مسلسل «Silo»: الحياة داخل صومعة
يترددُ باستمرار على مُجتمعات التواصل الاجتماعي صُورة للأرصاد الجوّية، تعود إلى مارس/ آذار 2020، حينما تعطّلت الدراسة في مصر، بسبب سوء الأحوال الجوية، ومن ثم امتد التعطيل المؤقت إلى حجر صحيّ طويل، لمواجهة انتشار وباء كورونا. يأتي ذكرُ هذه الصورة حاليًا مصحوبًا بحنين لأيام ما قبل كورونا، حيث وقتها، كان كُل شيء على ما يُرام.
بطبيعة الحال، لا يفصلنا عن الحجر الصحّي وقت طويل، ولم يتشيطن العالم، فجأة، خلال هذه المرحلة، حتى نتحسّر على هذه الأيام، لكن استثنائية الحدث الفارق هي داعي الحنين، حيثُ مكث العالم في قُمقمه الصغير، وفوجئ بتعريفات جديدة، لواقع جديد، من خلال سلب واقعه الخارجي في الشارع والعمل والمُعمالات، الاشتباكات اليومية التي كانت تُعطي –أو رُبما توهم- أن ثمّة حياة وحراكًا واحتمالات للمعنى.
كانت هذه لحظة، بالنسبة للتاريخ، خاطفة، ومن ثم عاد كُل شيء إلى حاله، فماذا إذًا لو كان هذا التحوّل الكبير، مُمثّل لمرحلة طويلة، تبلغ مئات السنوات؟ أي واقع سنعرفه وقتها، حبيس الزمن الماضي، أم المُشكّل حاليًا في الأذهان بفعل مؤسسة؟
في مطلع شهر مايو من العام الحالي، صدر مُسلسل «silo – صومعة»، إنتاج «أبل تي في – apple tv»، بطولة المُمثلة «ريبيكا فيرغسون – Rebecca Ferguson»، عن سلسلة روائية من أربعة أجزاء للكاتب الأمريكي «هيو هاوي».
في الصومعة، يعيش الناس مُقسمين على مائة وأربعين طابقًا، تحت قواعد انضباطية ورقابية صارمة، تؤكد مجهولية سبب وجود الناس في الصومعة، لكن المعلوم من الأمر، هو أن العالم داخل الصومعة أفضل بكثير من الخارج، إذ يطفح العالم الخارجي بالدمار والهواء المسموم والضباب. مُنذ ما يُقارب قرن ونصف عن زمن المُسلسل، حدثت “ثورة” في الصومعة، سببت تجريم الحفاظ بأي «أثر-relic»، بمعنى أي شيء يربط الذاكرة بآخر خارج مُفردات المعيشة في الصومعة.
يحفلُ المُسلسل بطبقات من المُعالجة المستندة إلى مفارقات فلسفية، إضافة إلى وجود ملمح قوي ناقدٌ لآليات حياتنا المُعاصرة، ولأي درجة من التحديد يدفعنا مسيرُ العالم حاليًا. يستندُ الفيلم إلى مُفارقة «كهف أفلاطون» يتناول علاقتنا حاليًا بالذاكرة، كأفراد وجماعات، ينثرُ أسئلة، مُحالة من التجريد النظري إلى التجرُبة الحكائية، التي تجعلُ الاشتباك مع منظور له نسقًا معرفيًا جامعًا، أكثر سهولة وقُبولًا للفهم، يأتي ذلك في إطار لا يُحدّد الأفكار المُقدمة بإجابات بالضرورة، لأنّه، ببساطة، ثمّة أسئلة مُمتدة، ورغم ذلك، تناولها مع الوقوف على علامة الاستفهام، يظل إحدى آليات إدراك بشري أكثرُ عُمقًا.
كهف أفلاطون
يُفتتح المُسلسل بمأمور الصومعة وهو يدخُل غرفة تطل على العالم الخرب في الخارج عبر شاشة تبثّ عرضًا مُباشرًا من الكاميرات، فبعد أن طلبت زوجة المأمور الخروج، بعد اكتشافها أن ما حدّدته مؤسسة الصومعة تحديدًا للنسل، ليس أكثر من أكذوبة، فالأمر في حقيقته انتقاء لمن يُمكنه الحمل، ومن يُمنع من ذلك. المشهد المُفتتحي يُنذر ببطولة وهمية، لأن الحلقات الثلاثة الأولى، شهدت صُعود بوادر التمرد والمُقاومة، لكن على نحو محدود، انتهى بوجود المأمور وزوجته في الخارج ميتان بالخارج، لأنهما طلبا الخروج إلى العالم، وهذا أحد أشكال «الممارسة الديمقراطية» ضمن قوانين الصومعة، فمن يُريد الخروج، لا يُمكن منعه، ولا يُمكن أن يتراجع عن ذلك الطلب، وثمّة رهان أنّه حالما يخرج، سيقوم بتنظيف الكاميرا التي تعرضُ صورة العالم في الخارج، إشارة إلى إبداء الندم على الخروج وتحذير من بالداخل أن يحتموا بالصومعة.
عبر داعٍ تشويقي، يُلزم المُسلسل نفسه بذروة وهمية، تتعلّق بالمأمور وزوجته، وكيف مهّدت الأخيرة لكشف أكاذيب السُلطة، ومن ثم يلحقها في كشف هذه السلسلة، مُهندسة ميكانيكية تعملُ في الدور الأسفل، الأقل درجة، على تصليح ماكينات ومُحركات التغذية الكهربية للصومعة.
اعتمد المُسلسل إلى مزاج من التنقل عبر خط من الشخصيات، التي تُجاوز بعضها، حتى تستحيل علاقاتها المُتباينة، كمراكز قُوى، إلى حلقة طويلة من التساؤل وإعادة إنتاجه، ومن ثم مُشاركة أي أثرٍ يُمكنه كشف أكاذيب ما يعيشُ عليه الناس داخل الصومعة. تتشكّل من فضاء العلاقات هذا، تتابعات من الأسئلة لها مردود واقعي ومُعاصر، حول ماهية الصومعة/ العالم، وهل ثمّة حقيقة أخرى وراء أكاذيب سلطة الصومعة؟
في «الجمهورية» تحضُر مُفارقة أفلاطون المعروفة بالكهف، يُرمز لها إلى علاقة الحاكم والتزامه السياسي تجاه شعبه. الشعبُ في الكهف هو عدّة مساجين مُقيدين في الأسفل، لا يعرف أي منهم عن العالم إلا ظلال تصل –عبر شعلة نار- من خلال حركة آخرين في طبقة عُليا من الكهف، في هذه الحالة، يكون الأشخاص في الأسفل، مشتبكين مع ظلال الواقع، وليس الواقع ذاته، الذي يحملُ شمسًا وقمرًا وحياة بالخارج.
يحيا مُواطن كهف أفلاطون بين الظلال، تُحجب عنه أنوار ما خلف الجُدران، ولا يعرفُ أنه يعيش في سجنِ، فما يُدركه، هو الواقع بالنسبة له، ومفردات هذا الواقع مهما كانت شحيحة، فإنها قادرة على تشكيل أدوات القياس والتعريف وتطوير العلاقات بما هو مُحيط.
ما يُسمّيه أفلاطون «المظهر/ المثال- الإيديوس» يتم مُحاكاته بشكل تفصيلي في المُسلسل، فالناس في الصومعة تحت وطأة نظام رقابي وسلطوى قاس، مُحدد، يقوم على انتقاء المصادر الأولية التي يتم تعريف ساكني الصومعة بها، على أنها الواقع بشكل كليّ، بينما أي شيء آخر، هو ليس فقط مجهول، بل هو مُحرّم وله رادع إجرامي.
خلال رحلة بحث جولييت عن سبب مقتل حبيبها، تكتشفُ أنّها تبحثُ حول أصل شيء كبير، تصطدم بمحظورات المؤسسة، يُشير أفلاطون إلى هذه النقلة، من ظلال واقع إلى اشتباك مُباشر مع الواقع في الخارج، فلو خرج أحد المساجين من الكهف، ونظر يمينًا ويسارًا، ثم اقترب من شُعلة النار، وخرج إلى ضوء الشمس، سيكون الأمر في أولّه توهّمًا وإنكارًا، وسيتم قياس الواقع السابق على أنّه الواقع الفعلي، بينما ما يراه حديثًا، هو أشياء غير مُعرّفة، وفي النهاية، بفعل التأمل وطول النظر، سيُدرك النور والظلال والعالم في الخارج.
عند هذه النقطة، أي إمكانية أن تكشف جولييت أكاذيب الصومعة، وما عاشته من عقود طويلة، كان على أفلاطون أن ينأى جانبًا، بفعل الزمن، فلم تعد ثنائية ظلال الواقع والواقع، انعكاسًا المثالية الحاكم تجاه الشعب، أو مثالًا لرحلة الخُروج المُفعمة بُبعد مثالي تربوي، حيث الانتقال من الخير إلى الشر، وكأنها رحلة دانتية –نسبة إلى الكوميديا الإلهية لدانتي- تبدأ بالجحيم، ثم يتم تطهيرها، حتى تنعمُ بالفردوس.
جاءت الحلقة الأخيرة من المُسلسل -بعد تعزيز درامي يجعلُ الجانب التشويقي طبقة أولية جذّابة- لتنقلنا إلى انعكاسات حول الواقع المُعاصر، المُشبّع بسيل الأخبار والأكاذيب والصراع السياسي وعودة الأيديولوجيات القومية والتحالفات، كل من هؤلاء لديه واقع يُمكنه تصديره، درجة أن زيف الواقع في الصومعة، لا يعني أن هُناك واقعًا حقيقيًا في الخارج.
عند خروج جوليت، لم تقم بمسح الكاميرا، لأن حيّز التساؤل حول الزيف والحقيقة، انتقلت إلى خارج الصومعة، لم يبدو الخارج ورديًا مثلما يراه من خرجوا سابقًا، فهذا أيضًا كان أحد أشكال التوهّم والغوص في الافتراضي بعيدًا عن الواقع، بدا الخارج، بالفعل، مجموعة من الصوامع المُتجاورة.
اغتيال الذاكرة
لم يظل التناول الفلسفي للواقع، مثلما بدأ عند أفلاطون، فمنذ كانط تحديدًا، تشكّل نسق فلسفي جديد، يُسائل المثالية الأفلاطونية وما بُني عليها، وبالتحديد في مسألة الواقع، إذ لم يُعد الأمر واقفًا على بُعد «الإدراك»، الذي عرّفه ديكارت بأنه جوهر الفكر، الذي نكون واعين به على الفور. بشكل مُختصر، ظهر تناول أن للواقع صُورة عن ذاته، تستقلُ عن إدراكنا وتعريفنا الحسّي له، فالأمور لا تتوقف بالكُليّة على إدراكنا الحسيّ للواقع.
تظلُ هذه نُقطة مُلتبسة، قدّمها العمل على حدودها عند السؤال، لكن في إحالته الواقعية لسياقات العالم المُعاصر، فإن أحد أشكال تجهيل الواقع، وخلق صُور وهمية له، بصورة أكثر تركيب، عبر تكتّلات من الأخبار وأدوات الاستهلاك ولهاثُ التطوّر التقني والافتراضي، هناك عامل جديد لازم لإقحام صُور واقع جديد، وهو ذاته مع كان العُقدة الدرامية في المُسلسل: البحثُ عن ذاكرة يتم اغتيالها كُل يوم.
في الحلقة الثالثة من المُسلسل، ساد الظلام في الصومعة لفترة لأجل صيانة المُولّد، وقف نائب المأمور بجوار العُمدة وقال لها «يفصلنا دائمًا خطأ كارثي عن نهاية كل شيء، وهذا ما يجعلنا مُدركين لها دائمًا»
تأتي هذه الجُملة، على لسان أحد مُمثلي سُلطة الصومعة، لتُعبّر عن شمولية اقتياد قطيع من المُجهّلين، بلا ذاكرة، حيث النظام يسير على مسار أحد من شعرة، وأي خلل فيه سيفتح وراءه سيلًا من الردود العشوائية التي تقود إلى الكارثة، هُنا عقل واحد –عقل المؤسسة- يُفكّر، ولأجل أن يتحقق الضبط والأمان، لا بد من سُلطة مداها واسع كفاية، حتى تخلق ذاكرة بديلة، وتعمل على محو الذاكرة الجماعية للجمهور.
بدت رحلة جولييت حول كشف أكاذيب المؤسسة متمحورة حول أشياء قديمة، تتعلّق بذاكرة مُمحاه، وأي معلم عائد لها يتم تجريمه، أيًا كان ذلك الأثر. أدركت جولييت ذلك بسُهولة، وكانت هي النقطة المفصلية التي تراكمت عليها تساؤلات وآثار من سبقوا له، حبيبها والمأمور وزوجته وأشخاص آخرين، كان الأثر، المُمثّل للماضي، هو الوسيلة الوحيدة لإعادة إنتاج الحاضر، على الأقل، من خلال تشذيبه عن الزيف، إن لم تكن هذه الأسئلة كافية للتعرف على واقع حقيقي جديد.
تأتي مُسمّيات النسيان، والخوف منه و علاقة ذلك بالذاكرة، ضمن المُسائلات الفلسفية للحداثة التي لم تكتمل، والتي بشكل ما، لم تنجح في بشارتها لعالم جديد يقوم على الحُريّة، إذ تحول ذلك إلى كُتلة عالمية تدور في فراغ مشحون بالاستهلاك والنهم نحو إشباع يقوم على حُمّية اللحظة الراهنة، أحالتنا إلى ما يُشير إليه المُنظّر والسياسي الأمريكي فريدريك جيمسون، بأن النظام الاجتماعي المُعاصر بأكمله، يبدأ شيئًا فشيئًا –بفعل التحوّل إلى التهام الحاضر- بفقد القدرة على الاحتفاظ بماضيه.
ينشغلُ سكّان الصومعة دائمًا بما هو حالي، من احتفال بأيام تتعلّق بأحداث فارقة في الصومعة، مثل يوم «الثورة» المُتعلّق بتمردٍ قديم على المؤسسة، بينما تقديمه في زمن المُسلسل يأتي عبرة لكارثية الخروج إلى العالم، دائمًا هناك أشياء تشغلُ سكّان الصومعة، بينما بحث جولييت يأتي ضمن الهامش، محفوف بالخطورة والحذر وقائم على ضرورة الإختباء حتى يُكلل بالنجاح، أو على الأقل لا يفشل مُبكرًا.
على نفس الخط المعيشي، نعيشُ عالمًا يفقدنا القدرة على التواصل الحقيقي مع الماضي، فالماضي دائمًا مُؤطّر بالاحتفالات القومية، النُصب التذكارية، ومُختلف متون السرديات ملوّية العُنق حتى تُحقق التوافق مع التوجّه، يُحاصرنا دائمًا تريند جديد، نجم جديد، جهاز تقني مُتطور، موضة جديدة، جدل محليّ أو عالمي، أخبار مُمتدة لا تنتهي.
في مبحث «تداعي الذاكرة» المُكوّن من سبعة مُجلدات، يُلاحظ المؤرخ البريطاني توني جوت أن تلاشي الذاكرة، لا يقوم على الطمس لأجل سرديّة أكثر سلطوية فقط، فثمّة مُمارسات مُنظّمة لمُلاحقة الذاكرة الثقافية للأقليات، إضافةً إلى إقحام حالة التلاشي هذه ضمن رؤية العيش لاحقًا، فالأنظمة المدرسية بما فيها النظام الأمريكي، تتمحور تعديلاتها المنهجية حول اختفاء متدرّج للتاريخ السردي ضمن المناهج الدراسية، درجة أننا في وقت قادم، سنجد مُواطنين يُشكّل ماضيهم عالمًا منسيًا، أو مجهولًا، إذ لن يتبقى شيء يُمكن نسيانه.