الشيعة واختيار الأئمة: الشورى أم النص الإلهي؟
يُعرف الشيعة الإمامية الاثنا عشرية «الإمامة» بأنها «زعامة ورئاسة إلهية عامة على جميع الناس»، وذلك بحسب ما يذكر محمد بن علي بن بابويه القمي المعروف بـ«الشيخ الصدوق» في كتابه «الاعتقادات». ويستمد الإمام في الفكر والعقائد الشيعية الإمامية الاثنا عشرية مصدر سلطته من الله عز وجل مباشرة، وذلك لأنه يعتبر استمرارًا لخط النبوة والرسالة، فمصدر سلطته إلهي محض ولا دور للأمة في تلك السلطة.
ويؤكد المستشرق الفرنسي هنري كوربان على أن الشيعة الإمامية «تجاهر بالتأكيد بأن محمدًا كان خاتم النبيين وخاتم النبوة، بيد أن التاريخ الديني البشري لم يقفل… فالنقطة الختامية لدائرة النبوة تتطابق مع النقطة الأولية في دائرة الولاية»، وعلى ذلك فإن الإمام الشيعي كان «وريثًا روحيًا للنبوة».
ولما كان مفهوم الإمامة في العقل الشيعي الاثنا عشري يتصل بشكل وثيق بالتعيين الإلهي، فقد ظهرت عقيدة «الوصية» والنص التي تقول إن الله عز وجل قد اختار عددًا محددًا من الأئمة، وأنه قد سماهم بالاسم ونص عليهم بشكل واضح وصريح، وذلك بحسب ما يذكر محمد الحسين آل كاشف الغطاء في كتابه المهم «أصل الشيعة وأصولها».
وفي ذلك يقول محمد رضا المظفر، وهو واحد من كبار علماء الإمامية المعاصرين، في كتابه «عقائد الإمامية»:
ويعتقد الشيعة الإمامية أن الرسول قد نص في العديد من المواقف على إمامة علي بن أبي طالب وأحد عشر رجلاً من عقبه، وأنه قد أمر عموم المسلمين بذلك عند غدير خم عقب الانتهاء من مراسم حجة الوداع، حيث قال لهم الرسول وقتها: «من كنت مولاه، فهذا علي مولاه»، بحسب ما يذكر محمد بن يعقوب الكليني في كتابه «الكافي».
ورغم التشابه الظاهري ما بين مفهومي الإمام الشيعي والخليفة السني من حيث الطبيعة والوظيفة والمكانة، إلا أن النظرة المتفحصة المتعمقة للسلطات والقيود التي تحيط بالمفهومين سوف تكشف بوضوح عن البون الشاسع والاختلاف الكبير فيما بينهما.
بالنسبة للإمام الشيعي، فقد تمتع بصلاحيات وسلطات واسعة غير محدودة وغير مقيدة على أتباعه ومناصريه، فقد استمد الأئمة الشيعة سلطتهم المطلقة من كونهم «حججًا لله تعالى على خلقه بعد النبي» بحسب ما يذكر الصدوق في الاعتقادات، فكانت منزلتهم كمنزلة النبي نفسه، وكان لهم على أتباعهم حق التبعية المطلقة.
وقد تطلب ذلك أن يكون هؤلاء الأئمة متميزين بشكل ما عن بقية البشر، فظهر الاعتقاد بعصمتهم، وأن الله تعالى لما كان قد اختصهم بأن يكونوا حججًا له على العالمين، والواسطة بينه وبين العباد، فإنه قد عصمهم من الخطأ والزلل، كما أنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا، بحسب ما يذكر أمير محمد القزويني في كتابه «الشيعة في عقائدهم وأحكامهم».
ويصرح الصدوق في «الاعتقادات» باعتقاد الشيعة الإمامية بعصمة أئمتهم عندما يقول إن الأئمة الاثنا عشر «موصوفون بالكمال والتمام والعلم من أوائل أمورهم إلى أواخرها، لا يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل».
علم الأئمة
وقد أدت عقيدة عصمة الإمام في المذهب الاثنا عشري إلى استحداث أمرين مهمين:
الأول، أنه قد شاع الاعتقاد بين أهل المذهب الشيعي الإمامي، أن منصب الإمام يحتاج إلى تواصل مباشر ومستمر مع الله عز وجل، وذلك لتنفيذ مقاصده وتبليغ أحكامه وشرائعه، ونتيجة لذلك ظهر عدد من النظريات التي حاولت تفسير كيفية تحصيل الإمام لكل هذا العلم الموجود في صدره، فقيل إن الأئمة يتلقون علومهم من الله بغير واسطة، وقيل إن كل إمام يتلقى علوم الإمامة من الإمام الذي قبله. ولكن لما كان صغر سن بعض الأئمة عند توليهم منصب الإمامة يقدح نظريًا في ذلك الرأي، فقد ظهرت أقوال حاولت التوفيق بين الآراء السابقة.
من ذلك القول إن هناك طرقًا يتعلم بها الإمام مثل «الإلهام والنكت في القلب والنقر في الأذن والرؤيا في النوم»، وذلك حسبما يذهب الباحث الشيعي المعاصر عبد الله فياض في كتابه «عقائد الإمامية». وكان هذا الرأي الأخير بمثابة الحل الوسط، الذي يحاول أن يجعل من طريق علم الأئمة، ما هو دون مفهوم الوحي النبوي الخالص، وفي نفس الوقت ما هو يعلو عن التعلم البشري العادي القابل للصواب والخطأ.
أما الأمر الثاني المنبثق عن القول بعصمة الأئمة، فهو الاعتقاد بأن الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحة دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي، وبذلك أضحى كل إمام من أئمة الشيعة بمثابة حلقة جديدة مركزية في سلسلة الاتصال الإلهي بالأرض، كما أن الكتب الحديثة الشيعية صارت تمتلئ بأحاديث الأئمة أكثر بكثير من أحاديث الرسول نفسه.
كيف كانت بيعة علي؟
الجدل حول طريق تنصيب الأئمة، و ما إذا كان هذا الأمر يعتمد على النص الإلهي من جهة أم الشورى واختيار الأمة من جهة أخرى، كان حاضرًا في العقل الشيعي منذ أحداث مبايعة الخليفة علي بن أبي طالب بالخلافة.
فبعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان في أواخر ذي الحجة 35هـ، بقيت المدينة لبضعة أيام بدون حاكم أو خليفة، وكان الثوار هم المسيطرون على السلطة في ذلك الوقت، ثم اجتمع أمر أهل الأمصار على أن يبايعوا أحد كبار الصحابة بالخلافة، وكان الخيار ما بين واحد من الثلاثة؛ علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وطلحة بن عُبيد الله. وفي نهاية الأمر وبعد طول جدال ونقاش، تم اختيار علي بن أبي طالب ليشغل منصب الخلافة، فتمت بيعته في 25 من ذي الحجة في عام 35هـ.
ويُعتبر وصول علي بن أبي طالب لمنصب الخلافة حدثًا فارقًا ومهمًا في تاريخ المذهب الشيعي عمومًا والإمامي الاثنا عشري منه خصوصًا. فبوصول علي إلى كرسي الخلافة، تم التوحيد للمرة الأولى ما بين منصب الخلافة ومقام الإمامة، واستمرت تلك الوحدة حتى تنازل الحسن بن علي لمعاوية عن السلطة في عام 41هـ.
تُظهر كثير من الروايات التاريخية سواء كانت شيعية أم سنية، أن علي بن أبي طالب قد رفض فكرة توليه لمنصب الخلافة في بادئ الأمر، وأن عددًا من الثوار وأهل الأمصار قد ألحوا عليه حتى دفعوه دفعًا لتولي ذلك المنصب.
من تلك الروايات ما ذكره الشيخ المفيد، وهو من أبرز علماء الشيعة الإمامية، في كتاب «الإرشاد إلى معرفة حجج الله على العباد»، عن علي أنه قال:
ونلاحظ أن كثيرًا من النصوص والروايات التي تناولت مسألة بيعة علي بالخلافة، قد قدمت رؤية مخالفة للاتجاه الشيعي الإمامي التقليدي الذي يرى أن طريق الوصول للخلافة هو النص والتعيين الإلهي وليس الخيار والشورى ما بين المسلمين وبعضهم البعض، فعلي لا يذكر أحقيته بالخلافة بسبب الوصية التي أوصى بها الرسول في غدير خم أو غير ذلك من المواقف التي يستند إليها الإمامية في إثبات أحقية الخليفة الرابع بالخلافة، بل إن العديد من الروايات الشيعية يظهر منها اعتراف علي بن أبي طالب بحق المسلمين في اختيار وتنصيب إمامهم.
من تلك الروايات التي يظهر فيها ذلك بوضوح، ما ورد في أول خطبة لعلي بعد مبايعته، حيث جاء فيها:
وذلك بحسب ما يذكر المجلسي في «بحار الأنوار».
كما ورد في كتاب الأمالي لمحمد بن الحسن الطوسي قول علي: «…ثم أتيتموني غير داعٍ لكم ولا مستكره لأحد منكم، فبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر وعثمان…».
وفي أثناء المراسلات ما بين علي ومعاوية بن أبي سفيان بعد ذلك، احتج الأول على الثاني بأن حق انتخاب الخليفة هو من الحقوق الأصيلة التي اختُص بها البدريون دونًا عن غيرهم من المسلمين، فكان مما قاله له: «إنما هذا [يقصد أمر الخلافة] للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الأرض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي»، وذلك بحسب ما يذكر ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة».
ويتضح من مجموع الروايات والنصوص السابقة، أن عليًا بن أبي طالب كان يرى أن الإجراء والآلية التي انتُخب بها كانت متابعة ومتوائمة مع الطرق التي تم بها اختيار من سبقه من الخلفاء، ولذلك فهو يُسند شرعية حكمه إلى شرعية حكم من سبقه.
وربما كان طلب علي ممن جاءه لمبايعته في بيته، بأن يتم أمر المبايعة في المسجد النبوي أمام جموع المسلمين، شاهدًا قويًا على اعتقاد علي بأهمية موافقة عموم المسلمين على اختيار شخص الخليفة الجديد.
بين علي والشيعة
ولكن رغم كثرة الروايات التي تشهد على قوة ذلك الاتجاه الداعم لفكرة اعتقاد علي والشيعة الأوائل بأن الخلافة أمر بشري لا إلهي، فإننا في الوقت ذاته لا نعدم أن نجد مجموعة أخرى من الروايات التي تخالف ذلك الاتجاه وتعارضه، بل وتقدم رؤية مختلفة تمامًا عنه.
فمن أقدم الروايات التي تظهر مفهوم النص والوصاية على إمامة علي بن أبي طالب، ما أورده اليعقوبي في تاريخه، على لسان واحد من أهم أنصار وأعوان الخليفة الرابع، وأقصد به مالك بن الحارث المعروف بالأشتر، وذلك في معرض أحداث مبايعة علي بالخلافة، حيث يقول اليعقوبي:
هذا الخط الروائي الذي يؤكد على القول بالنص على إمامة علي بن أبي طالب وبنيه، سيزداد قوة وتمكينًا مع كل إمام، حتى سيصير في نهاية الأمر الخط الأقوى والأكثر تواترًا وانتشارًا بين عموم الشيعة الإمامية.