«ست زوايا للصلاة»: حينما يؤم الخيال أساطير القرية
بحكم نشأتي، تسنّت لي الفرصة بالوجود في العطلات الصيفية بقرية صغيرة. حضرت أول «مولد» لـ«سيدي…» (الذي لا أذكر اسمه حتى). استمعت- وكنت صغيرًا- عن السيدة التي حجّت البيت وهي في منزلها، عن روح غائبة أمرت أحد أقاربي بفعل شيء ما، والحلم الذي يُفسِّر ما حدث بالفعل، والقرع على الأواني لأن «القمر مخنوق». ظلت تلك جميعها ذكريات، إلى أن بدأت أتمعّن في تلك المواقف وأسمع عنها حين كبرت ووعيت بها.
قد تكون تلك المرحلة السالف ذكرها، هي ما ساعدتني على قراءة مجموعة القاصة والمُترجِمة «أميرة بدوي» «ست زوايا للصلاة»، ولدي معرفة متواضعة بعالم القرية وأفكاره ومعتقداته. رغم هذا، عالم هذه المجموعة غاية في السحر، حيث مزج الخرافة بالأسطورة لخَلق بنيان قصصي مُبهر.
هنا عالم تنفتح بوابته على قرية، تلبسها الخرافة وتتمكن منها شهوة الأسطورة، فتخرج علينا حكاياتها مثل دوائر متداخلة.
مدخل إلى العالم
عندما قررت قراءة المجموعة، توقفت أمام العنوان «ست زوايا للصلاة». لماذا ست زوايا؟ وبعد كثير من البحث، تبيّنت أن الشكل السداسي أكثر الأشكال انتظامًا واستخدامًا في الفن الإسلامي، كأن الكاتبة تؤكد بناء متكامل الأركان داخل عالمها الأسطوري القائم على حكايات وخرافات القرية، سواء اتفقت معها أو عارضتها.
أمّا عن الصلاة، فهي عامل مشترك في مختلف القصص مثل قصة «النعش» و«البومة» و«الولي». صلاة صريحة يتشارك فيها الأبطال/ الشخصيات. وصلاة من القارئ عندما يتوحَّد مع الأحداث، فيميل لـ«كَفة» شخصية على الأخرى.
جنبًا إلى جنب، بَرَع المُصمِّم «عبد الرحمن الصوّاف» في رسم تفاصيل حيوات المجموعة من خلال رسوم الغلاف، والذي اعتبره أول مدخل مع العنوان إلى العالم الذي نوشك على دخوله. حيث القمر، والشمس، والبومة، والقلب، وأكثر.
تُهدي الكاتبة مجموعتها إلى «كعبة سيدي علي». ليطرح الإهداء علامة أخرى عن أجواء العالم الساحر بمسحة صوفية، قبل أن تنكشف مع كل قصة أسطورية الحدث والشخوص على حد سواء.
قبل البدء والتعايش مع العالم، نستعد بإرهاصة من مقطع أكثر تمهيدية من إبداعات الشاعر «محمد عفيفي مطر»، من ديوان «من مجمرة البدايات»:
حيث تتفق القصص في وجود «جرح» ما، بين جُرح صحيح مُخضَّب، أو ما يظهر في الحدث نفسه الذي تعانيه الشخصية.
قرية الخرافة أم خرافة القرية؟
عبر اثنتي عشرة قصة، تتكون أسماؤها من مفردة واحدة، من بين اسم نابع من الخرافة القروية مثل: (النداهة، والغُولة)، وأخرى تُكمِل المدلول الصوفي الساحر كـ«الوَلي» و«الخِضر» و«الكَف». تتشارك القصص نفس العالم داخل القرية. تتجلى عبقرية الكاتبة في استخدام مصطلحات من قلب القرية. نشاهد الحقول… والساقية… ومقام الولي… وضريح العارف بالله… والمساجد… والمولد.
أمّا على صعيد الكتابة، فنحن أمام نُصوص حقيقية لقصص قصيرة لا تشوبها حرف زائد عن موضعه. اعتمدت الكاتبة على عنصر التكثيف بكل تمكّن. في بعض النصوص داخل المجموعة، لخصت كلمة واحدة ما قد يكتبه سطر كامل. هذا إلى جانب التشبيهات والتعبيرات المُعبرة عن روح الشخصيات والمكان، دون تكلف أو اعتيادية التناول.
الأولياء لهم حضور حي وواضح، حيث تُقدَم لأصحاب المقامات والكرامات (العارفين بالله) النذور، يُقام لهم الموالد ويرعاهم الزوّار في كافة الأوقات. هم تجلي روح الله وإيمانهم به من خلال الأولياء ومنْ يخدموهم.
في قصة «الوَلي»، يتقرّب أهل القرية للشيخ «النوبي» خادم ضريح العارف بالله سيدي عامر، فيطمئنوا بوجوده وجلبابه. كذلك ذكر «سيدي عبد الرحمن» و«سيدي خالد»، حيث للضريح جلالته بعيدًا عن العالم الحداثي الذي تحكمه أفكار جديدة تُقلِّل من قيمة الأضرحة والأولياء.
دلالة الألوان والتيمة والشخصيات
يُضيء اللون في النص، فيُضفي عليه السِحر. تُشع الألوان في كل قصة تعبيرًا عن الحالة أو وصفها. فمثلًا: اللون الأزرق يأتي في تعبيرات مثل: (الشتاء الأزرق، والناب الأزرق)، واللون الأسود يأتي في (الغربان السوداء، والكحل الأسود)، واللون الأحمر يأتي في شكل الديك، واللون الأبيض يأتي في الملاءات البيضاء، وأخيرًا يأتي اللون الأخضر في البركة الخضراء. حيث تلمع الألوان وتنطفئ، فتفتتح الحدث أو تُنهيه.
أمّا التيمات داخل المجموعة، فتتشابه أحيانًا وتختلف أحيانًا أخرى، فنجد «الموت» شريكًا أساسيًا في الحدث. نفتتح بوابة القَص مع «الانتقام»- الذي لا يشبه أي آخر- فتقتنع أيها القارئ بضرورة التخلص من «سَنية»، ثم تتحول لترى الوجه الحقيقي، ويأتي الرد الحق في النهاية. تيمة أخرى وهي «التحول» الذي لا يشبه تحول «كافكا» المفاجئ، لأننا نشاهد مراحله حتى يصبح واقعًا.
براعة التناول تكمن في استخدام القصص المعتادة من التراث الشعبي القروي، وإعادة قراءته وخَطه بشكل مختلف. يأتي «المُولد» لنُوفي بالنذور السنوية، فيتحول لفاجعة تحلها عجوز كأنها «مكشوف عنها الحجاب».
تعبر الشخصيات/الأبطال عن طبيعتهم من خلال المهن التي هي- بشكل كبير- أساس الحكاية. أناس تعمل في مهن اعتيادية ذات تحديات يومية، بعيدًا عن عصور الحداثة، وصخب المدينة، والوظائف الحكومية ذات الراتب الشهري. ما بين بائعة خضار، وخياطة، وعامل قطار، وجزار. تعبر مهنهم/حيواتهم عن روح القرية، وتتداخل تلك المهن مع ما يواجهه الأبطال أنفسهم أو منْ يشاركهم الحدث.
«ست زوايا للصلاة» هي أولى أعمال الكاتبة والمترجمة «أميرة بدوي»، وقد حصلت من خلالها على منحة «آفاق للكتابة الإبداعية»، ونشرتها دار العين.