في 17 مايو/أيار 2005، كانت بغداد على موعد مع زيارة وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي في زيارة هي الأولى من نوعها بعد الحرب الضروس بين البلدين. تعتبر تلك الزيارة الإعلان الأول، بحسب الأكاديمي الأمريكي من أصل إيراني ولي نصر، عن صعود إيران كقوة إقليمية في المنطقة، بعد ما صرّح خرازي في مؤتمر صحفي بأن أمريكا هي من سيرحل عن العراق، أمّا إيران فهي الباقية باعتبارها الجارة الأبدية.

منذ ذلك الوقت، صار التشابك والتعقيد هما السمة الأساسية للمشهد السياسي المعاصر في العراق بعد بروز لاعبين جدد على الساحة، كثير منهم عائد لتوّه من طهران، بعد سنوات من النفي. مع ذلك، لا يمكن القول بأن إيران وحدها الحاضن الأوحد لحركات الإسلام السياسي الشيعي، فللعراق تاريخه القديم مع الأحزاب الإسلامية الشيعية، التي ولدت بالتزامن مع الهزّات العنيفة التي تعرّضت لها المنطقة، خلال فترة الاحتلال البريطاني، ثمّ حركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والتي كان للعراقيين منها نصيب بعد انقلاب 14 يوليو/تموز 1958 الذي تبعه اتساع القاعدة الجماهيرية للحزب الشيوعي العراقي ووصوله إلى النجف الأشرف.

 بُعيد هذه القلاقل، تأسّس حزب الدعوة الإسلامية في العراق كرد فعل على المد الشيوعي مستلهمًا تجربة الإخوان المسلمين في مصر. ومن حزب الدعوة، انبثقت العديد من القوى الإسلامية الشيعية التي عانت فترات انحسار بسبب القمع البعثي الذي طالها، لكنّ أيادي الثورة الإيرانية ستتلقفها لاحقًا، ليتمخض عن هذا التلاقي عشرات من الحركات، منها المسلحة ومنها غير المسلحة، نقلت الصحوة الإسلامية في نسختها الشيعية إلى خارج إيران.

نصف قرن من «الدعوة» الإسلامية

تأسس حزب الدعوة الإسلامية بعد قيام حركة 1958، كحركة ثقافية اجتماعية تهدف إلى سد الفضاء العام، وتقديم بديل أمام جموع الشيعة المتأثرين بالمد الشيوعي الذي أحدثه توغل الحزب في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، لكن الحركة الإسلامية الوليدة سرعان ما ستتحول إلى منظمة وحزب سياسي يملك برنامجًا وقاعدة شعبية لا تتألف من رجال الدين العراقي فحسب، بل امتد تأثيره إلى الوقت الراهن، فقدم رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري (2005/ 2006)، ورئيس الوزراء ونائب رئيس الجمهورية الأسبق نوري المالكي، أمين عام حزب الدعوة الإسلامي، وأخيرًا حيدر العبّادي الذي تولى رئاسة الوزراء عام 2014.

خلال الثمانينيات، قامت مجموعات من حزب الدعوة الإسلامي بعمليات مسلحة، استهلتها في ديسمبر/كانون الأول 1981 بهجوم ضد السفارة العراقية في بيروت أودى بحياة 27 شخصًا. وفي السنة التالية، حاولت الجماعة اغتيال صدّام حسين، وكررت المحاولة في أبريل/نيسان 1987 في مدينة الموصل. في التسعينيات، ترأس نوري المالكي مكتب الحزب في دمشق، وكان نشطًا في تأسيس منظمة شيعية إسلامية جديدة في لبنان (حزب الله). في نفس الوقت، كان الحزب على موعد مع انشقاقات جديدة مزّقت صفه بسبب الخلافات الفكرية مع طهران حول عدّة أمور أبرزها ولاية الفقيه.

«المجلس الأعلى»: من الثورة إلى الانتخابات

تحت تأثير الثورة الإسلامية في إيران، وتحديدًا في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1982، تأسس المجلس الذي لم يكن حزبًا سياسيًا بحسب بيان تأسيسه، بل كان تجمعًا وائتلافًا ضمّ القوى الإسلامية المعارضة لصدام حسين وحزبًا كُرديًا، إضافة لتيار من علماء الدين الشيعة. ظل المجلس الذي حمل السلاح ضد نظام صدّام حسين واحتضنته طهران بعد ما استتبّ الحكم للنظام الإيراني عام 1982، حاملاً شعار الثورة ورفع السلاح،حتى مايو/آيار 2007، حين قرّر حذف كلمة «الثورة» إشارة إلى أنها قد تحققت بسقوط صدّام حسين.

لا ينبغي النظر لهذا التغير باعتباره علامة على التحول الأيديولوجي، بقدر ما هو شهادة على البراجماتية السياسية. في نفس الوقت، ينظر إلى هذا التغيّر كمحاولة لإبعاد التنظيم عن إيران ظاهريًا، وفرصة للتأكيد على جذوره الأصلية، بغض النظر عن أنّ تأسيس المجلس نفسه، تمّ بمساعدة روح الله الخميني، ثم تمكنّ من اجتذاب الأحزاب الكردية. تبنى هذا التيار نظرية ولاية الفقيه على خلاف حزب الدعوة الذي بقي متحفظًا في موقفه منها.

تأسس المجلس بقيادة محمد باقر الحكيم الذي قاد فيلق بدر، الجناح المسلح للمعارضة الشيعية الذي تأسس بفتوى من محمد باقر الصدر وقاتل إلى جانب القوات الإيرانية في حربها ضد العراق، ليصدر صدّام حسين أوامر بتصفية كوادره المكونة من متطوعين وعناصر منشقة من الجيش النظامي في العراق.

قرّر المجلس الأعلى منذ اليوم الأول بعد الغزو الأمريكي التعاون مع الولايات المتحدة، حيث سنحت الفرصة أخيرًا للتنظيم أن يشغل مقعدًا في مجلس الحكم المؤقت قبل أن يخوض انتخابات مجلس النواب عبر قائمة الائتلاف العراقي الموحد التي ضمت كافة القوى الشيعية الرئيسية آنذاك في الانتخابات عام 2005، وحصلت على 140 مقعدًا من أصل 275. اكتسح المجلس رئاسة البلديات، وسيطرت كوادره على الوزارات المهمة (الداخلية، المالية، الاقتصاد، النفط). كما تم دمج عناصر مسلحي بدر في الأمن العام الذي سيمثل لب السيطرة السياسية على مفاصل الدولة من قبل المجلس الأعلى الإسلامي في العراق.

الشعبوية الصدرية و«الفضيلة»

تأسس حزب الفضيلة الإسلامية عام 2003، واستطاع اكتساح انتخابات محافظة البصرة والفوز بحكمها المحلي، إلى جانب 15 مقعدًا في البرلمان ضمن قائمة الائتلاف العراقي الموحد. على الرغم من معارضته الشرسة للتدخل الإيراني التي انتهت بتعليق عضويته في الائتلاف، ينظر إلى حزب الفضيلة الإسلامية كذراع سياسية للتيار الصدري الذي انتشرت شعبيته في المناطق الأكثر فقرًا بين أتباع المرجع الراحل محمد صادق الصدر. مثّل الحزب ما يشبه الذراع السياسية للتيار الصدري الذي سيؤسس زعيمه مقتدى الصدر لاحقًا ميليشيات المهدي (جيش المهدي) بدعوى المشاركة في مقاومة الغزو الأمريكي.

نُظر إلى جيش المهدي باعتباره المسئول عن مجموعة من الاغتيالات السياسية خلال عام 2007 طالت عددًا من كوادر المجلس الأعلى الإسلامي، ما اضطر الصدر للإعلان عن حل جيش المهدي لإعادة هيكلته وذلك بعد ما كشفت صحف أمريكية عن ممارسات «المهدي» بحق المواطنين أنفسهم، حيث حاول فرض الشريعة الإسلامية بالقوة على غرار طالبان.

على الرغم من الشعبية الجارفة التي يتمتع بها التيار الصدري في العراق، فإنه لم يظهر إلا بعد الغزو الأمريكي، باستثناء حضورهم مؤتمر المعارضة العراقية في لندن عام 2002. ما بين التيار الصدري والمجلس الإسلامي، نشب أول صراع بين القوى الشيعية، الموالية لإيران بقيادة عبد العزيز الحكيم، والمنبثقة من مؤتمر لندن ممثلة في التيار الصدري، وذلك للسيطرة على مدينة كربلاء التي كانت خاضعة لجماعة الحكيم منذ عام 2005.

الحشد الشعبي: الابن غير الشرعي لداعش

عزّز اغتيال أبو مهدي المهندس برفقة نظيره الإيراني قاسم سليماني الصراعات داخل صفوف قادة ميليشيات الحشد الشعبي التي تأسست عام 2014 بعد سقوط الموصل في يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وصدور فتوى الجهاد الكفائي من النجف الأشرف من قبل آية الله العظمى علي السيستاني. تمّ إقرار قانون هيئة الحشد بعد تصويت أغلبية الأعضاء في البرلمان العراقي أواخر عام 2016، وبذلك تمّ إضفاء الطابع المؤسسي على التنظيم الميليشياوي المؤلف من 67 فصيلًا يمثلون أغلب القوى الشيعية في العراق.

انتسب المهندس إلى حزب الدعوة الإسلامي من سن مبكرة، وكان أحد المنشقين منه ليلتحق بالمجلس الأعلى الإسلامي المشكل سياسيًا بهندسة إيرانية، وتولى قيادة منظمة بدر، ثم تخلى عنها قبيل سقوط النظام العراقي ولعب دورًا في تكوين الائتلاف الشيعي العراقي، وأخيرًا تولى منصب نائب قائد الحشد الشعبي.

قاد المهندس فيلق بدر الذي يتمتع بأكبر ثقل سياسي بين فيالق الحشد الأخرى. ورغم أن الحشد تشكّل في البداية كمنظمة خاضعة للرقابة الحكومية، فإن ميليشيات موجودة مسبقًا متحالفة مع إيران مثل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء وفيلق بدر سيطرت عليه عمليًا. هذه الجهات الفاعلة تشكل رأس الحربة في الحشد، وترفع تقاريرها، التي يفترض أن تقدّم إلى الإدارة العراقية، إلى هادي العامري رئيس فيلق بدر ونائبه المهندس.

يتكوّن الحشد الشعبي من قوات غير متجانسة في تكوينها الفصائلي، لكن القيادة تركّزت في فيلق البدر المدعوم بشكل مباشر من قبل الحرس الثوري الإيراني، إلى جانب كتائب حزب الله.

كانت الضربة الأمريكية على المهندس وسليماني بمثابة تفكيك للثقل الذي مثله الرجل في استحواذه وسيطرته على القوى الأخرى المنضوية تحت لواء الحشد الشعبي؛ ثقل يصعب تعويضه، ويجعل فيلق بدر مستهدفًا من قبل أعدائه، لا سيمّا التيار الصدري الممثل في ثلاثة لواءات باسم سرايا السلام، خصوصًا بعد أن بلغ قوام قوات الحشد عام 2020 أكثر من 135 ألفًا.