رواية «المريضة الصامتة»: عن التأثير النفسي للطفولة
قد تفعلُ بنا رواية ما يفعله بنا الوقوع في الحب؛ والحب أعمى، لكنّه جميل، لا بد وأنّه أجمل شعور عرفته البشرية، الوقوع في الحب يسلب عقولنا، يفصلنا بشكل كبير عن الواقع الذي نعيش فيه، الوقوع في الحب يُسبِّب الإدمان؛ يدمن المُحب محبوبه، يبحث عنه، يراقبه، يتذكّره بعد النوم، وقبل الاستيقاظ، في لحظات الهدوء، وفي أوج الازدحام أيضًا، هذا ما حدث لي وأنا أقرأ رواية «المريضة الصامتة»، فقد شدّت انتباهي بالكامل، وتعلّقت بها كما يتعلّق الطفل بأمّه فترة الفطام.
نبذة عن الرواية
تدور أحداث الرواية حول معالج نفسي «ثيو»، يتّجه إلى مستشفى يُطلق عليه الكاتب «ذا غروف»، لمعالجة مريضة اسمها «أليسيا»، وهي سيدة قتلت زوجها الذي كانت تعشقه ولا تتصور أن تعيش من دونه، وبعد قتله دخلت في صدمة جعلتها تتحول من امرأة مسالمة إلى امرأة عنيفة، ومن امرأة عادية إلى امرأة صامتة صمت مطبق، وعلى أثر كل ذلك تمّ إدخالها مستشفى الأمراض النفسية.
هنا يأتي دور المعالج النفسي لخوض التحدي الكبير، لجعلها تنطق وتتحدث حتى تحكي قصّة مقتل زوجها، وتشير إلى القاتل، وما إن كانت هي حقًا منْ قتله ولماذا، أمّ أن هناك شخصًا آخر قد قام بذلك، وما الذي يجعل امرأة تحب زوجها بجنون تقوم بقتله بالرغم من أنّها تعترف في يومياتها بأنّه كان سندها وأنّه بذل كثيرًا من الجهد لمساعدتها لتجاوز اكتئابها وحالتها النفسية السيئة؟
لم تعبّر المريضة بأيّ أسلوب بعد وفاة زوجها سوى بوسيلة واحدة، وهي رسم لوحة لصورة ذاتية، كتبت لها عنوانًا في الأسفل: «ألسيستيس»، وهو اسم بطلة أسطورة إغريقية ضحّت بحياتها لأجل زوجها، فيقرر المُعالِج فهم تلك اللوحة والأسطورة، فلربّما ساعدته في فهم ومعالجة المريضة.
أثناء قراءتي للرواية تذكّرت جملة قالها لي أستاذي في الجامعة، يحمل دكتوراه في علم النفس، حيث قال، إن لكل شخص على وجه الأرض عقده النفسية. ففي الوقت الذي كان المُعالج النفسي في الرواية يسعى لعلاج المريضة الصامتة، كان هو نفسه يذهب إلى معالجة نفسية يستفيد من نصائحها لعلاج نفسه ومريضته، فهو نفسه لم تكن طفولته جميلة، مما يُوجِد تشابهًا بينه وبين المريضة التي يعالجها.
كما كانت أيضًا له مشكلة شخصية مع زوجته، وتؤدي تلك المشكلة إلى كشف تفاصيل من أعماقه النفسية. وهنا تتشابك آلام طفولة المريضة مع آلام طفولة المُعالج، فيجلس معها على نفس الطاولة ليستمع الى صمتها وليحدّثها عن نفسه أيضًا.
عن الكاتب
كاتب الرواية هو «أليكس ميكايليديس»، وهو كاتب بريطاني ولد ونشأ في قبرص، يحمل شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي من جامعة كامبريدج، وشهادة ماجستير في كتابة السيناريو من معهد الفيلم الأمريكي (American Film Institute).
وتُعد «المريضة الصامتة» هي روايته الأولى، وقد وصلت إلى قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعًا في عام 2019، ونشر الكاتب روايته الجديدة هذا العام (2021)، وهي تحمل عنوان «The Maidens». ولم تتم ترجمتها إلى العربية بعد.
الشخصيات في الرواية
يبحث المعالج عن ماضي المريضة كأنّما يجري تحقيقًا معها في قضية وليس كمعالج يقوم بمهمة علاج، خلال ذلك يتجّه إلى كل الأشخاص الذين كان لهم دور ما في حياة المريضة، وكل شخص منهم يحكي له ما يعرفه عنها، من دون أن يعلموا أن لها يوميات كتبت عنهم فيها، لذلك كان كل منْ يتحدّث يقول ما يريد، وليس ما حدث بالفعل، وهُنا يستمتع المعالج باستفزازهم والضغط عليهم بعد أن يبلغهم أنّها قد ذكرتهم في يومياتها، ليقولوا أكثر مما كُتب، فهم لا يعلمون ما كُتب بالضبط.
تنوّعت تلك الشخصيات بشكل يجعلها مثيرة للاهتمام، فهناك الجارة النرجسية، وابن العمة العالقة في حياة صعبة، وأخو الزوج الذي كان شديد الغيرة من أخيه ويرغب في تملّك ما يملكه ويؤذي زوجته، وصديق المريضة المهتم بأعمالها الفنيّة.
ولم تكن الشخصيات التي دارت حول المريضة هي الشخصيات الوحيدة المثيرة في الرواية، بل حتى الشخصيات التي داخل المصحة أيضًا كانت مثيرة للاهتمام، وتنوّعت ما بين أطباء ومُديرين متعاونين وغير متعاونين، ومرضى تختلف مشاكلهم النفسية وشخصياتهم من مريض إلى آخر، يجتمعون معًا على نفس غرفة الطعام ونفس طاولة الاجتماع، بطريقة ربما تجعل من الصعب التمييز بين المريض والطبيب والمدير.
أمّا عن ضمير النص في الرواية، فتُنقل الرواية على لسان شخصان: الأول، هو المُعالِج نفسه وهو الجزء الأكبر من الرواية، والثاني وهو الجزء الأصغر، المريضة نفسها، عبر يومياتها التي كتبتها قبل قتل زوجها.
الحبكة
عندما كتب ميكايليديس روايته، لم يُركِّب جملها وكلماتها وأحداثها بشكل عفوي، وإنّما ركّبها كما يتم تركيب قطع «البازل»، بعناية فائقة جدًا، وبأسلوب تسلسلي مملوء بالصدمات والأحداث المفاجئة، فقد أبى أن يعطي القارئ البيانات الأساسية لأحداث الرواية وشخصياتها دفعة واحدة، وإنّما قسّمها إلى قطع صغيرة جدًا، تحتوي كل قطعة على كمية غير بسيطة من فاتح شهية شديد المفعول، مما يجعل القارئ ينتظر بعد كل قطعة القطع التي تليها، ليغوص في بحر من التشويق لا قاع له.
شيء واحد لم يعجبني في الرواية، وهو أنّ الكاتب قد نسج خطوط الحبكة بطريقة مُتقنة وغامضة ومثيرة جدًا للاهتمام، لكنّه في آخر الرواية لم يربط جميع الخيوط، وإنّما ترك بعضها متدليًا هكذا لا تصلنا بشيء.
وليس الأسلوب التشويقي الذي انتهجه الكاتب هو العنصر الوحيد الذي يجعل القارئ يتعلّق بها، وإنّما أيضًا اهتمام البطل وخوضه في أعماق النفس البشرية، وحديثه عن التأثير العميق لطبيعة الحياة التي عاشها الإنسان في الطفولة، وكيف أنّ العلاج عن طريق مساعدة المريض هي أفضل وأكثر جدوى من العلاج بالأدوية، فالأدوية على الرغم من أنّها تعطي مساحة آمنة للمريض ومن حوله فإنّها تُخفِّف حدّة المشاعر لدى المريض مما يؤدي إلى صعوبة علاجه.
ختامًا، يمكن اعتبار رواية «المريضة الصامتة» قطعة أدبية متميزة للغاية، فالكاتب استطاع ببراعة أن يجمع بين مختلف عناصر الرواية بأسلوب مبهر، فالحبكة مُتقنة ومدروسة بشكل رائع، والأسلوب الوصفي جميل جدًا، يُجسّد الشخصيات والأحداث بتفاصيل تجعلها تبدو كحقيقة أمامنا.