الشيعة في الكويت: المواطنة هي الحل
حرية مذهبية .. اندماج ملفت بين السنة والشيعة على أسس المواطنة والتعايش ومصلحة البلاد .. هكذا يمكننا النظر للتجربة الكويتية في احتواء أخطر ملف، كان ولازال السبب الأول لضرب استقرار بلدان الشرق الأوسط، وخاصة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي.
ويمثل الشيعة جزءا أسياسيا من المجتمع الكويتي، بالرغم من صعوبة تحديد أعدادهم الحقيقية، في بلد يميل إلى «السمت الإسلامي» في تكوينه الديمجرافي، ولكن بعض المصادر قدرت عددهم بـ 15%، إلى 20 % من إجمالي السكان، وينقسمون إلى أربعة مدارس مذهبية، الشيخية، والإخبارية، والأصولية، والخوئية.
جذور الشيعة في الكويت
استوطن الشيعة الكويت منذ عقود طويلة، وهم من أصول عربية، وإيرانية، العرب ينحدرون من الجزيرة العربية، وتحديدا من المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية، ويطلق عليهم الحساوية، نسبة إلى الأحساء، وعرب البحرين، ويطلق عليهم البحارنة، بجانب فئة قليلة جاءت من جنوب العراق.
أما الشيعة من الأصول الإيرانية فقدموا من إيران منذ بداية القرن التاسع عشر، بتشجيع من الاستعمار البريطاني، لأهداف سياسية واقتصادية، وعلى الرغم من تعربهم، فإنهم احتفظوا بهوية ثقافية وولاء لأصولهم التاريخية، خاصة اللغة واللهجات العامة والفارسية.
وكان الشيعة قديما يتمركزون في منطقة الشرق وبنيد القار، وبعد ظهور النفط في البلاد انتقلوا إلى القادسية، والمنصورية والدعية، والسالمية، وجولي، والجابرية.
ويرجع ظهور الشيعة في الساحة السياسية إلى عام 1921، أثناء تدشين أول تجمع سياسي في الكويت، سمي بالمجلس الاستشاري، واستحوذ على عضويته التجار وأصحاب الرأي المتهمون بالعمل العام، واقتصر الانضمام إليه على الطائفة السنية من أصول عربية.
ولم يضم المجلس في عضويته أي ممثل عن الشيعة، حتى من أصحاب الأصول العربية، مثل البحارنة والحساوية، بسبب امتناعهم عن المشاركة في معركة الجهراء التي اندلعت عام 1920، بين الكويت وحاكم نجد عبد العزيز آل سعود، وقالوا وقتها إنهم إيرانيون، لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب المشتعلة بين العرب.
انتهت الحرب وظلت مرارة الموقف الشيعي عالقة في النفوس، إلى أن تم حل المجلس الاستشاري، وظهرت لأول مرة في البلاد مجالس إدارية منتخبة عام 1934، وتمثلت في مجلس البلدية، ومجلس المعارف، واقتصرت عضوية المجالس الجديدة أيضا على الكويتيين السنة من أصل عربي.
وتم استبعاد أصحاب الأصول الإيرانية، بما فيهم السنة، من حق الترشح والانتخاب، واستمرت هذه المجالس حتى عام 1938 وطوال هذه الفترات لم يستسلم الشيعة بل أشعلوا الأجواء ضجيجا بحثا عن حقوقهم السياسية.
ولم تعط القوى السياسية في الكويت أي اهتمام للشيعة، بل على العكس تبنت الكتلة الوطنية للإصلاح، من ذوي الاتجاه القومي العربي، مواقف متشددة من الكويتيين من أصل إيراني، فاستبعدوا الشيعة من حق الترشح للمجلس التشريعي الذي تأسس بعد عام 1938، واكتفوا بإعطائهم حق التصويت للمرشحين السنة، ما أثار غضب الشيعة، فتقدم عدد كبير منهم إلى المقيم السياسي الإنجليزي بالكويت، وطلبوا الحصول على الجنسية الإنجليزية، بزعم تعرضهم للاضطهاد.
التصعيد الشيعي قابله المجلس التشريعي بتصعيد مماثل، وأصدر قانونا يقضي بطرد كل كويتي يتجنس بجنسية أجنبية خارج البلاد، مع حرمانه من كل حقوقه، وانتهى التصعيد المتبادل بين الطرفين بتحالف الشيعة مع السلطة القائمة على شئون البلاد، بجانب الإنجليز الذين حرضوهم على الخروج في مظاهرات عارمة، للمطالبة بإسقاط المجلس التشريعي، بزعم عدم تمثيله لكل الطوائف الكويتية، لتسقط بذلك أول محاولة لإصلاح الأوضاع السياسية في الكويت، وكان للشيعة نصيب الأسد في ذلك.
الديمقراطية تعيد ولاء الشيعة لـ«المواطنة»
ظهر أول تنظيم شيعي علني في الكويت عام 1963، بعد إعلان استقلال الكويت عن بريطانيا، حيث استفاد الشيعة من الفلسفة الديمقراطية في الحكم، للشيخ سالم الصباح، الذي سمح للقوى السياسية والاجتماعية بالتعبير عن رأيها من خلال الأندية والروابط الشعبية، وعزز توجهاته الليبرالية بعد جلاء الاحتلال البريطاني، وكفل قانون الانتخاب الجديد حق التصويت والترشح لكل الكويتيين بغض النظر عن الانتماء الطائفي.
ظلت الأمور تأخذ حالة من الشد والجذب، حتى سبعينيات القرن الماضية، واشتعال الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني، عندها بدأت تسود أوساط الشيعة في العالم العربي روح ثورية معادية للأنظمة المحافظة، وانعكس ذلك على تدشين التجمعات الشيعية في الجزيرة العربية، فبرزت في السعودية منظمة الثورة الإسلامية لتحرير الجزيرة العربية، والجبهة الإسلامية لتحرير البحرين.
وصلت رياح الموجة الثورية إلى شيعة الكويت، فانقسموا إلى تيار محافظ يعبر عن الطبقة الارستقراطية والتجار وأصحاب المصالح مع السلطة، وتيار شيعي ثوري، يضم في معظمه «الطبقات الدنيا»، والذي طمح للإطاحة بآل الصباح من الحكم، وإحلال نظام ديني على غرار نظام الخميني في إيران.
واستطاع التيار الثوري الإطاحة بالتيار المحافط من رئاسة جمعية الثقافة الاجتماعية، الواجهة السياسية والاجتماعية للشيعة، فيما حققت الروح الثورية للنظام الإيراني أول أهدافها باندلاع مظاهرات؛ انطلقت من منزل عباس المهري، الممثل الروحي لآية الله الخميني في الكويت.
وتوجهت المظاهرات إلى سفارة إيران بالكويت ونزعت علم الشاه، ووضعت عليه لافتة مدون عليها «الله أكبر»، وكان ذلك إيذانا بالصدام بين الدولة والشيعة، حيث هاجمت القوات الخاصة المظاهرة، واعتقلت عددا كبيرا من المشاركين فيها.
الضربات الأمنية تسببت في ثورة عارمة لأحمد عباس المهري فدعا إلى اجتماعات حاشدة تنظلق من مسجد شعبان، موطن الشيعة التاريخي في شرق الكويت، ردا على التصعيد الأمني، ودعا المتظاهرون إلى المساواة في الوظائف العامة، وكان اللافت أن التيار الثوري الموالي للخميني يرفض حمل شعارات دينية وطائفية، وتبنى في أغلب مطالبه نفس مطالب القوى الوطنية، ما ساهم في تحول أفكار التيار التقدمي تجاه الكويتيين الوافدين من إيران، والسعي لإيجاد صيّغ تفاهمات معهم على أساس الشراكة الوطنية.
بمرور الوقت، وتنامي جهود التقارب بين القوميين والشيعة، تحول «مسجد شعبان» أكبر مساجد الشيعة في الكويت إلى منبر سياسي، وشملت محاضرات المسجد جهودا للتقريب بين السنة والشيعة، فشعرت السلطة بقلق بالغ من تنامي نفوذ المسجد في مواجهتها، فدفعت بالعائلات الشيعية المقربة لها والمثقفين الشيعة، الذين يمثلون وجهة نظر الحكومة، لإيقاف حركة المسجد.
فشلت الحكومة في مساعيها السلمية، فلم تجد أمامها إلا اعتقال أحمد عباس المهري، منظم حركة مسجد شعبان، بدعوى مخالفته لقانون التجمعات العامة، وأمام اعتقاله لم يجد والده عباسر المهري إلا التجمهر لكسر القيود المفروضة عليه، وذهب ليؤم المصلين في المسجد، وهنا تفجرت الأزمة، وحاصرت قوات الأمن المسجد من كل جهاته، ومُنع المهري من الدخول واعتلاء المنبر.
أثار منع المهري غضب الخميني، فتوجه على الفور إلى راديو الجمهورية الإسلامية بطهران، ودعا الشعب الكويتي إلى الذهاب والصلاة خلف المهري، وهو الأمر الذي ردت عليه السلطات الكويتية بسحب الجنسية من آل المهري بأكملهم، وكان يبلغ عددهم 18 فردا، وتم ترحيلهم إلى إيران.
ظلت الأحداث مشتعلة، وتحين التيار الثوري الشيعي الفرص للرد على تصعيد الحكومة، عبر اتخاذ مواقف متشددة تجاه كل قراراتها، وجاءت الفرصة الكاملة للانتقام، عندما أيدت الكويت صدام حسين في حربه ضد إيران، وأمدته بمساعدات مالية وعسكرية وإعلامية، بلغت قيمها في ذلك التوقيت 15 مليار دولار، ما أثار سخط الشيعة الكويتيين، وشهدت الساحة السياسية في الكويت منذ عام 1980 موجات من أعمال العنف السياسي، توجت بمحاولة اغتيال فاشلة لأمير الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح.
استمرت الاضطرابات السياسية بعد محاولة اغتيال الصباح، بسبب توسع قوات الأمن في القبض علي كل المشتبه بهم في الحادث، وخاصة المنتمين للتنظيمات الشيعية المؤيدة للنظام الإيراني، وفي صدرها طلائع تغيير النظام للجمهورية الكويتية، وصوت الشعب الكويتي الحر، وقوات المنظمة الثورية للرسول محمد في الكويت، والأخيرة كانت مسئولة عن الكثير من عمليات العنف في الثمانينيات، وجميع هذه المنظمات كانت تنتمي في الغالب لـ«حزب الله الكويتي»، الذي تأسس بعد الثورة الإيرانية، على يد مجموعة من الشباب، تلقوا تعليمهم في مدينة قم الإيرانية، ما وثق الارتباط بينهم وبين اللجان الثورية لحراسة الثورة في إيران.
وكان الحرس الثوري الإيراني يعمل منذ نشأته على مدّ فروع له خارج إيران، وخاصة في الأقطار العربية التي تتواجد فيها أقليات شيعية، وبالفعل نجحت إيران في إنشاء حزب الله بالحجاز ولبنان والكويت، لكن الأخيرة نجحت في توجيه ضربات أمنية قوية له، بعد فشل كل محاولات احتوائه.
وظلت العلاقات المشتعلة كما هي، حتى تغيرت الأوضاع الإقليمية بتولي «علي أکبر هاشمی رافسنجاني» الحكم في إيران، في أعقاب وفاة الخميني، وهو الرجل المعروف بمعاداته لأبواق التشدد الأصولي، وسعيه لتلطيف العلاقات مع الدول الخليجية.
وبدأ رافسنجاني عهده بإبعاد رجال حزب الله الكويتي، الذين يكيلون العداء لنظام الصباح، عن إيران، وأغلق المركز الكويتي للإعلام الإسلامي في طهران، كما منع صدور مجلة النصر، المنبع الأول لتصدير الروح الثورية الشيعية إلى كل الطوائف التابعة لها في أرجاء العالم العربي، وفي القلب منها الكويت.
وجاءت الحرب العراقية الكويتية، والدور الكبير الذي لعبة الشيعة في مقاومة القوات العراقية، ليعيد المجتمع بأكمله تصوراته تجاه الشيعة بعد فترات حملت توترات، وفتحت السلطة مع كل القوى السياسية والاجتماعية علاقات جديدة، تحصد الكويت نتيجتها الآن، بالرغم من حدوث بعض المناوشات السياسية على فترات متباعدة.
الشيعة والبرلمان
جرت أول انتخابات برلمانية بالكويت في يناير عام 1963، وشارك فيها الشيعة تصويتا وترشيحا، وكان يوما مشهودا، حيث استطاع خمسة من مرشحيهم النجاح في الانتخابات، كما شاركوا في الفصل الثاني من انتخابات 1967، ووصل عدد ممثليهم إلى تسعة نواب، فيما كانت انتخابات 1981 بداية مختلفة لإسقاط الوجوه الشيعية الموالية للحكومة، وحّل محلها وجوه جديدة موالية للتيار الثوري.
وبعد انتهاء الحرب العراقية الكويتية، وعودة الاستقرار والأمن، ظهرت التجمعات السياسية للعلن، وعلى رأسها الائتلاف الإسلامي الوطني، وابتعدت عناصر حزب الله تدريجيا، ولم تسمح لهم السلطة بممارسة أي أعمال عدوانية، تهدف لنقل النموذج الإيراني إلى الكويت بالقوة.
وتكفل الدولة للشيعة حاليا الكثير من الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما ينعمون بحرية العقيدة، فلديهم المحاكم الخاصة بهم، بالإضافة إلى حرية كبيرة في نشر المطبوعات الخاصة بالمذهب الشيعي، وبناء المساجد والحسينيات، وتحويل أموال الخمس بسلاسة ويسر إلى المراجع الدينية في قم والنجف.
وفي المجال السياسي، أفسحت الكويت المجال للشيعة لتولي أعلى المناصب السياسية والعسكرية، بناء على الكفاءة وحدها دون موازين طائفية، كما أنهم ممثلون حاليا في كل المجالس النيابية والتشريعية، وأصبحوا سفراء ووزراء، لتصبح الكويت في صدارة الدول التي استطاعت تلجيم ملف التمييز بين مواطنيها، وكسر حاجز الخوف من الشيعة.
- التحدي الإيراني في الوطن العربي
- الحركة الإسلامية في الجزيرة العربية
- الحركة الشيعية في الكويت