خلاف داخل المذهب: النقد الشيعي لنظرية ولاية الفقيه
تُعدّ ولاية الفقيه نوعاً من أنواع الاجتهاد الديني السياسي الشيعي المعاصر، والذي جرى تطبيقه -عملياً- في دولة إيران عقب نجاح الثورة الإسلامية في الإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي سنة 1979م. آية الله روح الله الموسوي الخميني كان أول مرجع ديني يتولى منصب ولاية الفقيه في إيران وذلك حتى وفاته في عام 1989م، ليخلفه بعدها آية الله علي خامنئي الذي لا يزال حتى وقتنا هذا هو المرشد الأعلى للثورة وصاحب السلطة الأعلى في البلاد. ولاية الفقيه تعرضت للكثير من الانتقادات في الأوساط الشيعية العلمية، وذلك في كل من إيران والعراق ولبنان، الأمر الذي ألقى بظلاله على الساحة السياسية في العالم المعاصر.
ولاية الفقيه: بين النظرية والتطبيق
في كتابه «ولاية الفقيه وتطورها»، يعرف الباحث خالد بن عبد المحسن التويجري ولاية الفقيه بأنها «قيام الفقيه الجامع لشروط الفتوى والقضاء مقام الحاكم الشرعي، وولي الأمر، والإمام المنتظر في زمان غيبته: من إجراء السياسات، وسائر ما له من أمور، عدا الأمر بالجهاد الابتدائي، وهو فتح بلاد الكفر بالسلاح، مع خلاف في سعة الولاية وضيقها».
في الحقيقة، لا يمكن فهم نظرية ولاية الفقيه على الوجه الأمثل، إلا بعد تناول مراحل التطور التاريخي الذي لحق بمفهوم السلطة في العقل الشيعي الجمعي على مر القرون. بحسب ما تتفق عليه الأغلبية الغالبة من المصادر الشيعية، فإن الشيعة الإمامية قد اعتقدوا بدخول الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن العسكري، في الغيبة الكبرى في عام 329هـ، وساد الاعتقاد بأن الإمام الغائب سوف يظهر مرة أخرى في آخر الزمان عندما يصل الظلم والجور لمنتهاه.
بحسب ما اتفق عليه فقهاء الشيعة القدامى، فإنه يحرم إنشاء أي كيان سياسي شيعي في زمن الغيبة، كما يجب الانقياد للسلطة الغاصبة القائمة، وذلك بناء على ما نُسب للإمام جعفر الصادق المتوفى 148هـ: «كل راية تُرفع قبل راية القائم، فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله». هذا الاعتقاد ظل مهيمناً على العقلية الشيعية الجمعية، للدرجة التي منعت الشيعة من إقامة صلاة الجمعة وتحريم أدائها وقت غيبة الإمام، واستمر ذلك التحريم حتى القرنين السابع والثامن الهجريين حيث ظهرت بعض الآراء التي جوزت أن يقوم الفقهاء بإمامة المصلين في صلاة الجمعة باعتبارهم نواباً للإمام الغائب.
من الممكن أن نعتبر أن ذلك التغير كان بمثابة المقدمة الممهدة لظهور نظرية ولاية الفقيه، فمع تأسيس الدولة الصفوية في مطلع القرن السادس عشر الميلادي، واتجاه ملوكها لنشر المذهب الشيعي الإمامي في عموم إيران وبلاد فارس، حاول بعض الملوك الصفويين أن يقووا نفوذهم ويوطدوا حكمهم بإشراك بعض الفقهاء والعلماء معهم في الحكم، ومن ذلك ما قام به طهماسب، العاهل الثاني للدولة الصفوية عندما استدعى الفقيه اللبناني علي بن الحسين الكركي العاملي المعروف باسم المحقق الثاني، وأشركه معه في الحكم وأصدر منشوراً بذلك، وبهذا بدأ الكركي في تطبيق النيابة العامة عن الإمام المنتظر.
بعد الكركي، وجدت نظرية ولاية الفقيه حضوراً ظاهراً في كتابات عدد من العلماء الشيعة، ولعل أهمهم هو أحمد بن محمد مهدي بن أبي ذر النراقي الكاشاني، والذي تناول مسألة ولاية الفقيه تحت عنوان مستقل للمرة الأولى، الأمر الذي شجع من تبعه من العلماء للاهتمام بتلك المسألة وأن يفرد لها مساحات واسعة في كتبه ومصنفاته، وهكذا شغلت مسألة ولاية الفقيه مكانةً كبيرة في معظم الكتابات والمجادلات والمناقشات الفكرية والفقهية الشيعية.
الاهتمام الأكبر بنظرية ولاية الفقيه في العصر الحديث ظهر من خلال مؤلفات وأفكار رجل الدين الإيراني آية الله الخميني، والذي شرح رأيه في تلك النظرية في كتابه الشهير المعنون بـ«الحكومة الإسلامية». في هذا الكتاب، وضع الخميني شروطاً عامة يجب أن تتوافر في الحاكم في الدولة الإسلامية مثل (العقل- البلوغ- حسن التدبير)، كما حدد مجموعة من الشروط الخاصة، مثل (العلم بالقانون الإسلامي والعدالة)، ولما كان الخميني يرى أن هذين الشرطين متحققان في معظم فقهاء الشيعة الإمامية في عصره، فإنه خلص في نهاية كتابه إلى أنه «إذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل، فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا، ويملك هذا الحاكم من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين عليه السلام على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة».
من هنا، تم التأسيس الفكري لنظرية الولي الفقيه في العصر الحديث، ولم يمر الكثير من الوقت، حتى تمكن الخميني من تطبيقها بشكل عملي واقعي في إيران، وذلك عقب نجاح الثورة الإيرانية في عام 1979م.
منتظري، وشريعتي، والشيرازي: معارضة النظرية داخل إيران
تم تأييد نظرية ولاية الفقيه من جانب عدد من العلماء والمراجع الشيعة الكبار قُبيل الثورة الإسلامية الإيرانية وفي بدايتها الأولى، وكان من أهم العلماء والمراجع الذين أعلنوا اتفاقهم مع أفكار الخميني، آية الله حسين علي منتظري، الذي صرح في كتابه المهم الموسوم بـ«دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية»، بضرورة مشاركة رجال الدين في العمل السياسي، فقال:
على أن ذلك التوافق المبدئي ما بين أفكار منتظري من جهة وأطروحة الخميني حول ما يتعلق بولاية الفقيه من جهة أخرى، سرعان ما انهار بعد وصول الخميني إلى السلطة وعمله على السيطرة على الدولة الإيرانية بشكل كامل، فرغم أن منتظري قد تم اختياره ليكون خليفة للخميني وليشغل منصب نائب المرشد الأعلى للثورة، إلا أنه أعلن اعتراضه على الشكل الديكتاتوري -السلطوي الذي يمارس به الخميني ولايته الفقهية للدولة، فتمت إقالته من منصبه وفرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله وتم إبعاده عن المشهد السياسي في إيران، حتى حانت لحظة وفاته في 2009م.
منتظري، لم يكن الشخصية الدينية الوحيدة التي أبدت اعتراضها على الشكل الذي مورست به ولاية الفقيه عقب الثورة، ففي داخل إيران أيضاً، أعلن آية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداري عن رفضه وتحفظه على سياسات الخميني وممارسته للسلطة بشكل منفرد، وذلك رغم أن شريعتمداري كان من ضمن العلماء الذين تكاتفوا لإنقاذ الخميني من السجن والإعدام علي يد الشاه المخلوع قبل الثورة. انتقاد شريعتمداري للخميني، كان سبباً في اتهام الأول بتدبير مؤامرة لقلب نظام الحكم في الدولة، فتم إبعاده عن المشهد السياسي والفكري وتم التفريق بينه وبين أنصاره وفرضت الإقامة الجبرية عليه، حتى توفي في 1986م.
أما ثالث الشخصيات الدينية التي عارضت نظام الولي الفقيه من داخل إيران، فهو المرجع الديني محمد الحسيني الشيرازي المتوفى 2001م، والذي عُرف بتحالفه مع الخميني في مرحلة الثورة، قُبيل أن يُفسخ هذا التحالف، ليعلن الشيرازي عن رفضه لشكل الحكم الاستبدادي الذي يمارسه الخميني. في كتابه «كيف نجمع شمل المسلمين»، وضح الشيرازي وجهة نظره الداعية لإشراك جميع الفقهاء المعتبرين في الحكم، دون استئثار أحدهم بتلك المهمة، فقال:
في سياق آخر، انتقد الشيرازي دكتاتورية الولي الفقيه، وأكد على أهمية الشورى في انتخاب الحكومة، وأن الاحتكام إلى الأغلبية يتسق مع روح الشريعة الإسلامية، فيقول في كتابه «السبيل إلى إنهاض المسلمين»:
من الخوئي إلى فضل الله: معارضة الولي الفقيه في العراق ولبنان
من المعروف أن الكثير من الشخصيات الشيعية البارزة خارج إيران، قد استنكرت تطبيق نظرية ولاية الفقيه واعتبرت أن فيها خروجاً عن الخط السياسي الشيعي التقليدي، وذلك بسبب افتئاتها على سلطة الإمام المهدي الغائب، ولعل السبب الرئيس الذي حدا بتلك الشخصيات للتمسك بهذا الموقف، يتمثل في أنها قد أيقنت أن تطبيق تلك النظرية والموافقة عليها، من شأنه أن يمثل خطورة كبيرة على نفوذها المحلي، كما أنه سيؤدي إلى انضواء الطوائف الشيعية بشكل كامل تحت راية مرجعية طهران التي تلبس ثوب (الولي الفقيه).
في العراق، ظهرت مجموعة من الأسماء المهمة التي رفضت نظرية ولاية الفقيه، سواء قُبيل وصول الخميني للحكم، أو بعد نجاح الثورة. من أول تلك الأسماء، المرجع الكبير مرتضى الأنصاري المتوفى 1865م، والذي انتقد ما ذكره النراقي عن تلك النظرية في كتابه «المكاسب»، فكان مما قاله في معرض نقده لها: «…ولكن الإنصاف، بعد ملاحظة سياقها، أو صدرها أو ذيلها، يقتضي الجزم بأنها في مقام بيان وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية، لا كونهم كالأنبياء أو الأئمة في كونهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم…».
رجل الدين محمد باقر الصدر المتوفى 1980م، والذي تم إعدامه على يد نظام صدام حسين في العراق، اعترض أيضاً على الولاية المطلقة للفقيه، ليخرج بنظريته المعروفة باسم «خلافة الأمة وإشراف المرجعية»، والتي يلخصها الباحث اللبناني الدكتور هيثم مزاحم في كتابه «تطور المرجعية الشيعية: من الغيبة إلى ولاية الفقيه»، بأنه عندما يكون المجتمع تحت سيطرة الطاغوت، ولا تستطيع الأمة أن تقوم بدور الخلافة، يقوم المراجع الصالحون بدور الخلافة إلى جانب دور الشهادة، وذلك أن الأمة صاحبة الحق عاجزة عن الاستفادة منه، ويتصدى المرجع الصالح لإحقاق ذلك الحق الإلهي، ويهيئ المقدمات لكي تمارس الأمة مهمة الخلافة، مهمة المرجع -الولي الفقيه- إذن تتركز بحسب رأي الصدر في كونه «يربي الأمة لتمارس دورها الإلهي في الخلافة، وعندما تقوم الأمة، تحت قيادة المرجع الصالح، بإسقاط سلطة الطاغوت، تنتقل الخلافة العامة الإلهية إلى الأئمة نفسها».
أما أبو القاسم الخوئي المتوفى 1992م، فقد أعلن عن تحفظه على تلك النظرية في كتابه المعنون بـ «الاجتهاد والتقليد»، إذ شكك في دلالة بعض الروايات والأحاديث التي بنى عليها الخميني أطروحته، فقال: «إن الأخبار المُستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند أو الدلالة… نعم يُستفاد من الأخبار المُعتبرة أن للفقيه ولاية في موردين وهما الفتوى والقضاء. وأما ولايته في سائر الموارد فلم يدلنا عليها رواية تامة الدلالة والسند».
في السياق نفسه، كان المرجع العراقي المعاصر محمد سعيد الحكيم المتوفى 2021م -وهو حفيد المرجع الأعلى محسن الحكيم زعيم حوزة النجف الأشرف في زمنه- من ضمن المراجع الذين تعرضوا لنقد تلك النظرية بنوع من التفصيل، وذلك في كتابه المشهور «مصباح المنهاج»، والذي خلص في نهايته للحكم بأنه «لا مجال لإثبات الولاية للفقيه بالمعنى المذكور. ولا سيما مع عدم مناسبة هذا الأمر الخطير لغير المعصومين عليهم السلام، حيث يؤمن الخطأ في حقهم، فلا يكون تسليطهم سبباً لضياع النفوس والأعراض والأموال…».
هذا الرفض ظل الطابع المميز للحوزات العلمية العراقية في كل من النجف وكربلاء، ومما يعبر بوضوح عن هذا الرفض، رأي المرجع الشيعي السيد علي السيستاني، والذي يقلده عشرات الملايين من الشيعة حول العالم، فوفقاً لما ورد في كتاب «الفوائد الفقهية طبقاً لفتاوى السيد السيستاني»، فإن «الولاية فيما يعبّر عنها في كلمات الفقهاء بالأُمور الحسبية تثبت لكل فقيه جامع لشروط التقليد، وأمّا الولاية فيما هو أوسع منها من الأُمور العامة التي يتوقّف عليها نظام المجتمع الإسلامي؛ فلمن تثبت له من الفقهاء، ولظروف إعمالها شروط إضافية، ومنها أن يكون للفقيه مقبولية عامة لدى المؤمنين»، وهكذا فإن ولاية الفقيه بحسب السيستاني تكون -بالمقام الأول- مربوطة بتأييد الجمهور، ولا يمكن أن تسري أحكامها بشكل استبدادي مُطلق كما هو الحال في النظام الإيراني.
من ناحية أخرى، فإن نظرية ولاية الفقيه قد تعرضت للكثير من الانتقاد من جانب رجال الدين الشيعة اللبنانيين، ومن بينهم محمد جواد مغنية المتوفى 1979م، الذي صرح في كتابه «الخميني والدولة الإسلامية»، بأنه قد اطلع على نظرية الخميني في ولاية الفقيه، وأنه لا يعيب عليها إلا نقطتين فحسب، أولهما «أنّ الإمام الخميني يعطي كافة صلاحيات النبي والإمام المعصوم إلى الفقيه، ولكني لا أثبت إلاّ بعض الصلاحيات الحكومية للفقيه…»، وبحسب مغنية، فإن رئيس الدولة الإسلامية يتم انتخابه بواسطة الشعب، طالما كان هذا الانتخاب لا يعارض الشريعة الإسلامية.
الشيخ اللبناني محمد مهدي شمس الدين المتوفى 2001م، والذي شغل منصب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، كان أيضاً من ضمن من انتقد نظام الولي الفقيه في كتابه «نظام الحكم والإدارة في الإسلام»، إذ صرح بأن هذه النظرية من شأنها أن تنتج دولة استبدادية ثيوقراطية تستمد شرعيتها من الله لا من الأمة، وأن هذه الدولة تقوم –بالأساس- على أكتاف الفقهاء الذين يمثلون سلطة كهنوتية لا يعترف بها الإسلام. شمس الدين أكد على أنه وفي ظل غياب الإمام المعصوم، فإنه يشرع لكل شعب من الأمة الإسلامية أن يقيم لنفسه نظامه الإسلامي الخاص.
أما ثالث الشخصيات الشيعية اللبنانية الشهيرة التي انتقدت نظام الخميني، فهو المرجع المشهور محمد حسين فضل الله المتوفى 2010م، والذي صرح في الكثير من المناسبات «بأنه لا يؤمن بولاية الفقيه العامة والمطلقة لكنّه يرى ولاية الفقيه محدودة في الأمور الحسبيّة التي قد تتوسّع لتشمل الشؤون العامّة إذا اقتضى ذلك حفظ النظام العام». فضل الله عُرف بانتقاده المتكرر لحزب الله اللبناني الموالي للولي الفقيه في إيران، رغم أنه -أي فضل الله- كان واحداً من أهم المراجع الدينيين الذين أسهموا في تأسيس وتشكيل الحزب في بداياته الأولى.