سلفيو برلسكوني: الأب الروحي في عالم السياسة
رئيس الوزراء لأربع حكومات إيطالية. يُلقبه الداخل الإيطالي باسم «الفارس» لحصوله على وسام الفروسية، لكنه تنازل عن الوسام واللقب طواعيةً عام 2014. سلفيو برلسكوني سياسي مُهمين على السياسة الإيطالية إلى درجة وصفه في مجلة فوربس كأقوى شخص في إيطاليا، وضمن قائمة من 12 شخصًا يصنفون الأقوى نفوذًا سياسيًا في العالم. الرجل سيطر على السياسة البريطانية لأكثر من 20 عامًا، لكن أيضًا عادت نفس المجلة بعد 9 سنوات، في 2018، لتضعه ضمن أغنى 190 رجلًا في العالم. ثروته البالغة 8 مليارات دولار أمريكي يأتي جانب كبير منها من امتلاكه نادي ميلان الإيطالي من عام 1986 حتى عام 2017.
تسع سنوات في رئاسة الوزراء تجعله أطول رئيس وزراء في فترة ما بعد الحرب. وثالث أطول رئيس وزراء منذ توحيد إيطاليا. كما كان أكبر قادة مجموعة الثماني «G8» لثلاثة أعوام من 2009 حتى 2011. حقق رقمًا قياسيًا باستضافته ثلاثة مؤتمرات قمة للمجموعة في إيطاليا. كل تلك الأرقام القياسية تبدو عاديةً، لكن غير العادي فيها أن برلسكوني لم يشغل أي منصب حكومي إداري أو سياسي قبل رئاسته الوزراء، بل كان إمبراطورًا إعلاميًا يسعى لنجاح شركاته الخاصة فحسب.
الأمر الذي حافظ عليه برلسكوني حتى بعد دخوله المجال السياسي، مطاردة أحلامه الخاصة والتأكد من زيادة أرباحه الشخصية. بل واجه برلسكوني انتقادات عديدة بأنه جعل عمله السياسي خادمًا لتحقيق نمو شركاته عبر سياسات حكومية مباشرة لا تكترث بالمراقبين.
طوال 70 عامًا كان برلسكوني يقسم الرأي العام حوله، كما كان يحقق أرقامًا قياسية في النجاحات والإخفاقات كذلك. في أغسطس/ آب 2013 أُدين بتهمة التهرب الضريبي وحُكم عليه بالسجن لأربع سنوات ويُحظر من المناصب العامة لعامين. تجاوزه للسبعين جعل الحكم يُخفض لثلاث سنوات تلقائيًا، وأعفاه من الذهاب للسجن. فصارت عقوبته القيام بأعمال اجتماعية غير مدفوعة الأجر لمدة عام. لكن تلّقفه قانون مكافحة الفساد الجديد ونظرًا لأنه حُكم عليه بالسجن لأكثر من عامين قُضي عليه بالطرد من مجلس الشيوخ وعدم العمل في أي مكتب تشريعي لمدة 6 سنوات. أصر برلسكوني أن يعود عودةً قوية فور انتهاء الحظر فتم انتخابه في يوليو/ تموز 2019 عضوًا في البرلمان الأوروبي، لكن حزبه «فورزا إيطاليا» حصد 8.8% من الأصوات، في هزيمة تُعد الأسوأ في تاريخ الحزب.
المشروع الأول
حياته الاجتماعية لم تنج من هذا التضارب أيضًا، فهو أول ثلاثة أبناء لأبوين من الطبقة المتوسطة. درس الحقوق في جامعة ستاتالي ورسالة تخرجه كانت عن الجوانب القانونية لمجال صناعة الإعلام. عام 1965 تزوج وأنجب طفلين وأخذت حياته في الترقي من مجرد عازف على متن سفينة سياحية إلى شاب يمتلك علاقات جيدة مع شخصيات مرموقة، لكنّه هجر زوجته الأولى وأطفاله الاثنين ليتزوج الممثلة فيرونيكا لاريو عام 1990 وينجب منها ثلاثة أطفال. كان زواجه حدثًا اجتماعيًا مهمًا حضره بيتينو كراكسي، زعيم الحزب الاشتراكي ورئيس وزراء إيطاليا الأسبق. انفصلت عنه لاريو عام 2009 ليُضطر عام 2012 لدفع 48 مليون دولار سنويًا لها كتسوية للطلاق، ليحصل برلسكوني على منزلٍ يعيش فيه مع أبنائه الخمسة وأحفاده العشرة.
علاقات برلسكوني منحته مشروعه الأول في بدايات الستينيات. «ميلان 2» اسم المشروع لتطوير 4000 شقة في مكان مكتظ بالسكان استطاعت شركة برلسكوني أن تحولهم لمنطقة حضارية. استغل أرباح المشروع لشراء أول محطة تليفزيونية خاصة به. اشترى من أرباحها قناتين أخريين لتبدأ نواة الإمبراطورية الإعلامية في الانتقال للعاصمة. عام 1983 حصل على تمويل يُقارب 60 مليون دولار مجهول المصدر. التحقيقات الحكومية المتتابعة حتى الآن لم تستطع أن تعرف مصدر هذا المبلغ الضخم.
كذلك خدمته صداقته مع كراكسي، رئيس الوزراء عام 1984، في الحصول على مرسوم قانوني يسمح لقنواته ببث الأخبار السياسية والسماح للقنوات بالبث على مستوى البلاد. كعادة برلسكوني، نجاح قوي وإخفاق أقوى. بدأ الإخفاق عام 1995 ببيع جزء من الإمبراطورية الإعلامية لشركة ألمانية أفلست الآن. وأُلزم في عام 2011 بحكم قضائي لدفع 560 مليون يورو لشركة منافسة، والضربة القاضية كانت في 2017 حين باع برلسكوني نادي «إيه سي ميلان» بـ830 مليون يورو.
الصعود الغريب
صعوده إلى صدارة المشهد السياسي كان غريبًا ومفاجئًا. عام 1994 أُطلق حزب «فورزا إيطاليا»، بعد ثلاثة أشهر فقط فاز الحزب بالأغلبية النسبية في الانتخابات البرلمانية. الأغلبية جعلت رئيس الحزب «سلفيو برلسكوني» رئيسًا للوزراء. في أول ممارسة سياسية له في حياته، لم يقم بها حبًا في السياسة بل تجنبًا للسجن كما صرح شخصيًا بعد ذلك. لكن بعد 9 أشهر فقط انهارت حكومته بسبب خلافات داخلية بين أحزاب الائتلاف. أتت انتخابات 1996 بتوقعات خسارة برلسكوني لكنّ لم يحدث، فاز برلسكوني بعضوية البرلمان للمرة الثانية. وفاز في 2001 للمرة الثالثة وأصبح رئيس الوزراء للمرة الثانية. وفي 2006 خسر بفارق ضئيل أمام « رومانو برودي»، لكن انهارت حكومة برودي عام 2008. فأُعيد انتخاب برلسكوني ليُشكل حكومةً جديدةً.
اقرأ أيضًا: حلول منتهية الصلاحية: اليمين المتطرف على أعتاب روما
لكن بدأت شعبيته في التناقص بسبب المشاكل المالية المتعلقة بأزمة الديون الأوروبية فاستقال من منصب رئيس الوزراء في 2011. الاستقالة كانت بسبب عدم وفائه بوعوده الانتخابية، بجانب ظهور اسمه في العديد من قضايا الفساد والفضائح الجنسية. مما أنشا ضغطًا شعبيًا شديدًا عليه دفعه للاستقالة. لكن السبب في نظر برلسكوني كان مؤامرةً من أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي بسبب رفضه قرضًا من صندوق النقد الدولي. برلسكوني صرّح بأنه كان سيبيع البلاد لصندوق النقد بهذا القرض لهذا رفضه ولهذا تآمر الساسة الأوروبيون عليه. يؤكد هذه النظرية رئيس وزراء إسبانيا السابق خوسيه لويس، لكن باستثناء كلام لويس وبرلسكوني لا أدلة عليها.
خروج برلسكوني من منصبه لم يغير شيئًا من مواقفه الدولية. فهو صديق وفي للولايات الأمريكية ولسياساتها في المنطقة. أثناء غزو العراق أرسل 3200 جندي إيطالي للعراق في ثالث أكبر عدد قوات بعد الولايات المتحدة وبريطانيا، لم يتم سحبهم إلا بعد خروجه من المنصب. كما دعم برلسكوني غزو أفغانستان، ولا يزال من مؤيدي التدخل العسكري الأمريكي في أي منطقة. في الطرف الآخر تجمع برلسكوني وبوتين علاقة صداقة شخصية ومناصرة سياسية دائمة. آخرها كان في الغزو الروسي لجزيرة القرم. تعجب برلسكوني من قول الولايات المتحدة بأنها تريد الدفاع عن القرم. علل ذلك بأن أهل الجزيرة من أصل روسي، فإخوتهم الروسيون أولى بهم من غيرهم. بل دعا برلسكوني لإدماج روسيا مع الاتحاد الأوروبي أكثر من مرة.
اقرأ أيضًا: ساركوزي لم يكن الوحيد: ساسة غربيون اشتراهم القذافي
المنطقة العربية والشرق الأوسط كانت محط اهتمام برلسكوني خاصةً تركيا. إذ يُعتبر أشد مناصري انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. أما إسرائيل فقد صرح نتنياهو بأن إسرائيل محظوظة لحصولها على حليف مثل برلسكوني. وطالما ناصرها في كل أفعالها تجاه فلسطين. ليبيا هى الأخرى كانت محطةً مهمةً في مسيرة برلسكوني. وقّع في 2008 مع الرئيس الليبي السابق مُعمر القذافي اتفاقية تدفع إيطاليا بموجبها 5 مليارات دولار اعتذارًا لليبيا عن احتلالها، وتقوم ليبيا بمنع الهجرة غير المشروعة إلى إيطاليا من خلالها.
قريبة حسني مبارك
منذ 14 عامًا والقضايا لا تترك برلسكوني، دائمًا ما يكون قيد التحقيق في قضيةٍ ما. عام 2012 واجه برلسكوني محاكمةً بدعوى سوء استغلال منصبه عام 2005. في ذلك العام سُربت تسجيلات صوتيه هاتفية بين حاكم بنك إيطاليا والسياسي الإيطالي المعارض بييرو فاسينو. تسريب المكالمات تم عبر جريدة يملكها شقيق برلسكوني، وأدت إلى استقالة حاكم البنك. نفى برلسكوني علاقته بالقضية لكن صدر ضده حكم بالحبس لمدة عام. تمت تبرئته عام 2014 تحت قانون التقادم مع الإبقاء على غرامة 80 ألف يورو لحاكم البنك.
في 2006 واجه قضايا رشوة لأعضاء تحالف خصمه برودي من أجل الانضمام لتحالف برلسكوني في الانتخابات. اعترف من تلقوا الرشوة بجريمتهم لكن استغل برلسكوني ثغرة قانونية أفلت بها من العقاب. دائمًا ما استغل برلسكوني سلطاته للإفلات من العقاب، مثلما فعل عام 2008. واجه في ذلك العام اتهامًا بالتشهير من القاضي أنطونيو دي بيترو، رئيس حزب إيطاليا للقيم. برلسكوني قال إن أنطونيو لم يتجاوز اختباراته بشفافية بل ساعدته الأجهزة السرية. قضت المحكمة بأن برلسكوني مذنب، لكن سرعان ما أقر البرلمان الإيطالي قانونًا يُحصن جميع البرلمانيين الإيطاليين ضد أي إجراء مبني على كلمةٍ نطقوها أثناء فترة خدمتهم.
لكن بعد عدة سنوات قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية هذا القرار، خاصةً وأن برلسكوني كان يتحدث في تجمع انتخابي وليس داخل مبنى حكومي. مما يعني أنه يمكن استكمال الدعوى نظريًا، لكن لا يُستبعد أن يلجأ برلسكوني لقانون سقوط التهم بالتقادم ليُسقط هذه التهمة عن نفسه مثل سابقاتها.
أشد قضاياه كانت ممارسة الجنس مع الراقصة المغربية كريمة المحروق المعروفة بـروبي روباكوري، ثم استغلال النفوذ لإخراجها من السجن حين قُبض عليها بتهمة السرقة. تواصل برلسكوني مع الشرطة طلبًا للإفراج عن الفتاة بحجة أنها قريبة حسني مبارك، لكن بعد التقصي وُجد أنها لا تمت للرئيس المصري الأسبق بصلة، وتمت إدانة برلسكوني بالجرم. حُكم عليه بالسجن مدة 7 سنوات، وحرمانه من المناصب العامة مدى الحياة، لكنّه في 2014 قدم طعنًا في الحكم وطلب إلغاء العقوبة كاملة، وقد كان. حصل برلسكوني على براءة شاملة بحجة عدم وجود جريمة من الأساس.
حصيلة برلسكوني القضائية هى 20 قضية خلال مسيرته السياسية، وأكثر من 40 تحقيقًا خلال عامين فقط. كما تعتبر صلته بالمافيا الصقلية شبه مؤكدة، خاصةً بعد الحكم على زميله المؤسس لحزب فورزا إيطاليا بالسجن 7 سنوات بتهمة أنه كان حلقة وصل بين برلسكوني والمافيا، وباعترافٍ موثق منه شخصيًا، وكالمعتاد لم تطل برلسكوني أي عقوبة.
الأب الروحي
النخبة الأمريكية ترى برلسكوني «ترامب الأول»، نظرًا لاشتراكهما في النشاط الاقتصادي وضعف الخبرة السياسية. ودائمًا ما تشير الصحف الأمريكية إلى مصير إيطاليا بعد برلسكوني أنه سيكون مصير الولايات المتحدة إذا استمر ترامب في رئاستها، وكذلك يرى ساسة بريطانيا بعد فوز بوريس جونسون بالانتخابات.
وإذا تتبعنا خطى ترامب وجونسون نجدهما ينهجان نفس خطى برلسكوني. الرجلان يقدّمان نفسيهما كضحية لاستغلال العالمي وكشهداء على مذبح الاضطهاد الداخلي والخارجي. تمامًا كما قدّم برلسكوني نفسه ضحيةً للقضاة، الذي كثيرًا ما شبّه نفسه بالسيد المسيح. تلك الاستراتيجة دائمًا ما تنجح لأنها تتماشى مع شعور المواطن العادي بالاضطهاد والظلم، وحين يتعرضون لهجوم خارجي يسارعون بدعوة المواطن الذي تعب من استغلال الأجانب لبلاده ومهاجمته له، فأي هجوم على برلسكوني استطاع أن يكسبه لنفسه.
ولا يهم إذا كان ما قاله برلسكوني صحيحًا أو خاطئًا طالما وصل إلى مسامع المواطن أولًا. استخدم برلسكوني إمبراطوريته الإعلامية إذ لم تكن مواقع التواصل قد ظهرت أو أخذت شهرتها الحالية. أما الآن فترامب وجونسون يستخدمان تويتر وفيس بوك دون أي وسيلة إعلامية أخرى. كما أنهما يُغيّران موقفهما الرسمي تبعًا لمن يدفع أكثر تمامًا مثل برلسكوني.
أثّر برلسكوني في التاريخ الإيطالي إلى حد لظهور مصطلح «برلسكونية» في القاموس الإيطالي. يستخدم المؤيدون المصطلح للدلالة على التفاؤل في التخطيط، روح المبادرة التي لا تهزها التقلبات، والقدرة على حل المشكلات بكل السبل. أما المعارضون فيستخدمون نفس المصطلح للدلالة على السياسي الشعبوي المُتعصب، الشخص الفاشي، والفساد. سواء كنت من مؤيدي برلسكوني أو معارضيه، فإن أثره في السياسة والشارع الإيطالي لا ينكرهما أحد.