المعصية والصبر عند ابن تيمية: من التصوف إلى السياسة
المعصيةُ والصبرُ من المفاهيم الشائعة في مباحث الأخلاق والتصوف وتزكية النفس وعلم الكلام، وهما أيضًا من المفاهيم التي شاعت في الكتابات السياسية الإسلامية الأولى التي ظهرت تحت عناوين «نصائح الملوك»، و«الآداب السلطانية». وقد ظل هذان المفهومان على هذا النحو، مع تركيز أئمة التصوف على هجران المعصية، والتمسك بأهداب «الصبر».
وتباروا في تعريف الصبر وبيان جوهره بعبارات بليغة وبديعة؛ فهو عند الحسن البصري أقسام: «صبرٌ على ما أمر الله تعالى به، وصبرٌ على ما نهى عنه. وأما الصبرُ على ما ليس بمكتسب العبد: فصبرهُ على مقاساة ما يتصل به من حكم الله فيما يناله فيه مشقة». وهو عند إبراهيم الخواص: «تجرع البلوى بغير دعوى»، وعند سهل التستري: «إسرار المحنة وإظهار المنة»، وعند عمرو بن عثمان المكي هو: «الوقوف عند البلاء والعكوف على الصفاء».
ولما كان القرآن قد نبه إلى «الصبر الجميل»؛ فقد ساح أئمة التصوف في آفاق الصبر الجميل، وأتوا بمعانٍ رائعات منها قول بشر الحافي: «الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه للناس».
كان ابن تيمية أول من نقل مفهومي: الصبر والمعصية من سياقهما الأخلاقي والتربوي إلى السياق السياسي. وابتداءً بكتابه «السياسة الشرعية»، نجد «الصبر» في مركز مفاهيم تسويغ تجاوزات الحكام من الأمراء والسلاطين، والتوسعة عليهم في اجتراح أحكام واتخاذ قرارات تمس الخاص والعام «بما يجاوز الحد ويأتي على النفس» كما جاء – فيما بعد – في مختصر العلامة خليل بن إسحاق المالكي (ت: 776ه/1374م) وفي شروح هذا المختصر، ومنها شرح الشيخ محمد عليش (ت1299هـ/1882م) في كتابه المعروف بعنوان «منح الجليل شرح مختصر خليل».
في زمن الخلفاء الراشدين؛ كان تقريب هذين المفهومين من السياسة والسلطة يأتي من باب نصح الولاة بأن يصبروا على الرعية، ويكونوا قدوة في اجتناب المعاصي. ومن ذلك مثلا رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري؛ إذ قال له: «اعلم أن الصبرَ صبران: أحدهما أفضل من الآخر: الصبر في المصيبات حسَنٌ، وأفضلُ منه الصبرُ عما حرم الله تعالى، واعلم أن الصبرَ مِلاك الإيمان».
ولكن ابنَ تيميةَ استطاع باقتدارٍ أن ينقل مفهومي «الصبر والمعصية» إلى فقه «السياسة الشرعية»، وألقى عبئيهما على الرعية، ولم يوجه ولاة الأمور إلى ذلك صراحة. ووضع المفهومين في خدمة رؤيته الإصلاحية الرامية لتقوية سلطتهم ليتمكنوا من الإصلاح وإقامة الدين في سياق التحديات المغولية والصليبية التي كانت تجتاح الأمة في زمنه.
قرَّر ابنُ تيميةَ أن ولاةَ الأمرِ «إذا أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». ويتطلب تطبيق هذا القيد بداهةً أن تكون المعصية واقعةً في شأن التدبير السياسي لأنه صميم اختصاص ولاة الأمر، وليس في شأن العبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج ومكارم الأخلاق؛ إذ كيف يُعقل من ولي الأمرِ الذي يستمدُ شرعيته من التزامه بإقامة الدين أن يأمُرَ بمنع الصلاة أو التوقفِ عن الصوم مثلاً؟
طبعاً هذا تصور عبثيٌ؛ غير أنه رغم عبثيته قد فتح الباب من الجهة المقابلة لملء المعصية بمضمون سياسي، وتفريغ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» من هذا المضمون! فالقول بأنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»؛ يعني بمفهوم المخالفة وجوب طاعته من باب أولى إذا أمر بطاعة الخالق، ومن ذلك: العبادات وإقامة الشعائر كالصلاة، ومن ثم يكون لهذا المخلوق «الإمام أو الملك أو الرئيس»، حق التأديب «سياسةً» على تركها كما قال ابن تيمية نفسه: «ويعاقب التارك لها بإجماع»، وهو ما شاع في بعض كتب السياسة الشرعية بعد ذلك.
ومن هناك، أعادَ ابنُ تيمية صوغَ مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس تعبدي وأخلاقي، بينما ملأ مفهوم «المعصية» بمضامين سياسية – رغم أنه مفهوم ديني عبادي – على أن تتحمل الرعية عبء تجنب ما اعتبره «معصية سياسية» وهي «الخروج» وشق عصا الطاعة، أو معارضة الحاكم.
جمع ابن تيمية – إذن – الشأن العبادي مع الشأن المدني، أو الديني مع الدهري في يد صاحب السلطة السياسية؛ وجعل من اختصاصه إنزال العقاب على المقصرين في أداء العبادات بحجة إقامة الدين، بينما لم يوضح كيفية محاسبة ولي الأمر على التقصير في تدبير مصالح الأمة، أو إذا أمر بمعصية: وهل يكون جزاؤه فقط «عدم الطاعة»؟ وكان من نتائج هذا الجمع أن جرى تسييس مفهوم «المعصية» لزيادة «سلطة ولي الأمر» ومدها إلى نطاق ليس من اختصاصه أصلاً. وهذا جعل سلطته شبه ثيوقراطية.
وبما أن «المعصية» مفهوم فقهي في بعضه، وأخلاقي في بعضه الآخر، فقد كان من اليسير ضبطه إجرائيا في جانبه الفقهي على الأقل في مجال العبادات ( مثل: ترك الصلاة، أو عدم صيام رمضان). وكان من اليسير أن يعثر «ولي الأمر» على من يفتي بمعاقبة الذي يفعل شيئا من ذلك، وربما تسابق علماء السلطان في هذا المضمار.
أما «الصبر» فهو في أصله مفهوم أخلاقي غير سياسي كما أسلفنا، ويبدو أكثرَ استعصاءً على التسييس مقارنة بمفهوم المعصية؛ ولكن فقهاء السياسة الشرعية وظَّفوه ببراعة أيضا في تعزيز سلطة ولي الأمر بحجة تمكينِه من إقامةِ الدين ورعاية المصالح؛ بغض النظر عن طريقة وصوله لموقع السلطة، وبغض النظر عن فسقه أو صلاحه في نفسه، وما إذا كان هو يمارس فضيلة الصبر، أم تقوده مشاعر الرعونة والعسف.
ويلفتُ النظر أن فقهاءَ السياسة الشرعية قد استفادوا من أطروحاتِ المقاصد العامة للشريعة في القرنين السابع والثامن الهجريين؛ فابنُ تيمية يؤكد أن الفرجَ مآلُ «الصبر»، وأن في «الصبر» حلا لكل الأزمات دينيا ودنيويا. وقام بإعادةِ صوغ هذا المفهوم في ضوء مقصدي: العِلمِ، والعدلِ؛ المأمور بهما شرعا، ليكون الصبر على الجور «من العلم والعدل». يقول (مجموع الفتاوى، مجلد 28/ص179،180):
وهو يؤكد مراراً على وجوب طاعة أولي الأمر برهم وفاجرهم والصبر على ظلمهم: مجموع الفتاوى، مجلد 35 من ص5 ـص17).
هنا بات الصبر ليس فضيلة أخلاقية، وإنما هو عملٌ سياسي من الطراز الأول، وبخاصة عندما يتحول إلى موقف جماعي، وليس مسلكا فرديا. وهنا حدث توافق عملي بين مفهوم «الصبر» ومفهومي «الإِرجاء» و«الجَبْر» – رغم أن ابن تيمية ليس مرجئًا ولا جبريًا – فالصبر السياسي هو في أصله وجوهره عدم رضا عن أعمال الحكام مع إرجاء الحكم عليهم ومحاسبتهم إلى الله، والمرجئة هم القائلون بأنه «لا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة».
ولهذا رحب حكام الجور بـ«الإرجاء»، ووصفه المأمون فقال: «الإرجاء دين الملوك»؛ لأنه يسلب المحكومين حق مقاومة ظلم الحكام وفسادهم وفسقهم. ويعزز «الجبرُ» الإرجاءَ والصبرَ معاً؛ وبذلك اكتملت العدة المفاهيمية لسيادة ثقافة السكينة والتضرع والخنوع والخضوع، وأضحت الأمة في عراء انتظار الفرج من خارج سنن التدافع الاجتماعي والسياسي.
وللتخفيف من وطأة هذا التوظيف السياسي، يصور ابن تيمية «الصبر» في صورةِ معادلةٍ متساوية الطرفين؛ طرفُها الأول: «صبرُ ولي الأمر على الرعية»، وطرفها الثاني: «صبرُ الرعية على ولي الأمر». لكن؛ هل يتساوى صبرُ أولئك الأئمة على ما سماه «أذى الرعية»، مع صبر الرعية على جور الحكام وظلمهم؟ إنه لا يَعْتبر الخروج على أئمة الجور أمرا مشروعا؛ لأن دفع الظلم يكون بظلمٍ أكبر، ومن ثم يجب ألا يصل أذى الرعية إلى حد الخروج لخلع الظلمة. إذن: ما هو أذى الرعية الذي سيصبر عليه الأئمة؟ هذا ما لم يوضحه ابن تيمية وترك عبارته تلك فضفاضةً، مفتحةَ الأبواب؛ لتدخل فيها كل الظنون دون أن تغادرها بالضرورة.
وليست تلك هي «حدود الصبر» السياسي التي يتوقف عندها الصابرون بحسب فقه السياسة الشرعية؛ بل إن هذا الفقهَ يتخطاها ليتضارب مع مقصدي العدالة والمصلحة؛ ذلك لأن الصبر على الظلم يهدرُ العدالة، بينما هي مقصد أساسي وتأسيسي للسلطة الشرعية، وكذلك فإن الصبرَ بلا حدود يزيدُ من وطأة المظالم ويفاقمها فيتهدد الإنسان والعمران بالزوال معا، بينما حرم الله الظلم وجعله بين الناس محرما.
وهنالك وصلَ فقهُ السياسة الشرعية إلى طريقٍ مسدود. وإزاء هذا المأزق حاول ابن تيمية في سياق آخر بعيدٍ عن الفقه وأصوله أن يجدَ الحل في مواضعات الاجتماع الإنساني، وهو حل يقلق الذين يتبرمون من كثرة النسل، يقول (منهاج السنة، ج8/358):
ذلك هو الحل الذي رآه ابن تيمية في نهاية المطاف، وهو مفاجأة بكل المقاييس؛ إذ ابتعد وهو الأصولي الكبير عن مرجعيته الأصولية، ولجأ إلى مواضعات اجتماعية للخروج من سياقات التأزم التي كانت تهدد العمران الإسلامي في زمنه. وهذه مسألة فيها مسائل!
وأيا كان الأمر؛ فقد تكاثرت الكتابةُ في «السياسة الشرعية» بعد ابن تيمية وابن القيم، وتراكم كم كبير منها على مدى سبعة قرون تقريبا من زمنهما إلى زمننا. وظلت النواة الصلبة في بنية هذا الفقه هي: تركيز السلطة في يد «ولي الأمر» ليتصرف في تقدير المصالح وفي حالات الاستثناء بما يراه. ووسع هذا الفقه على الحكام من الخلفاء والسلاطين والأمراء والقضاة في أحكام التدبير السياسي والأمني؛ ولكنه لم يدع أبدا لإخضاعهم للمحاسبة.
بعد ابن تيمية، وبتأثير اجتهاداته، اتجه فقهُ «السياسة الشرعية» شيئًا فشيئًا نحو الاختزال والتضييق حتى استقر أغلبه في ميدان: التوسعة على الحكام، في مسألتين أساسيتين هما: إقامةُ الحدود والتعازير، وممارسةُ الشعائر وضبط المخالفين. وتراجعت المسائلُ الكبرى الأخرى وإن لم تختف تماما، مثل: إقامة العدل، والتزام الشورى، ورعاية المصالح العامة للأمة.
كان من الممكن لأطروحات نظرية المقاصد في القرنين السابع والثامن الهجريين أن تعيد صوغ مسألة السلطة ومشروعيتها وعلاقتها بالأمة وحفظ عمرانها، دون حاجة «للتوسعة» على الحكام وتزويدهم بسلطات استثنائية جبارة لإنزال عقوبات على المخالفين حتى في مجال العبادات، وهي عقوبات تعزيرية في أغلبها؛ كانت ولا تزال عرضة لإساءة الاستعمال، حتى آلت إلى أيدي الدواعش.
ولكن بظهور الكتب المرجعية الكبرى في فقه السياسة الشرعية منذ ابن تيمية، وبانفتاحها على قاعدة «سد الذرائع» لتصبح رابعةَ قواعد فقه السياسة الشرعية ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة العدل، ورعاية المصلحة) كان ملفتا أن مؤلفاتِ المجتهدين؛ أصوليين وفقهاء، قد خلتْ، أو كادتْ، من مناقشة قاعدة «فتح الذرائع» إلى «المصالح العامة» أو «المنافع العمومية» للأمة، وهي صلب مقاصد السياسة الشرعية أصلاً؛ بينما انخرطَ هؤلاء وأولئك في مناقشةِ هذه القاعدة في المسائل التعبدية الجزئية من جهة «السد»، وليس «الفتح»، وفي المعاملات والجنايات بدرجة أقل، وبأقل الأقل في مسائل الأعراف والعادات.
وأما مسائل الجزاءات والعقوبات الجنائية، فالتعرضُ للذرائع فيها جاء بفتحِها على مصراعيها أمام السلطة عبر «التعزير»؛ الأمر الذي أسهم في توسيع سلطةِ ولي الأمر أكثر وأكثر، بخلاف ما غلب على الأبواب الأخرى من تضييقٍ وتشددٍ في الاحتياط بحجة «سد الذرائع» إلى الفتن والفساد. ومن هناك جرى توظيفُ مفاهيم: المعصية والصبر والإرجاء والجبر؛ على مر الزمن؛ لتكون كلها في خدمة الاستبداد ومد أذرعه ذات اليمين وذات الشمال. فيا للمسلمين ويا للإسلام!