في العام 1820م، سيطر محمد علي باشا على واحات الصحراء الغربية والشرقية، وأخضعها إلى السلطة المصرية[1]، وكان من ضمن تلك الواحات واحة صغيرة تقع في شمال غرب الصحراء الغربية، وعلى بعد حوالي 306 كيلومترات جنوبًا من مدينة مرسى مطروح، و65 كيلومترًا عن ليبيا[2]، والتي نعرفها اليوم بِاسم واحة سيوة.

أطلق عليها القدماء المصريون اسم «أوتو» (outuo)، أي «مكان التحنيط». ذكرها البطالمة بِاسم «بينتا penta» على نقشٍ بأحد جدران معبد إدفو بأسوان، وهو المعبد الذي أهداه بطليموس الأول إلى الإله حور بحدتي المعروف بحورس، ومع تأصل الوجود البطلمي في مصر والواحات تبدَّل اسمها إلى «جوبيتر»، وهو اسم إحدى آلهات الرومان في هذا العصر.

أسماها الإغريق «أمونيوم Ammonium»»، والأقباط «واي wahy» أي المكان المعمور، بينما أطلق عليها العرب -وفقًا لخطط المقريزي- اسم واحة الأقصى.

يعتقد البعض أن هذا الاسم مشتق من لقب صنم يُدعى «سيوخ»، [3]كان موجودًا في أحد معابد سيوة المفقودة، وهو معبد أم عبيدة بمنطقة أغورمي[4]، فيما يرى آخرون أن «سيوة» مُشتق من اسم «تنسيوه» الذي أطلقه ابن خلدون في أواخر القرن التاسع عشر على الواحة، أسوة بِاسم إحدى فروع قبيلة زنتانة الموجودة في ليبيا.

انتبه محمد علي إلى ثروات واحة سيوة بعد عزلة دامت أكثر من 700 عامٍ، كما انتبه كذلك المؤرخون إلى قصصها وتاريخها الثري؛ فسعى العلماء إلى فكِّ بعض ألغاز تلك الواحة المنعزلة، ومعرفة كيف عاش أهلها من الأمازيغ والبدو والعرب والمصريين، وكيف تشابكت عاداتهم وطقوسهم.

وكما غزل أهل سيوة أفخم أنواع الخوص (الغزل بأوراق النخيل) غزلوا طابعهم التراثي والثقافي الخاص بمزيج من العادات الأمازيغية والمصرية القديمة والبدوية والعربية.

واحة آمون

عرفت واحة سيوة بناء أول معبدٍ للإله آمون في عهد الملك سيشينق الأول داخل مدينة أغورمي (تقع في شمال شرق واحة سيوة) بالقرن العاشر ق.م. [5]، وخلال عهد الدولة الفرعونية الحديثة شاع انتشار الإله آمون (إله الشمس)، والذي كان في عهد الدولة الوسطى إله طيبة المحلي.

بعد انتصار الملك أحمس على الهكسوس، أصبحت طيبة مركزًا مهمًّا للدولة الفرعونية الحديثة، ومن ثم صار آمون إله مدينة طيبة هو الإله القومي لمصر، وصاحب المكانة الأولى بين جميع الآلهة المصرية القديمة[6]، بدلاً من الإله حورس الذي لطالما اعتُبر حامي الدولة المصرية في الأقاليم البعيدة عن طيبة.

أثار انتشار ديانة آمون في البلاد غيرة كهنة الإله حورس، وحاولوا وقف تمدده وهو ما فشلوا فيه، فاستمر التدين الآموني في الانتشار بين المصريين بل ووصل إلى الإثيوبيين بعدما غزت مصر دولتهم وأجبرت كهنتها على عبادة آمون[7]، وهو الانتشار الذي استمرَّ في اضطرادٍ حتى اضمحلَّت الدولة الفرعونية الحديثة وتراجعت أهمية طيبة ومعبودها آمون تدريجيًا إلى أن استقرَّ في واحة سيوة، والتي عُرفت فيما بعد بواحة آمون.

حاول الملك قمبيز الثاني (ملك الفرس) عام 525 ق.م غزو الواحة وتحطيم معبد آمون لينتقم من العرّافة الآمونية التي تكهّنت بهزيمته، لكنّه حقّق نبوءتها دون أن يدري، فتاه هو وجيشه في الصحراء وفنوا جميعًا!

وفي عام 331 ق.م، تمكّن الإسكندر الأكبر من طرد الفرس خارج مصر، وقرّر زيارة المعبد لنيل مكانة «ابن آمون»، والسماع إلى تنبوءات كهنة أمون في مسيرته لبناء إمبراطوريته والسيطرة على مصر بشكلٍ كُلِّي، ويبدو أن تعلق الإسكندر بالواحة كان كبيرًا حتى أن بعض المؤرخين وعلماء الآثار زعموا أنهم وجدوا مقبرة الاسكندر الأكبر مدفونة بها، وهذا ما نفاه حينها وزير هيئة الآثار الأسبق زاهي حواس.

وبعد زيارة الإسكندر الأكبر للواحة استمرت ديانة أمون كديانة رسمية لأهل الواحة، حتى موته عام 323 ق.م، وسيطرة رفيقه المُقرَّب بطليموس الأول على حُكم مصر[8]، وبدأ عصر البطالمة الذين أهملوا واحة سيوة ومعه تلاشى الإله أمون وانفرطت قوة نفوذه.

وفي العام 30 ق.م، استغلَّ أوغسطس قيصر (أوكتفيوس – مؤسس الدولة الرومانية) هزيمة زعيمي مصر أنطونيوس وكليوباترا وانتحارهما، وأعلن سيطرته على مصر وضمها إلى الدولة الرومانية مُنهيًا حُكم البطالمة الذي استمر من 323 ق.م : 30 ق.م، لكن هذا لم يُقلِّل من أهمية واحة سيوة التي تدفّق عليها الرومان؛ لأهميتها الجغرافية في الصحراء الغربية، واعتمادهم عليها في التزود بعددٍ من محاصيلها المشهورة كالزيتون والزيت والبلح، [9]حتى أن الرومان بنوا معبدًا في غرب الواحة، أطلق عليه الرحَّالة اسم «معبد بلاد الروم»، وهو أحد المعالم الدينية المفقودة في سيوة بعدما تغطَّى بالرمال[10]، ورغم ذلك استمرَّ أهل سيوة في اعتناق ديانة آمون وعبادته، حتى انتشار الديانة المسيحية[11].

الديانة المسيحية

في عهد الدولة الرومانية، كانت مصر من أوائل البلاد التي اعتنقت الديانة المسيحية في القرن الأول الميلادي، وكما هو معروف حقّقت المسيحية انتشارًا كبيرًا في أرض مصر بدءًا من الإسكندرية العاصمة والمدينة الأكبر ومنها إلى بقية الأقاليم.

وبمرور الوقت اخترقت المسيحية قلب العبادة الآمونية في مصر، وهو واحة سيوة التي انتشرت المسيحية فيها ببُطء وانضم إليها سكان مدينة أغورمي، وشُيِّد فيها الكنائس والأديرة في قرية (قصر الروم) القريبة من قرية (خميسة)[12].

وأكد المهندس ماجد الراهب رئيس جمعية أصدقاء الحفاظ على التراث، في تصريحه لـ«إضاءات» على وجود آثارٍ لكنيسة أثرية في مدينة سيوة لا تزال أطلالها باقية، كما يُدلّل على مدى انتشار المسيحية في الواحة بتواجد الرموز المقبطية فيها، مثل: الصليب والسمكة (رمز التعارف بين معتنقي الديانة المسيحية في عهد الاضطهاد القديم) داخل صناعات سيوة اليدوية.

ومع اندلاع موجة اضطهاد الأباطرة الرومان لمعتنقي الديانة المسيحية، اتجه القساوسة والرهبان إلى واحة سيوة كملجأ من اضطهاد السلطة، واستطاعوا في تلك الفترة العيش بأمان وبمعزل عن التنكيل الروماني.[13]

ويحكي المهندس رامز عزمي مستشار العمارة البيئي لـ«إضاءات»، أنه يذهب إلى واحة سيوة بصفة دورية منذ 1993م بحُكم طبيعة عمله، ومن خلال هذه الزيارات لاحَظ أن النظام القبلي هو المُتحكِّم الأول في المجتمع حتى في اعتناق الأديان، فعندما يتخذ رؤساء القبائل قرارًا باعتناق الدين الإسلامي يتبعهم جميع السكان.

من ناحية أخرى ذكر الأستاذ عبد الله عزمي، أحد أهالي سيوة وعضو في جمعية الصناعات اليدوية بسيوة لـ«إضاءات»، أنه لم تعد تتواجد الآن أي آثار على انتشار الديانة المسيحية في سيوة، وأن الواحة لا تشهد أي طقوس دينية جماعية خلال الأوقات المسيحية، كما لم يعد متبقٍ فيها آثار لأي كنيسة لإقامة الصلاة، كما أصبح عدد معتنقي المسيحية في الواحة قليلاً جدًا، ويتمثّل في الوافدين من خارج الواحة كالعمال أو السياح وغيرهم.

ويؤكد «عزمي»، أن المعتقد السائد الآن بين الأهالي هو الإسلام السني، والذي انتشر بين الأهالي بعد الفتح الاسلامي لمصر.

الديانة الإسلامية

فتح عمرو بن العاص مصر عام 604م، وبالرغم من ذلك فإن السيطرة الإسلامية الجديدة لمصر لم تلتفت إلى الواحة إلا عام 645م على أيدي قوة ترأّسها جعفر بن محمد بن أبي بكر الصديق أخضع الواحة للحُكم الإسلامي لأول مرة، وعلى الفور بدأت التغيرات الديموغرافية في الوقوع على أرض الواحة؛ فهرب الرومان والمسيحيون منها وأقبل على سيوة قبائل من المغرب العربي، عاشت فيها وكانت بداية ظهور القبائل الأمازيغية[14] في هذه البقاع.

تأخّر أهل سيوة في اعتناق الدين الإسلامي، وظلوا يعتبرونه دعوة غريبة عليهم حتى عام 1100م اعتنقوا فيه الإسلام رسميًا.

ورغم ذلك تهمشت الواحة وانعزلت عن العالم، ولم تطأها أقدام غريبة حتى عام 708م، حين عثر عليها القائد العسكري الأموي موسى بن نصير وحاول غزوها وفشل[15] بسبب أسوارها الحصينة وحالة الاكتفاء التي عاش عليها الأهالي، ومكّنتهم من احتمال حصاره.

وفي القرن الثالث من الهجرة (أي ما بين 816 : 913م)، استقبلت الواحة قبائل بنو هلال العربية[16] المنسوبون إلى بني هلال بن عامر، وهي قبيلة عربية هوازنية عاشت في الجزيرة العربية والشام ثم انتشر تواجدها في صعيد مصر ومنه إلى شمال أفريقيا وسيوة وكانت من أهم عوامل غرس بذور الإسلام في الواحة، وبعدها تكفّل محمد بن علي السنوسي زعيم الحركة السنوسية ببقيّة الأمر.

فبعدما استقرَّ السنوسي داخل الواحة، وأسّس «الطريقة السنوسية»، وهي حركة دينية ذات أبعاد صوفية وسياسية [17]، اتّبع أهل سيوة هذه الطريقة عام 1831، التي اتّخذ مؤسسها من جبل الدكرور (أحد معالم الأثرية في جنوب سيوة) مقرًّا لنشر تعاليم حركته التي تعتمد على المرونة وتقبل الآخر والمحبة والتعاون وإعانة الفقراء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.[18]

من هذا الوقت وحتى الحرب العالمية الأولى أعلن مسلمو سيوة للسنوسي، الذي حوّل الواحة إلى مركزٍ للتبشير بحركته، مستغلاً موقعها الجغرافي المميز الذي تمرُّ به حركة القوافل البدوية خلال تنقلها داخل الصحراء.

شجّع التفاف السيويين حول محمد السنوسي، أن يتجاسر ويتخذ موقفًا سياسيًا معاديًا للإنجليز خلال بدايات الحرب العالمية الأولى، فأعلن عليهم الحرب ومنعهم من دخول الواحات.

وفي عام 1917م هُزم الجيش السنوسي أمام قوات التحالف، والتي طردت زعيم الحركة منها ونصَّبت بدلاً منه مأمور شرطة أرسلته الحكومة المصرية بصُحبة قوة من الجنود فرضوا سيطرتهم على الواحة.

وعندما أبدى بعض أهل الواحة رفضًا للخضوع إلى القاهرة فقتلوا المأمور وجنوده، أمرت الحكومة المصرية بالقبض على زعماء عائلة حبون، الموالين للسنوسي والمتهمين بقتل المأمور، وحكمت عليهم بالموت شنقًا، ليكون نهاية بلا رجعة للنفوذ السياسي للحركة السنوسية داخل الواحة[19]، والذي انحصر على الجوانب الدينية فقط.

 أصبحت طقوس الحركة السنوسية تقتصر على الاحتفال بالمولد النبوي وتنظيم حلقات الذكر كل خميس بعد صلاة العشاء، بجانب زيارة الرجال لمقام سيدي سليمان (أحد قضاة الواحة في عهد محمد علي) بعد في النهار يوم المولد، وبعدهم تخرج النساء لزيارة القبر ليلاً؛ لأنهن لا يُسمح لهن بالخروج من المنازل نهارًا. [20]

وحتى هذه الطقوس السنوسية انعدمت الآن تمامًا، وفقًا لما ذكره لنا الأستاذ عبد الله عزمي، وأصبح الاحتفال بيوم المولد مماثلاً لاحتفالات باقي محافظات مصر.

تم إنتاج هذا المقال ضمن برنامج استخدامات متعددة، الذي تنظمه مساحة 6 باب شرق
المراجع
  1. دراسة «دور المرأة في البيئة الصحراوية»، علية عبد العظيم سليمان الشرقاوي، مكتبة الإسكندرية، 2011م
  2. المرجع نفسه
  3. المرجع نفسه
  4. المرجع نفسه
  5. المرجع نفسه
  6. كتاب «واحة آمون – بحث شامل لواحة سيوة»، المؤرخ عبد اللطيف واكد، مطبعة المقتطف بالقاهرة، 1949م
  7. المرجع السابق
  8. كتاب «بداءة عصر البطالمة»، إسماعيل مظهر محاضرة ألقيت في المؤتمر الثامن للمجمع المصري للثقافة العلمية، 2019 م
  9. دراسة «دور المرأة في البيئة الصحراوية»، علية عبد العظيم سليمان الشرقاوي، مكتبة الإسكندرية، 2011م
  10. ملخص بحث معابد سيوة المفقودة (وصفها ومحاولة تخطيطها)، دكتور عبد الرحمن علي عيد الرحمن ، كلية الآثار جامعة القاهرة، دورية العصور – مجلد 23 الجزء 2، يناير 2013م
  11. واحة سيوة من النواحي التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية، حسين علي الرفاعي، مطبعة شركة التمدن الصناعية بالقاهرة ، 1932م
  12. المرجع السابق
  13. جنة الصحراء سيوة أو واحة آمون، القائم مقام رفعت الجوهري، الدار القومية للطباعة والنشر بالقاهرة، 1946م
  14. دراسة «دور المرأة في البيئة الصحراوية»، علية عبد العظيم سليمان الشرقاوي، مكتبة الإسكندرية، 2011م
  15. المرجع السابق
  16. المرجع السابق
  17. كتاب «الممارسات الشعائرية والتضامن الاجتماعي في واحة سيوة»، دكتورة سوزان السعيد ، المركز القومي للمسرح، 2007م
  18. المرجع السابق
  19. المرجع السابق
  20. واحة سيوة من النواحي التاريخية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية، حسين علي الرفاعي، مطبعة شركة التمدن الصناعية بالقاهرة ، 1932م