صلوات هامسة
الليل الهادئ الصموت والإضاءة الخافتة .. ربما هو ليس ليلاً، فالعزلة الضوئية التي يوجد فيها المكان تجعلك تعتمد على الإحساس بالوقت، ولسوف تكتشف أنه أضعف الحواس البشرية، وأن ما تحسبه الفجر هو الرابعة عصرًا .. ومنتصف الليل كما توقعت هو العاشرة صباحًا.
صوت هو مزيج من حفيف أحذية الممرضات وصوت (بقللة) الجوزة المميز للمحلول في علاج الاستنشاق، مع المسحة الميكانيكية الرتيبة التي يضفيها صوت جهاز الأكسجين المضغوط كأنه صوت تنفس دارث فيدر في «حروب النجم». هناك أكثر من نوع من السعال .. سعال سهل يلفظ صاحبه هذا المخاط القليل ثم يتقلب ويواصل النوم، وسعال متعسر صعب يوشك على قتل صاحبه ولا ينوي أن ينيمه أبدًا. دعك من صوت الخطرفة والهذيان من عقول فقدت ترابطها وتحكمها بسبب نقص الأكسجين.
شعور غريب هو أن تمارس مشاعر المريض في العناية المركزة.. اعتدت كطبيب أن تكون أنت المخرج على المسرح ولربما صرت الممثلين، لكنك لم تجرب قط أن تمارس دور المتفرج، وأن تشاهد الدنيا في وضع أفقي، مع شعور غامر بالأمان لأنك لن ترتكب أي خطأ.. كيف ترتكب أي خطأ وأنت المريض لا المعالج ؟ اترك نفسك قليلاً مع التيار وكف عن التوتر الذي التهم عمرك.. فلتذهب إلى حيث يشاء القدر أن يحملك، إلى أن تقرر الحكومة أنه يجب إحضار مخبر يجلس فوقك، وينام فوق جثتك في القبر مع جعلك تدفع ضريبة رقاد كاملة.
أسمع صوته العميق – الابن لا المخبر – قادمًا من فراش قريب تفصلني عنه الستائر:
ـ«يا امه حرام عليكي..»
لا رد .. فقط سعال يترجرج في صدر امرأة عجوز. فيردد:
ـ«يا امه .. قولي ورايا: لا إله إلا الله .. محمد رسول الله»
لكن المرأة تسعل أكثر ولا ترد فيردد:
ـ«حرام اللي بتعمليه فيا ده»
ثم يخنقه البكاء.
مع الوقت عرفت أن هذا الرجل يأتي لزيارة أمه السقيمة مرتين يوميًا في موعد الزيارات.. لا يتخلف ولا يتأخر أبدًا .. وكان الممرضون يعرفون جيدًا موعد قدومه، عالمين أنه لن يرحب أبدًا بطريقة العلاج التي يمارسونها؛ حيث يرقدون المرأة على بطنها ثم ينهال أحدهم على ظهرها بضربات عنيفة كأنها سيوف يد الأخ بروس لي.. الغرض هو إخراج الإفرازات من حويصلات الرئة، ثم يتم تقليبها. بعد هذا يولج خرطوم الشفاط في حلقها لتسمع صوت الإفرازات الكئيب .. ووووش!لو رأى الرجل هذه المشاهد لفقد وعيه.
مع كلماته الهامسة المختنقة يمكنك أن ترسم حياة كاملة. دمعة تسيل من عينك وأنت تسمعه يناجيها في سكون العناية المركزة .. ليس صوته جهيرًا لكن الصمت يجعله كذلك:
«فاكرة يا امه؟… لما كنت أجي أقضي عندك آخر عشر تيام في رمضان كل سنة .. أعتكف عندك. وتقولي لي عاوز أطبخ لك إيه ؟ نقوم نكتب لستة أكلات للعشر تيام .. أكلات من اللي كنت باكلها وانا صغير وهالة مراتي مش بتعرف تطبخها .. »
يسود الصمت .. وفي جلسة أخرى تسمعه يكلم الأم التي لا ترد فيقول:
ـ«بعد ما أصلي التراويح في رمضان أنام وأقول لك صحيني الساعة 12 .. كنت باحب صوتك أوي وانتي بتناديني: قوم يا صبحي .. كنت أعمل نايم عشان تناديني كذا مرة ..».
ثم يختنق صوته .. الحق أنه فعل كل ما يمكن كي يقضي على نفسه تأثرًا وألمًا .. يشغل المحمول جوارها لتسمع صوت الآذان ..
ـ«عارفة ده صوت مين يا مه؟ الشيخ عبد الباسط .. طول عمرك تحبي الشيخ عبد الباسط .. بيفكرك برمضان»
ثم يعود ليجعلها تكرر الكلمات وراءه .. بالطبع هي لا تفعل، لكنه يستخلص من قسمات وجهها وطريقة تنفسها أنها تكرر:
ـ«قولي ورايا .. سبحان الله والحمدلله .. فاكرة لما كنت باقولها غلط وانتي تخليني أقولها صح ؟»
ثم يريها صورة على الهاتف المحمول .. هذا ما تستنتجه من كلامه، وتدرك كذلك أنه يضع الصورة أمام عينيها الذاهلتين:
ـ«دي صورة محمود ابني يوم ما اتولد .. صورته أهي معاكي .. محمود اتخرج يا امه .. فاكرة يوم التخرج؟».
كان الموقف خانقًا داميًا مع ما فيه من دلالات قاسية. لقد انقلبت الآية وصارت الأم التي تربي طفلها وتعلمه الكلام.. صارت هي الطفل الذي يحاول الابن تعليمه من جديد. لم يعد لها من سند واحد في هذا العالم سوى قلب هذا الابن الصغير.. ومن الواضح أنها أحسنت تربيته.
-«يا امه .. قولي ورايا: لا إله إلا الله .. محمد رسول الله»
المرأة لا ترد فيردد:
ـ«حرام اللي بتعمليه فيا ده. اتكلمي يا امه»
قدرت أنها على الأرجح لن تخرج من هذا المكان في وضع رأسي .. وعندما أخبرني الطبيب أن بوسعي الخروج غدًا، فقد حمدت الله لأنني سأهرب قبل أن تموت الأم .. سيكون مشهدًا أقسى من أن أتحمله لو حدث أمامي.
هنا ينهي البشر رحلتهم ليتم عرض فيلم حياتهم كاملاً أمامهم للمرة الأخيرة..
وعندما جاء المساء سمعت صوت سعال واهنًا من الفراش المجاور لي .. هذه المرة كان الصوت قادمًا من الفراش على يساري . لا أرى الوجه لكنه صوت امرأة مسنة تردد:
«حنان !.. إنتي فين يا بنتي؟ بقى كده؟ نفسي أشوفك مرة واحدة .. حنان!».