استلقى مُمددًا على فراشه… عاقدًا ذراعه اليسرى فوق جبهته ومغمضًا عينيه… محاولاً ادّعاء النوم. كان القلق والخوف قد استبدا داخله، والظلام المحيط به لم يفلح في تهدئة نبضات قلبه المتسارعة مع كل سعلة يسعلها زميله المُمدَد إلى جواره.

أدرك أن الخطر المحدق ربما لن يحتاج سوى إلى عدة ثوان من أجل أن يُنزل به ما أنزل بآخرين. في هذا المكان ليس هناك فاصل مع الموت، فقط عليك أن تنتظره بينما تمارس حياتك ومهام عملك بشكل طبيعي. أو هكذا تعيّن عليه الاختيار بين خيارين لا طعم إلا المرارة فيهما… وقد اختار أكثرهما مجازفة ورهبة.

تبدو الرحلات البحرية على متن السفن أمرًا مشوقًا وممتعًا، لكن قبل أيام فقط تحولت تلك الصورة إلى النقيض تمامًا، بعدما أضحت رحلة بحرية عادية أرضًا خصبة لنشر الوباء الذي يُهدد العالم بأسره: فيروس كورونا.

جذبت سفينة «دايموند برنسيس» القابعة في ميناء يوكوهاما قبالة السواحل اليابانية أنظار الجميع، بعدما صارت سابع أكبر مرتع للفيروس المتفشي عالميًا، بما يقرب من 700 إصابة و7 وفيات، بين ما يزيد عن 3 آلاف ونصف على متنها من ركاب وطاقم.

كيف تبدو الحياة على متن السفينة؟ وما هي التفاصيل التي تغيب عنا؟ والأهم: هل كانت الإجراءات التي فرضتها السلطات اليابانية فعالة أم أنها ساهمت في تفشٍ أسرع للفيروس؟

صحيفة «الجارديان» البريطانية تحدثت مع عدد من أفراد طاقم السفينة، وكشفت كلماتهم عن الكثير من المُفجِعات.

يتذكر كريستيان سانتوس (اسم مستعار) بقاءه مستيقظًا طوال الليل وهو يستمع بقلق إلى صوت سعال زميله الذي يشاركه النوم في غرفة صغيرة أسفل ظهر السفينة. حاول أن ينتقل إلى غرفة أخرى، لكنهم أخبروه أن هذا ليس ممكنًا. يقول: «في كل مرة كان يسعل فيها كنت أشعر بالخوف»، وفي الصباح التالي نُقل زميله إلى المشفى للعلاج.

أمضى سانتوس الأسبوعين الماضيين في خدمة الركاب المحبوسين داخل غرفهم، وشاهد الفشل المروع لتدابير السيطرة على المرض. والآن يُدرك جيدًا أن الفيروس، الذي انتقل إلى المئات على ظهر السفينة، من المؤكد أنه دق أبواب غرفته.

أتت اختبارات سانتوس سلبية، ما يعني أن المرض لم ينتقل إليه بعد، ولكنه يرى أن ركاب وطاقم «دايموند برينسيس» كان يجب إخلاؤهم بشكل مبكر من السفينة، والتي باتت أرضًا خصبة للفيروس، بعدما منعتها الحكومة اليابانية من الإبحار.

ويضيف أن طاقمها لم يتوجب عليه مواصلة العمل والطبخ والتنظيف بعد فرض الحجر الصحي، مؤكدًا: «تم استغلالنا… تخيل؟ الوضع كان مُقلقًا ولكنهم أجبرونا على مواصلة العمل». كان خائفًا من مواصلة تطور الفيروس، وفي نفس الوقت قلقًا من خسارة عمله بسبب الأزمة.

أتت بداية المخاوف من السفينة مع إثبات إيجابية عينة أحد ركابها السابقين في هونج كونج بالأول من فبراير/شباط، وبعد 3 أيام منعت السلطات اليابانية السفينة من الإبحار. مع الخامس من فبراير/شباط فُرضت المزيد من التدابير وطُلب من 2600 راكب عدم مغادرة غرفهم.

لكن هذه الإجراءات اقتصرت على الركاب، فيما واصل طاقم السفينة تناول طعامه في القاعة الكبيرة، والتشارك في مرافق الحمامات والذهاب إلى غرف الركاب. حتى أن بعض الأقسام حصلت على تجهيزات وقائية متأخرًة عن الآخرين، بحسب ما يقول سانتوس، الذي أكد حصوله على كمامة بعد أسبوع من إيقاف السفينة.

كينتارو إيواتا، أخصائي الأمراض المعدية في مشفى جامعة كوبي، والذي زار السفينة خلال الحجر الصحي، وصف الإجراءات المفروضة بـ «غير الكافية تمامًا»، وقال في فيديو نشره عبر الإنترنت إنه عمل خلال تفشي وبائي سارس وإيبولا ولم يخشَ أبدًا إصابته بالعدوى، ولكنه بعد زيارة «دايموند برنسيس» يخشى من إصابته بفيروس كورونا.

كان ذلك مدخلاً لكشف المزيد من الارتباك والفوضى التي تحدث عنها جيمس رييس، أحد أفراد الطاقم ويعمل في خدمة الغرف:

كطاقم أنت لا تعرف حتى من هم المصابون بالمرض، أنت تتعامل مع الكل وتتحرك في أرجاء السفينة ونأكل معًا في نفس المكان. نحن من نمنح أفراد الطاقم المعزولين كل ما يحتاجونه ونرتب أطباقهم المتسخة، ثم في يوم ما تتفاجأ أن أولئك المعزولين باتت غرفهم فارغة بعدما أثبتت الاختبارات إيجابية تحليلاتهم. تخيل كيف يمكن أن تنتقل العدوى بهذه الطريقة.

اتهامات فشل السيطرة كانت متبادلة، وفي بيان لها قالت شركة «دايموند برينسيس» إن وزارة الصحة في اليابان كانت السلطة الرائدة في تحديد وتنفيذ بروتوكولات الفحص والحجر الصحي لكل الضيوف والطاقم، وأن السفينة كانت مُلزمة قانونًا باتباع تعليمات الصحة العامة والتعليمات الطبية في البلاد.

ردت وزارة الخارجية اليابانية في بيان:

اليابان قدمت معايير للسلوك للحد من الإصابة بالعدوى إلى جانب المعدات… ولكن المسئولية عن ضمان إمكانية تشغيل السفينة على النحو الذي يوفر بيئة آمنة للركاب وطاقم السفينة تقع على عاتق مشغل السفينة.

لا يعرف رييس تحديدًا من المسئول عن هذه الأزمة، ولكنه على الأقل ربما بات في موضع أكثر أمنًا بعدما نُقل إلى الحجر الصحي في وطنه الفلبين -موطن ما يقرب من نصف طاقم «دايموند برينسيس»- رفقة سانتوس.

تلك الصورة القاتمة والمفزعة لم تبدُ أنها على نفس الحال بالنسبة لـ جيري يورجينسين، إحدى ركاب السفينة السابقين، التي أثبتت الاختبارات إيجابية عينتها، وتقول لشبكة شبكة «فوكس نيوز» إنها تفاجأت بذلك، إذ لم تظهر عليها أي أعراض للمرض قبلها، حتى أن درجة حرارتها لم ترتفع.

لكن في الوقت نفسه لم تشعر يورجينسين، التي تعافت من الفيروس، أبدًا بالفزع خلال فترة الحجر الصحي، موضحة:

لم أشعر بالخوف فقد تم الاعتناء بي. لم يتحدث أحد الإنجليزية من أطباء وممرضين، لذا فقد كان (جوجل ترانسليت) وسيلة التواصل… لقد أحببتهم كثيرًا… كانوا رائعين.

قال معظم أفراد الطاقم الذين أجريت معهم مقابلات إنهم لا يريدون إعطاء أسمائهم كاملة لأنهم يخشون من تداعيات ذلك من قبل شركة «برينسيس كروزس» أو من وكالة التوظيف التابعين لها، وهي شركة «ماكاسساي» البحرية.

وأشار بعض أفراد الطاقم وأقاربهم إلى عدم تحبيذهم نشر المعلومات عن تفشي المرض من خلال الإنترنت أو التحدث إلى وسائل الإعلام، فيما قالت «برينسيس كروزس» إنها لم تمنع طاقمها من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. ولم تستجب شركة «ماكاسساي» البحرية لطلب التعليق.

جوانا كونسبسيون، رئيسة مجموعة الهجرة الدولية، التي ساندت أعضاء الطاقم المتضررين، قالت إنّ الموظّفين أرادوا إيقاف العمل ولكنهم شعروا أنه ليس لديهم أيّ خيار، وأوضحت:

كان الأمر وكأنهم أُجبروا على الاختيار بين صحتهم وسلامتهم وبين سبل معيشتهم الاقتصادية.

اختلفت الرسائل التي تم إرسالها إلى طاقم السفينة. في أحد الأقسام، قيل لطاقم العمل خلال اجتماع إنهم إذا لم يرغبوا في العمل، فيتعين عليهم أن يتقدّموا وأن يدلوا بأسمائهم، حتى يتسنى توفير تفاصيل للموارد البشرية، وهو ما اعتبره بعض الموظفين تهديدًا لهم.

وفي أقسام أخرى، قال الموظفون إنهم لم يُبلغوا بأي خيار لعدم العمل، وعوضًا عن ذلك فقد تزايدت ساعات عملهم، حيث كُلفوا بتسليم الطعام وغيره من أنواع الحلوى للركاب الذين كانوا معزولين في غرفهم، كما تم منح طاقم العمل الحلويات والفيتامينات.

وقال أحد العاملين، الذي طلب أن يشار إليه بالأحرف الأولى من اسمه (ر. س. د. ج):

إذا توقفنا عن العمل، فلن يتمكن أحد من تسليم الطعام، ولن يتمكن الركاب من تناوله. بعض الركاب كبار في السن ويعانون من أمراض تجعلهم غير متحصنين من الفيروس.

شعر بعض الركاب بالإحباط بسبب الحجر الصحي، بيد أن معظمهم كانوا ممتنين للغاية للطاقم، بحسب ما يقول بعض العاملين.

ويرى (ر. س. د. ج): «لقد ضحينا بصحتنا من أجل مساعدة الآخرين، نشعر بالفخر بأنفسنا وبما فعلناه»، لكن صديقة أحد أفراد الطاقم الذي أصيب بالفيروس وظل في اليابان تقول: «لم تعد هذه وظيفتهم. هذا ليس جزءًا من تعاقدهم».

أما إيلسي لافادو، التي يوجد زوجها في الحجر الصحي في الفلبين، فإنها فقط تريد عودة عائلتها معًا: «إن حياة زوجي أكثر أهمية من المال». أثناء ذروة تفشي الوباء، حبست نفسها في غرفة نوم ابنها، وصلّت من أجل عودة زوجها وكل الناس الآخرين على متن السفينة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.