لمحة من تاريخ «مجمع اللغة العربية»
يعرفُ كثيرون أنَّ مجْمعَ اللُّغة العربيةِ بالقاهرة قد نشأ في سنة 1351هـ/1932م بموجب مرسومٍ ملكي أصدره الملك فؤاد آنذاك، وسُمي باسمه «مجمع فؤاد الأول للُّغة العربية». وقد باشرَ المجمعُ أولى جلساتِه في يناير سنة 1934م. وظلَّ معروفًا باسم «مجمع فؤاد الأول للغة العربية»، إلى أنْ تغيَّر بعد زوال العهد الملكِي في أعقاب ما جرى في يوليو سنة 1952م، وأصبحَ اسمُه «مجمع اللغة العربية» بموجبِ قرارٍ وزاري رقم 434 لسنة 1955م وقَّعَه الصاغ كمال الدين حسين وزيرُ التعليم، والبكباشي جمال عبد الناصر رئيسُ الوزراء آنذاك.
ولكنَّ الذي قد لا يعرِفُه كثيرونَ أنَّ هذا «المجمع» العريقَ، لم يكن الأولَ من نوعِه في مصرَ؛ إذ سبقَه أكثرُ من «مجمعٍ لغوي» للذودِ عن حياضِ لغة القرآن وعلومِها في مواجهة الغزوِ الثَّقافي الأَجنبي. بيد أنَّ أيًّا من تلك المجامع لم يُكتبْ له البقاء.
نشأَ أولُ مجمعٍ للُّغةِ العربيةِ بمصرَ في سنة 1310هـ/ 1892م. أسَّسَه السيد توفيق البكري، شيخُ السَّادة البكرية وصاحبُ كتابِ «صهاريج اللؤلؤ»، وتولى رئاستَه، وضمَّ في عضويتِه: الإمام محمد عبده، والشيخ محمد محمود الشنقيطي، والشيخ أحمد السكندري، وغيرَهم من أعلامِ تلك الحِقْبة.
وكان من إنجازات هذا المجمعِ أنَّه اختارَ طائفةً من الألفاظِ العربيةِ الفصيحةِ رأى أنَّها أجدرُ بالاستعمال بدلًا من استعمالِ ألفاظٍ أجنبيَّةٍ، أو دخيلَةٍ. بيد أنَّ ما وضعَه هذا المجمعُ من ألفاظٍ لم يعشْ منها إلا القليل. وهذا القليلُ نازعتْه ألفاظٌ عربيَّةٌ أخرى اهتدى إليها الأُدباءُ من سليقتِهم اللُّغَوية.
مثلًا: بدلًا من كلمةِ الأفوكاتو (المحامي) اختارَ ذلك المجمعُ كلمةَ: «المُدْرَه» (بفتحِ الميم أو بضَمِّها) وهي لفظةٌ فصيحةٌ تعني زعيمَ القوم المتكلمِ باسمِهم والمنافحِ عن حقوقِهم. غير أنَّ لفظةَ «المُدْرَه» سرعانَ ما ماتتْ، وأماتتْ معها لفظة «الأفوكاتو»، وعاشتْ من بعدهما لفظةُ «المحامي»؛ التي لم تخطُرْ على بالِ أعضاءِ ذلك «المجمع» اللغوي! وإنَّما استعملَها كُتَّابُ الصُّحفِ والمَجلَّاتِ آنذاك ثم شاعت من بعدهم واستقرت نطقًا وكتابةً. واختار المجمعُ أيضًا كلمةَ «مرْحى» بدلًا من «برافو» المعرَّبة عن الفرنسية، ولكن الاستعمالَ أمات الكلمتين معًا، وحلتْ محلَّهُما «بخ بخ» لفترةٍ قصيرة، ثم لحقت بهما في عدادِ المهجورات، وخَلَفَ الجميعَ «التصفيقُ» بالأيدي، أو قول «الله أكبر»، تعبيرًا عنِ الاستحسان.
ومن الطريفِ أيضًا أن «مجمع البكري» -إن جاز أنْ نسميه بهذا الاسم- قد اختار «عِم صباحًا»، و«عِم مساءً» ليتخلَّص من التحيَّةِ الفرنسية «بونجور» صباحًا، و«بونسوار» مساءً. ولكنَّ الاستعمالَ أماتَ الجميع: أمات عم صباحًا وعم مساءً، وبونجور وبونسوار! واستقرت لغةُ الجمهور على تعبيراتٍ أرقَّ وأدقَّ مثل: صباح الخير، ومساء الخير، ليكون الجواب: صباح النُّور، ومساء النُّور، ثم تراجعت هذه التعبيرات قليلًا لصالح «السلام عليكم. وعليكم السلام».
وكان ممَّا اختارَه مجمعُ البكري كذلك كلماتٌ مثل: «الجَدِيلَة» وهي عربِيَّةٌ فصيحةٌ بدلًا من «المُوضة» وهي معربة عن الفرنسية؛ ولكنَّ الاستعمالَ أماتَ الفصيحة وأبقى على المعرَّبة «الموضة» أو «المودة»! واختار المجمعُ كذلك: «الحَذاقَة» للتعبيرِ عن شهادة الدِّراسةِ، فأماتتها لفظةُ «البكالوريوس»، و«الليسَانْس»؛ وهما معرَّبتان. واختارَ كلمةَ «الطَّنَف» وهي فصيحةٌ تعني: شرفةَ المنزلِ، فأماتتها «البلكونة» المعرَّبة عن الفِرنسية. وتكرارُ هذه الظاهرةِ يحتاجُ إلى دراسةٍ متخصصةٍ من اللغويينَ لمعرفةِ قوانينَ شيوعِ بعضِ الألفاظِ، وأسبابِ تراجُعِ بعضِها الآخَر في ثقافَتنا الحديثةِ والمعاصِرة.
ولا يعني هذا أنَّ مجمعَ البكري لم يتركْ أثرًا باقيًا -إلى اليومِ- في إحياءِ اللغة العربية وتقويتها في مواجهة الوفود اللغوي الأجنبي؛ فقد اختارَ ألفاظًا بقيتْ وعاشتْ، وإنْ بقي معها وعاشَ مقابلُها الأعْجمي أو الدخيل أيضًا. ومما اختاره وبقي إلى اليوم ألفاظ مثل: بِطاقة/ كارت فيزا، شُرطي/ بوليس، قفاز/ جوانتي. وكما ترى؛ فإنَّ اللَّفظَ العربيَّ عاشَ معه المُعرَّبُ إلى اليوم. ولم يقدر أيُّهما على إماتةِ الآخر، ولا يزال يجمعهُما الاستعمالُ معًا بسلام ووئام.
استمرَّ «مجمع البكري» قرابةَ عشرينَ عامًا -على وجه التقريب- قبلَ أنْ يغلقَ أبوابَه. ويُحمد له أنَّه كان أولَ محاولةٍ رائدة في العصر الحديث، وأنَّه مهَّد الطريقَ لما جاءَ بعده من مجامعَ. وكان لأساتذة دارِ العلوم القدحُ المُعلَّى فيما أنجزه «مجمع البكري»، كما كان لهم هذا القدحُ فيما أنجزتْه المجامعُ التي ظهرت بعدَ ذلك. وفي سنة 1318هـ/1900م تقريبًا أَسدل التَّاريخُ ستارَه على «مجمعِ البكري»، وطواه النِّسْيان في طواياه.
لم يمضِ وقتٌ طويلٌ؛ حتى عادت الرغبةُ في الدفاع عن اللغةِ العربية أشدَّ وأقْوى. وفي سنة 1908م عقدَ «نادي دار العلوم» ندوةً استمرَّت أسبوعين -وهي مدَّةٌ طويلةٌ جدًّا بمعايير اليوم، ناهيك عن معايير ذلك الزَّمن- ونوقِشت فيها بحوثٌ تناولت الفُصحي والعاميَّةَ، والمعرَّبَ والدَّخيلَ. وقد ألقاها عددٌ من كبارِ الأساتذة والعُلماء، كان منهم: حفني ناصف، وحمزة فتح الله، ومحمد الخضري، وطنطاوي جوهري، وفتحي زغلول. وانتهت الندوةُ بقرار يقضي بتأليف «مجمع للغة العربية»، ثم مضت سنوات دون أنْ يرى هذا القرارُ النُّورَ.
وفي سنة 1334هـ/ 1916م، كان أحمد لطفي السيد قد صارَ مديرًا بدار الكتب المصريَّةِ، فدعا مع بعض العلماءِ والأدباء لإنشاءِ مجمع لُغوي أهلي. وبالفعل أُنْشِيءَ وسُمِّي «مجمع دار الكتب»، وأَسند المؤسسونَ رئاستَه للشيخ سليم البشري، شيخِ السادة المالكية وشيخِ الجامع الأزهر آنذاك. وكان أحمد لطفي السيد مقررًا أو «كاتب سر المجمع». وضمَّ في عضويته: الشيخَ أحمد السكندري، والشيخَ حمزة فتح الله، والأستاذَ حفني ناصف، والأستاذَ محمد حلمي عيسى، والأستاذَ فارس نمر وغيرَهم.
ومن طرائف لحظة تأسيسِ «مجمع دار الكتب»، أنَّ الشيخ حمزة فتح الله أرسلَ للشيخ سليم البشري رسالةً يعتذرُ فيها عن الانخراطِ في عضويةِ المجمع قال فيها: «أَعتذرُ من الانخراط في سلكِ مجمعِكم بسببِ قَديحٍ نزلَ ضيفًا ثقيلًا على عيْنِي». ووجه الطرافة أن لفظةَ «القديح» عربية فصيحة، وضعها الشيخ حمزة مكان لفظ «الكاتراكتا» الأعْجمي، الذي يعني مرضًا مخصوصًا يصيب العين. ولكنَّ الاستعمالَ أمات القديح، وأبقى على «الكاتراكتا».
وقد شرعَ «مجمع دار الكتب» في مباشرةِ أعمالِه برئاسةِ الشيخِ سليم البشري، واستمرَّ عامين أو أكثرَ قليلًا. ولما توفي رئيسُه الشيخ البشري في سنة 1917م، خلفَه أحمد لطفي السيد، ولكنْ سرعانَ ما قامتْ ثورة الشعب في سنة 1919م فأغلقَ المجمعُ أبوابَه. ولعل الكشف عن هذا الجانب من حياة الشيخ سليم البشري، وكونه كان رئيسًا لمجمع اللُّغة العربية الأهلي -بدارِ الكُتب- وأنَّ أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد كان مساعدًا له، قد يفيدُ هذا الكشفُ -الذي اكتشفناه- كثيرًا في إعادة النَّظر إلى جماعةِ العلماء في تلكَ الحقْبةِ الثريَّة منْ تاريخِنا الحديثِ والمُعاصر، وكيف التقى العلامةُ البشري شيخ الأزهر ذو النزعة المحافظة، مع أحمد لطفي السيد زعيم حزب الأمة ذي النزعة الليبرالية؟! أم إنَّ هذا هو العادي إن كانت العلاقة بين كبيرٍ وكبيرٍ! مهما اختلفت الآراء، وأنَّها لا تختلُّ إلا إنِ اختلَّتْ وكانت بين كبيرٍ وصغيرٍ؟!
والعجيبُ في قصَّة «مجمعِ اللُّغةِ بدارِ الكتب» الذي رأسَه الشيخ سليم البشري، ورعاه أستاذُ الجيل أحمد لطفي السيد، أنَّه اختارَ طائفةً من الألفاظِ العربيَّةِ الفصيحةِ شديدة الغرابَةِ، فلم يُكتب لها البَقاء. وسرعان ما انْدَثرت، أو التحقتْ بالمهجوراتِ. ومنها مثلًا: لفظة «الوَنُّ» وهو صوت له صدًى، وهي لفظةٌ دخيلة، وضعها «المجمع» مكان لفظةِ «الصَّنَج» التي هي -في رأيي- أولى بالاستعمال وأكثر قربًا من «الون» في تصوير المعنى المقصود، وهو صوت صدى يتردد بين «القلعِ» و«القرع» بحسب تعبيرات ابن سينا في كيفية «حدوث الحروف».
واختارَ ذلك المجمع أيضًا لفظة «الوَثْل» وهو الحبلُ الغليظُ من الليفِ، مكان «السَّلَبِ»، و«السَّلبُ» لفظة فصيحةٌ أيضًا، فما الداعي لاستبدالها. ولفظة «الهَرمول»، جعلها مكانَ «الشُّوشة»: وهي شعر أعلى الرأس. وجعل «المغرقل» مكان «البطيخ». و«المُلَيَّل» مكان «المُدمَّسِ»، باعتبار أنَّه غالبًا ما كان يُطبخُ ليلًا ويحتاجُ لساعاتٍ طويلة حتى ينضجَ، فنسبوه إلى «الليل»، وبعضهم زعم أنَّ «المُدمَّس» لفظةٌ قبطية، والصحيح أنَّها عربيةٌ فصيحةٌ من فعلِ «دَمَسَه» إذا دفنَه، و«الدِّمْس» هو القش الذي دهسته الأقدامُ حتَّى صار ناعمًا مطمورًا.
وعلى أية حال، لم يختلفْ مصيرُ حبِّ حصيد «مجمع دار الكتب»، عن مصيرِ حبِّ حصيد سلفه «مجمع البكري»؛ إذ لم تُكتب الحياةُ لأيِّهما، وذلك لأسبابٍ يرجعُ بعضُها إلى عدمِ العناية بالطُّرق المؤديةِ إلى استعمال تلك الألفاظ، ويرجعُ بعضُها إلى غرابتِها وثقلِ النُّطق بها على ألسنةِ الجمهور العام.
وقد يكون السَّببُ في عدم نجاح تلكَ المحاولات لتأسيسِ مجمعٍ للغة العربية وذيوع ما أنتجَه هذا المجمعُ أو ذاك، أنَّ كلًّا منهما اعتمد على الجهودِ الشَّخصيَّةِ لبعضِ كبار العلماء والأساتذة، ولم تحظَ بتأييدٍ من جهةٍ رسميةٍ أو حكوميَّة تمدُّها بالمالِ، وتُضفي عليها صبغةً قانونيَّةً، وهو ما توافرَ مثلًا للمجمعِ العلمي العربي بدمشق الذي نشأ في سنة 1336هـ/ 1918م، ثم توافرَ بعد ذلك لمجمع الملك فؤاد للغة العربية، الذي تأسَّس -كما سلف القول- بمرسومٍ ملكي في سنة 1351هـ/ 1932م.
نشأَ مجمع فؤاد الأول للغةِ العربيَّة على غرارِ المجمع العلمي للغة الفرنسية في باريس. وفي السنة التي صدرَ فيها مرسوم إنشائه كان قد مرَّ ثلاثُمائةِ سنةٍ على تأسيس المجمع الفرنسي. وأطلق مؤسسو المجمع المصري اسم «مجمع الخالدين» على مجمع فؤاد الأول، بشكل غير رسمي، محاكاةً للوصفِ الرسمي للمجمع الفرنسي وهو «مجمع الخالدين». وقد كان الملك فؤاد عضوًا من أعضاء المجمع الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين الماضي.
ومنذُ انعقادِ أول جلسةٍ لأعضاءِ «مجمع فؤاد الأولِ للُّغةِ العربيَّةِ»، انتظمَ أداؤُه في خدمةِ اللُّغةِ العربيَّة. وواصلَ -ولا يزالُ يواصلُ- أعمالَه بأعضائِه، وخبرائِه، ومحرريه، ومجلسِه الأسبوعي، ومؤتمرِه السَّنوي؛ لينهضَ بمهمتِه التي حَدَّدها مرسوم إنشائِه في سنة 1351هـ/ 1932م وهي: «المحافظةُ على سلامةِ اللُّغةِ العربيَّةِ، وجعلِها وافيةً بمطالبِ العلومِ والآدابِ والفنونِ، وملائمةً لحاجاتِ الحياةِ المتطورةِ». و«النظرُ في أصولِ اللُّغة العربيَّةِ أساليبِها، لاختيارِ ما يوسِّعُ أقيستَها وضواِبطَها، ويبسطُ تعليمَ نحوِها وصرفِها، وييسرُ طريقةَ إملائِها وكتابتِها». و«دراسةُ المصطلحاتِ العلميَّةِ والأدبيَّةِ والفنيَّةِ والحضاريَّة، وكذلك دراسةُ الأعلامِ الأجنبية، والعملُ على توحيدها بين المتكلمين بالعربيَّة». و«بحثُ كل ما له شأنٌ في تطويرِ اللُّغةِ العربيَّةِ والعملُ على نشرِها، وبحثُ ما يردُ للمجمع من موضوعاتٍ تتَّصلُ بأغراضِه السَّابقَة».
أنجزَ المجمعُ إنجازاتٍ قيمَةً في خدمةِ اللغَةِ العربيَّةِ وثقافتِها وآدابِها، رغمَ العوائق الهائلةِ التي اعترضَت طريقه منذ بداياتِه الباكرة، ولا يزال بعضها ماثلًا حتى اليوم، وأهمها عقبةُ: «فقدان الاستقلال المالي» بحسب تعبير عضو المجمع الأستاذ الكبير أحمد أمين في كلمةٍ له بإحدى جلساتِه في سنة 1946م. وكان من رأيه أنَّ عدم الاستقلال المالي للمجمع من شأنِه أنَّه «يشعرنا أننَا لسنا أحرارًا … وهذه عقدةُ العقدِ في كل عملٍ حكومي».
وإلى أن نعودَ إلى التنقيبِ في تاريخ «المجمعِ» ومراحلِ تطورِه، لا يفوتُنا أنْ ننوه -في هذه التقدمة- إلى أنَّ مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد حفلَ منذ نشأته بصفوةٍ من كبار العلماء والأدباء من مصر ومن البلدان العربية والأجنبية. ويكفي أنْ نذكرَ (مع حفظ الألقاب) أنَّ من رؤسائه الذين تعاقبوا على قيادته تسعة عقود: محمد توفيق رفعت (أول رئيس للمجمع)، وأحمد لطفي السيد، وطه حسين، وإبراهيم بيومي مدكور، وشوقي ضيف، ومحمود حافظ، وحسن الشافعي، وصلاح فضل. وإلى جانبهم عشرات من كبارِ العلماءِ والأدباءِ العربِ والمستشرقينِ. والحديث عن المجمع وتاريخه ذو شجون، وقد تكون لنا إليه عودةٌ بإذنِ الله تعالى.