هو فيلم موجع وعذب، أنشودة شاهين التي تتغنى بالحياة، الحياة التي تفلت كل صباح من بين أصابع الموت، أنشودة البهجة المغسولة بالدموع.