الشيعة والمعتزلة بين الاتفاق والاختلاف
الإمام المعتزلي أبو الحسين الخياط في لحظة اشتداده على الشيعة الإمامية!
تدور في بعض الدوائر العلمية أنّ الشيعة معتزلة، وأنّ المعتزلة في غالبيتهم متشيعة، حتى اعتبر بعضهم أن التشيع وريث الاعتزال، وربما يُبغى من وراء ذلك صهر التشيع بالعقلانية [1]. وهنا نسعى سويًا للتثبت من حقيقة العلاقة بين الجانبين، وهل يصحّ أن نطلق على الشيعة ورثة شرعيين للمعتزلة، أم أن البون شاسع بين الفريقين؟!.
الخلاف بين الشيعة والمعتزلة
إنه مما لا شكّ فيه أن ثمة فوارق عقدية بين الجانبين؛ فالمعتزلة في الأصل أهل تنزيه مطلق لله عز وجل، لكن الشيعة الأوائل كانوا أهل تجسيم، مثل هشام بن سالم الجواليقي، وهشام بن الحكم، وغيرهما [2]، على الرغم من خلط كثير من الباحثين بين عقائد الفرقتين [3]. والمعتزلة يرتكزون على العقل في الأصول والفروع، لكن الشيعة يعتمدون على الإمام المعصوم، فلا إعمال للعقل ولا اجتهادات خارجة عن قول المعصوم.
والإمام المعصوم في العقيدة الشيعية نائب عن الله، لا يقولُ إلا صدقًا، ويجب طاعته والإذعان له، لكن الإمام في الفقه المعتزلي بشر يُصيب ويخطئ، ويجب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ويجب الخروج عليه إذا انحرف عن جادة الصواب وحقيقة الدين. يُثبت الشيعةُ الشفاعةَ للأنبياء والأئمة المعصومين، في حين أن المعتزلة ينكرون الشفاعة من أساسها، حتى يتحقّق الوعد الإلهي للمؤمنين، والوعيد للكافرين؛ لأنّ هذا مما تقتضيه العدالةُ الإلهية.
وتزداد الفوارق بين الفريقين في أصول كثيرة كالنصّ على الإمام، والقول بالغيبة والرجعة، ونحو ذلك مما لا يمكن أن يقره المعتزلة أو يوافقوا عليه، خاصة أنها في معظمها مسائل لا تتحملها دلالات النصوص إلا بتأويلات متعسفة وتكلف ملحوظ، ولا ترتضيها عقول المعتزلة بما عُرف عنهم من تمرّد وديناميكية. لكن ربما كانت العلاقة بين المعتزلة والزيدية أقرب، وأهدأ، لانتفاء تلك المعوقات السابقة أو معظمها.
ونظرًا لهذه الاختلافات؛ فقد تبادل علماء الطائفتين -الإمامية والمعتزلة- الطعنَ والتجريح، وظلّوا على هذه الحال حتى أواخر القرن الثالث الهجري، وإننا نرى الأديب الجاحظ، أحد كبار أنصار الاعتزال، يصنفُ كتابه: «فضيلة المعتزلة»، ويردّ فيه على ابن الراوندي الشيعي، الذي ألف في المقابل كتابه: «فضيحة المعتزلة، ذلك الكتاب الذي ألفه للردّ على الجاحظ، الأمر الذي اضطر أبا الحسين الخياط المعتزلي لتأليف كتاب: «الانتصار والردّ على ابن الراوندي الملحد»، وكان الخياط علمًا من أعلام المعتزلة، وينتمي لمدرسة بغداد الاعتزالية المعروفة بأصالتها وقوة حجتها.
تكمن أهمية كتاب الانتصار في أنه بقلم إمام كبير من مشايخ المعتزلة، ومن يقرأه يدركُ استحالة التقاطع الشيعي المعتزلي. فالجاحظُ اتَّهم الشيعة بأنهم يقولون «إنّ الله صورة»، وأنكر الراونديّ أنهم يقولون ذلك، فردّ الخياط على ابن الراوندي بقوله: «إنك لتضرّ الرافضة بنفيك عنها قولاً هو عندها التوحيد الصحيح، ولهي أشد عليك في نفيك عنها القول بأن الله صورة من المعتزلة. وبعد فهل كان على الأرض رافضي وهو يقول: إن الله صورة، ويروي في ذلك الروايات، ويحتجُّ فيها بالأحاديث عن أئمتهم إلا من صحب المعتزلة منهم قديمًا فقال بالتوحيد، فنفته الرافضة عنها ولم تقر به»[4]. فالخياط يتهمهم بأنهم مشبِّهة مجسِّمة إلا من صحِبَ المعتزلة منهم، واتبع مقالتهم في التوحيد؛ الأمر الذي الذي جعل الإمامية ينقلبون عليه، ويستبعدونه من صفوفهم [5].
ويشتد الخُلْف بين الفريقين، ويحتدّ الخياط عليهم فيخرجهم من الملّة كلها حين يقول: «والأمّة كلها إلا أهل الإمامة تنكرُ القول بالرجعة، وتدفعها وتكفر قائلها، وتخرجه من ملة الإسلام، ولعلم الرافضة بخروجها من الإسلام عند الأمة في قولها بالرجعة تواصوا بكتمانها، وألا يذكروها في مجالسهم، ولا في كتبهم إلا فيما قد أسرُّوه من الكتب ولم يُظهروه»[6]. ثم رفضَ أقوالهم في الإمامة، واتهمهم بالغلو في أوصاف الإمام كغلوِّ النصارى في المسيح عليه السلام، وإذا كان الخيّاط ينتمي لمدرسة بغداد المعروفة بميولها الشيعية، وقربها من مراكز القوى الشيعية الإمامية والإسماعيلية على السواء، ثبتَ أن الالتقاء بين الفريقين في الأصول والفروع -نظريًا وعمليًا- ضرب من المستحيل!.
من الخلاف إلى التحالف!
لكن مع نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجري، خفتت حدة الخلاف بين الفريقين، ثم انعقد التحالف السياسي بينهم في أواخر القرن الرابع وبداية الخامس وذلك لأسباب كثيرة، يمكن إجمالها فيما يلي:
- استثمر الشيعة الإمامية الخلاف الحادّ بين أهل الحديث والظاهرية من جانب والمعتزلة من جانب آخر، عندما كفّر الفريقان بعضهم بعضًا، في وقت تعامل فيه المعتزلة وكأنّهم تحت راية المأمون، وأنهم في مأمن من أمرهم، لكن أهل الحديث نكّلوا بهم جماهيريًا فأفقدوهم قواعدهم الشعبية، ونخبويًا عن طريق السلطة والنفوذ السياسي، خاصة وأن المعتزلة تطرفوا في تأويل النصوص، وردّ الأخبار، ولم يُلجموا العوام عن علم الكلام كما رأى أهل الحديث دائمًا. وكأن المعتزلة الأوائل أدركوا ذلك فابتعدوا عن السلطان، وأسّسوا مذهبهم بسواعدهم لا بسواعد الدولة [7]؛ لأنّ الدولة عندما ولّت ظهرها للمعتزلة، واعتمدت على أهل الحديث، فقدَ المعتزلة نفوذهم في البلاط العباسيّ، والناس على دين ملوكهم، وصار الاعتزال سرًّا بعد أن كان جهرًا، ولذلك قلّ عدد المعتزلة واختفى رؤساؤها [8]. إن سقوط المعتزلة السياسي قد أدى إلى سقوطهم الفكري، حتى جاء أبو الحسن الأشعري فقضى على ما تبقى من نفوذهم، ومن هنا احتاج المعتزلة إلى نصير ومعضّد فتحالفوا سياسيًا مع أعدائهم الشيعة خاصة وأن البويهيين الذين نكلوا بعلماء السنة والأشاعرة، فصار المعتزلة والشيعة –في حَيَيْ الكرخ والحلة ببغداد- في جانب، وأهل السنة في بقية الأحياء في جانب آخر، ودارت المعارك الكلامية والسياسية بين الجانبين [9]!.
- كان أبو علي الجبائي -إمام المعتزلة- من أنصار التقارب الشيعي المعتزلي، ولقد قال: «قد وافقونا في التوحيد والعدل، وبقي خلافنا معهم في الإمامة، فاجتمعوا حتى تكونوا يدًا واحدة»[10]. ويبدو أنّ بذرة التقارب الشيعي المعتزلي هذه، كانت الشعار الذي بدأ كلّ فريق يتغاضى من خلاله عن الخلاف العقدي والفقهي مع الفريق الآخر، من أجل الوحدة السياسية، حيث يتمكن المعتزلة من استعادة نفوذهم، ويطمع الشيعةُ في بقاء دولة بني بويه المتحالفة معهم عقديًا وسياسيًا. على أنه كان لا يزال تقاربًا فرديًا ومحاولات لرأب الصدع بين الجانبين اضطُر الفريقان فيها لمواجهة أهل السنّة. لكن التقارب الحقيقي والتحالف الشامل بدأ في أواخر القرن الرابع الهجري على يد ابن المعلِّم -الشيخ المفيد- والشريف المرتضى وغيرهما.
فالحقيقة أنّ التقارب المعتزلي الشيعي كان تقاربًا سياسيًا في الأساس، ارتبط بمصالح سياسية، واحتياج كلّ فريق إلى الآخر لتقوية جبهته في مواجهة السنّة وأهل الحديث؛ بدليل أنّ الجبائي نفسه الذي دعى إلى التقارب المعتزلي الشيعي أكد على ذلك قائلاً: «قال شيخنا أبو علي رحمه الله: إنّ أكثر من نصرَ هذا المذهب -القول بالإمامة- كان قصدُه الطعن في الدين والإسلام فتسلّق بذلك إلى القدح فيهما؛ لأنه لو قدح فيهما بإظهار كفره إذن يقل الإقبال منه، فجعل هذه الطريقة سُلّمًا إلى مراده»[11].
فهنا يعود الجبائي المعتزلي فيكفر جمهور الإمامية، ويتهمهم بسوء النية والإفساد في الدين؛ مما يؤكد أن التحالف بين الفريقين كان سياسيًا براجماتيًا بالدرجة الأولى، وقد تم التغاضي عن تلك الخلافات وعدم تأجيجها في مرحلة حرجة يمر بها الفريقان. والتحالفات السياسية على حساب الخلافات العقدية كانت موجودة وبكثرة في التاريخ السياسي للأمّة، بل وفي عصرنا تمّ التحالف بين إيران –الاثني عشرية- والعلويين، وقد كان بينهما من التكفير المتبادل ما هو معروف، وكذلك بين الإمامية وبين الزيدية –الحوثيين- في اليمن، وبين تنظيم القاعدة السلفي وإيران في فترة الغزو الأمريكي لأفغانستان [12]، فكلّ تلك التحالفات هي تحالفات سياسية تمتد عقودًا ثم تنتهي وتبدأ مرحلة الخلاف المذهبي مرة أخرى. وقد انعقدت قديمًا تحالفات بين البويهيين والشيعة الإمامية في الحلة والكرخ ببغداد، وبين الإسماعيلية الفاطمية وبين الإمامية كذلك في العراق، وبين الفاطمية والإمامية في حلب، وبين السنّة والفاطميين الإسماعيلية في بعض مراحل الحروب الصليبية [13]. فهذه جميعها تحالفات سياسية على حساب الخلاف المذهبي، الذي يختفي تحت السطح لصالح المصالح السياسية للأنظمة الحاكمة أو لرؤوس الفرق والتيارات.
خلاصة لابد منها
إنّ التقارب المعتزلي الشيعي كان تقاربًا سياسيًا في الأساس، ارتبط بمصالح سياسية، واحتياج كلّ فريق إلى الآخر لتقوية جبهته في مواجهة السنّة وأهل الحديث.
والخلاصة: أنه لا يمكننا القول إن الشيعة –قديمًا وحديثًا- يمثلون تيارًا اعتزاليًا أو أنهم الأحقّ بالميراث المعتزلي، بكل ما يعنيه هذا التوصيف، ذلك أنهم يرتكزون على أصول فكرية ومعارفية مغايرة تمامًا لتلك التي ارتكز عليها المعتزلة يومًا ما، وقد خالفوهم في الأصول والفروع. فالمعتزلة ليست لديهم أسقف أو حوائط صدّ تجاه المسألة المعارفية، والاجتهادية، في حين أنّ الشيعة لديهم تحفظات وحدود لا يمكن تجاوزها، بسبب نظرية الإمام المعصوم، فقوله لا يُردّ ولا يُجتهد في إطاره، شأنه شأن القرآن، وبهذا اتسعت دائرة القطعيات لدى الشيعة الإمامية، بخلاف المعتزلة.
علاوة على الانغلاقية الاجتهادية وانسداد الأفق الاستنباطي لدى الشيعة الإمامية فينحصرون في مذهب واحد «المذهب الجعفري» بسبب قولهم بعصمة الأئمة كما قلنا، فما كان لهم أن يخرجوا عن قول إمام من أئمتهم إلى قول إمام من أئمة السنة أو المعتزلة مثلا؛ لأن إمامهم معصوم في نظرهم وفقيه الآخر ليس بمعصوم، وقد أدى هذا الشرط القطعي إلى غلق باب الاجتهاد الفقهي في نفس الأمر، ولو زعموا غير ذلك، فأين تلك الاجتهادات التي خالف فيها آيات الشيعة اليوم أئمتهم السابقين؟!، وأين تلك الاجتهادات المبنية على أصول مخالفة لأصول السابقين؟!، فقولهم في المسح على الخفين، أو زواج المتعة (لاحظ أننا ضربنا أمثلة فقهية فقط لا عقدية) لم يتغير منذ بادئ أمرهم وحتى اليوم، في حين أنّ فقهاء المعتزلة وأئمتهم اندرجوا تحت المذاهب الفقهية المشتهرة الراسخة، كالمدرسة الحنفية والشافعية والمالكية، وترسّخت أياديهم في مدرسة الأحناف التي اتسمت بالمرونة الفقهية، ومواكبة التغيرات البيئية والمجتمعية، حتى سُموا بأهل الرأي؛ أي أنهم يتعاملون مع النصوص بطريقة مقاصدية وغاياتية، لا بحرْفية وظاهرية، كما يفعل الشيعة والظاهرية. ولم يتقيّد المعتزلة بالمذهب الفقهي، بل اجتهدوا في إطاره، وتوسّعوا في رحابه يمينًا ويسارًا، اجتهادًا وتأصيلاً، ومخالفة لأصول المذهب وفروعه في أحايين كثيرة، وذلك لا ينفي عنهم صفتهم المذهبية؛ لأن المذهب بشريّ قابل للاجتهاد والأخذ والردّ، ومخالفة الأخبار الواردة أحيانًا بزعم ظنيتها الدلالية أو الثبوتية، أو مخالفتها للثوابت العقلية، أو مخالفتها للثابت عن الفقهاء وعمل أهل المدينة والميراث الفقهي المتوارث، ونحو ذلك من آليات الاستنباط عن القوم. أما مخالفة بند واحد من بنود الشيعة الإمامية كفيل لديهم بخروج الفقيه من المذهب بالكلية، واتهامه بأنه لا ينتمي لهم؛ لأنّ المذهب له إطارات وحدود، وموانع تعيقُ الانطلاق الفكري، والسياحة العقلية، والاجتهاد في فهم النص.
والحاصل: أن الأُسس بين الفريقين متباينة، وأنه لا يوجد نقاط تلاقٍ، أو خطوط تقاطع في أصول أو فروع. والزعم بأن الشيعة اليوم هم الورثة الشرعيون للعقل المعتزلي، هو قول يعوزه الشواهد التاريخية والاجتهادات الفقهية والعقدية. وأخيرًا فإن الأمر لا يحسم بمقال، فلو أنصف باحثٌ أكاديمي وأفرد هذا الموضوع بالتصنيف والدراسة لكان خيرًا كثيرًا؛ لأنه سيفتح آفاقًا معرفية وتاريخية في حاجة ماسة لها.
[1] – مقدمة حيدر حب الله، لكتاب التشيع والتحول في العصر الصفوي، كولن ترنر، منشورات الجمل لبنان.
[2] – انظر الملل والنحل 1/ 184.
[3] – راجع: مقال العقيدة الأرثوذكسية لمذهب الشيعة والمعتزلة، نهرو عبد الصبور، الحوار المتمدن عدد 1747.
[4] – الانتصار 105.
[5] – راجع: التاريخ السياسي والفكري للمذهب السني في المشرق الإسلامي، د. عبد المجيد بدوي، ط/ دار الوفاء المنصورة1988م.
[6] – الانتصار ص96.
[7] – نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، علي سامي النشار، 397.
[8] – ضحى الإسلام 3/ 197م.
[9] – راجع: التاريخ السياسي والفكري، عبد المجيد بدوي، 83.
[10] – السابق، ص84.
[11] – المغني للقاضي عبد الجبار ج20 ق1 ص36 نقلاً عن التاريخ السياسي والفكري، ص85 مرجع سابق.
[12] – راجع: رجال القاعدة في إيران، هاني نسيرة، ط/ بيروت. وانظر: علاقة إيران بالتنظيمات الإرهابية، دراسة في سيكولوجية العنف الإيرانية، محمد السيد الصياد، مقال بتاريخ 29 مايو 2016م.
[13] – راجع: أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعي، محمد بن المختار الشنقيطي، ط/ الشبكة العربية للأبحاث والنشر.