إسكات التاريخ الفلسطيني
تشكل خطاب الدراسات التوراتية التقليدية -تحت تأثير الظروف السياسية والاجتماعية لأوروبا في العصر الحديث- داخل إطار الثقافة الأوروبية ونزعتها الإمبريالية وتصوراتها عن الدولة القومية الحديثة. وذلك من أجل الربط بين الماضي الإسرائيلي القديم [الذي تم تضخيمه والمبالغة في إعادة إنتاجه بوصفه تاريخًا شاملاً وعامًا لفلسطين التاريخية] والدولة الإسرائيلية الحديثة التي أسسّتها الحركة الصهيونية على شاكلة الدولة القومية في أوروبا منذ الثورة الصناعية.
لقد تم اختلاق الماضي الإسرائيلي لتبرير مركزية الثقافة الأوروبية والوصول إلى فهم مُعمّق لأحد روافدها الأكثر أساسية «التوراة العبرية».
وبالتوازي مع سيطرة مضامين الخطاب التوراتي على البحث الأثري والأركيولوجي، تم إسكات التاريخ الفلسطيني وتاريخ السكان المحليين، عبر آليات إنكار الزمان والمكان وإقصاء التاريخ المقارن.
في مقابل هذا التهميش وعدم السماح للتاريخ الفلسطيني القديم بالوجود، تم اختراع إسرائيل القديمة، من خلال الدراسات التوراتية التي سيطرت عليها فكرة أن فهم تاريخ إسرائيل القديم جوهري لفهم التوراة العبرية. [1]
وبهدف صناعة هوية فاعلة للدولة الإسرائيلية الحديثة، تمت إعادة إنتاج تاريخ مُتخيّل للأمة اليهودية، يعتمد على العلاقة الانفعالية بين الأدب التوراتي والبحث التاريخي. تاريخ يُشكِّل «سردًا روائيًا» لقصص مُتخيلة عن الذات والجماعة. ذلك السرد التاريخي لا يتأسس على وقائع وأحداث تم التأكد من وجودها، بل يدّعي الحقيقة من خلال ممارسة القوة، وإسكات السرديات الأخرى الممكنة، فهو يحجب المعرفة التاريخية وصيرورتها التقدمية، ليقدم صورة متخيلة تستملك الماضي وتبرر الحاضر.
السردية الروائية الإسرائيلية
دفعت عملية إنتاج السردية التاريخية لإسرائيل في العصر الحديث، الدراسات التوراتية، لصياغة رواية تُعزِّز نموذج سلطة الدولة القومية الأوروبي، وتساعد على فهم تراث التوراة العبرية، التي تُشكِّل منبعًا قديمًا للحضارة الغربية.
واستمر خطاب الدراسات التوراتية في إنكار المكان والزمان على التاريخ الفلسطيني، فقد أعطي هذا الخطاب الزمان [من العصر البرونزي المتأخر إلى العصر الحديدي] والمكان [فلسطين التاريخية] لإسرائيل فقط. أما الكنعانيون والفلستيون والفئات المحلية الأخرى من سكان البلاد الأصليين، فقد منحها الخطاب التوراتي التقليدي إمكانية الوجود في هذا المكان والزمان، حسب الشروط التي تمليها إسرائيل.
كما ظل تاريخ فلسطين -وخاصة من القرن الثالث ق.م حتى القرن الثاني الميلادي- لا وجود له عمليًا، إلا كخلفية لتواريخ إسرائيل ويهودا أو فترة الهيكل الثاني اليهودية. وفي مقابل هذا التهميش وعدم السماح للتاريخ الفلسطيني القديم بالوجود، تم اختراع «إسرائيل القديمة»، من خلال الدراسات التوراتية التي سيطرت عليها فكرة أن فهم تاريخ إسرائيل القديمة جوهري لفهم التوراة العبرية.
فرضية الهجرة والاستيطان السلمي
في كتابه «اختلاق إسرائيل القديمة»، يطرح «كيث وايتلام» مسألة «الميلاد» -نشأة وتأسيس إسرائيل القديمة- كجدال بين السرديات الكبرى لخطاب الدراسات التوراتية، حيث توجد ثلاثة نماذج أو فرضيات رئيسية تقدم رؤى متباينة حول الفترة التي سيطرت فيها القبائل الإسرائيلية علي فلسطين التاريخية
- الهجرة.
- الاستيطان السلمي في مقابل الغزو.
- الصراع الطبقي داخل فلسطين.
وتُرجِّح تلك النماذج أن فترة الانتقال بين العصر البرونزي المتأخر وأوائل العصر الحديدي هي اللحظة المفصلية التي ستكون حجر الزاوية في عملية إعادة بناء الماضي.
في عام 1925 نشر الألماني «ألبرخت آلت» دراسة بعنوان «حيازة الإسرائيلي للأرض في فلسطين». طوّرت تلك الدراسة نموذجًا لفهم جذور الدولة الإسرائيلية ونشأتها التاريخية الأولى، من خلال الهجرة والاستيطان في فلسطين أواخر الفترة البرونزية (القرن 13 ق.م)، وقد استعان بالكتابات المسمارية وغيرها من الآثار المصرية لبناء «جغرافية سياسية لفلسطين القديمة».
يؤكد آلت على دور «التقسيمات الإقليمية» لفلسطين القديمة، حيث يُميز بين «المناطق الساحلية» التي وُجدت فيها معظم الدول التي خضع حكامها لسلطة الدولة المصرية القديمة، و«المناطق الجبلية» التي نشأت فيها ثقافات أكثر تطورًا ووحدة سياسية للقبائل والجماعات.
هذا التباين بين منطقة السهول والمرتفعات، يرجع حتمًا إلى وجود بناء سياسي مختلف: ففي الأول، هناك مجموعات من دول المدينة، قريبة من بعضها البعض، وفي الثاني، مناطق شاسعة تحت سلطة حاكم واحد. [3]
التغلغل السلمي
في نهاية العصر البرونزي المتأخر، ومع انهيار سلطة الدولة المصرية القديمة، تراجع نموذج «دولة المدينة»، التي كان يخضع أميرها للفرعون. ليتطور النموذج القومي ورؤيته الرومانسية للجماعة اليهودية، التي جاءت من الخارج إلى منطقة الجبال والمرتفعات بفلسطين، عن طريق الهجرة والتغلغل السلمي.
يقدم «مارتن نوث» رؤية متوازية مع فرضية آلت، حيث اعتقد بأن القبائل الإسرائيلية التي جاءت من الخارج وهي تحمل تراثًا مختلفًا، قد شكّل عقيدتها ووعيها الذاتي، واستطاعت من خلال «التغلغل السلمي» داخل المناطق الجبلية غير المأهولة بالسكان، أن تُطوِّر عملية تحضر طويلة الأمد، بدأت بقبائل مُشتتة من البدو الرحل، وانتهت إلى مملكة موحدة، وأصبحت إسرائيل حقيقة نهائية ودائمة في فلسطين التاريخية». [4]
نقد الفرضية: نماذج لآليات إسكات التاريخ الفلسطيني
تأسس النقد التاريخي للفرضية الرئيسية في الدراسات الألمانية التي تبنت رؤية آلت، على أعمال متعددة توضح آليات التخييل واختلاق الماضي الإسرائيلي، كما قدّمت المناهج الأدبية الحديثة في دراسة التوراة نقدًا للتحليل النصي الذي استنتجه آلت من المصادر الكتابية والآثارية، وكذلك انتقدت الفرضية التي تقول إنه من الممكن تحديد مستويات معينة للنص التوراتي، ومنحها تواريخ -غير دقيقة بالتعريف- واستخدامها بعد ذلك لإعادة بناء الماضي. والرحلة المُتخيلة للشعب اليهودي من الشتات إلى الدولة الموحدة.
إن الدراسات الألمانية لـ (آلت، ونوث، وويلبرت)، تُوضِّح مدى ارتباطها بالظروف السياسية والاجتماعية في لحظتها وزمانها الواقعي. وتعكس تصورات متعلقة بتاريخ فلسطين الحديث في بدايات القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت ازدياد الهجرة الصهيونية إلى فلسطين.
إن السمة الرئيسية لنظرية آلت، وهي وجود مجموعات ذات ثقافة ووعي أكثر تطورًا، تبحث عن وطن قومي لها، يجب أن تُفهم في سياق تلك التطورات المذهلة في فلسطين خلال القرن الماضي، كما أن بحث آلت ذاته يحمل تأثرًا حادًا بالقومية الألمانية التي انتهت مسيرتها إلى النازية.
إنه ماضٍ مُتخيل، يحمل شبهًا كبيرًا بالأحداث التي شهدتها فلسطين منذ العشرينيات، وما رافقها من ازدياد الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، وإنشاء عدد متزايد من المستعمرات والكيبوتسات، والتناقض بين ازدياد «الوعي القومي» الصهيوني والشعب الفلسطيني المحلي الذي نُظر إليه على أنه غير كفء، ومشتت، وغير قادر على عمل أي نوع من التنظيم القومي الموحد.
- كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت، 1999، ص 28.
- هومي بابا، الأمة والسرد، مجلة العرب والفكر العالمي، 2016، ص 11.
- كيث وايتلام، اختلاق إسرائيل القديمة، مرجع سبق ذكره، ص117.
- Die Landnahme der Israeliten in Palastina, p145.