أهلًا بك، لدينا قصة جديدة اليوم نأمل أن تنال إعجابك، هي من النوع الذي تفضله دائمًا. يشاركك في ذلك أغلب مشجعي كرة القدم. يحب الجميع رحلة ليستر سيتي ومعجزته، وتابع الجميع اليونان وهي تفوز بيورو 2004 وهم يشعرون بسعادة غامرة.

هذه لحظات من العدالة المحببة، الفقير الذي يخرج من أوساطنا ليهين الأغنياء. نحن نحب المستضعفين لأنهم يشبهوننا، يخبرنا فوزهم بأننا قادرون وبإمكاننا النجاح مهما بدت الفرص صعبة، صراع داوود وجالوت الذي بدأ منذ القدم ونفضل دائمًا أن نكون في صف داوود.

وما يضفي للقصة المزيد من الإثارة هذه المرة، أن بطل القصة فاز على ريال مدريد نفسه، ريال مدريد الذي كان قبل أشهر ممثلاً في رئيسه فلورنتينو بيريز على رأس السوبر ليج، المشروع الذي أراد إقصاء الفرق الأقل وحصر الصراع بين الفرق الكبرى فقط، وبعد أشهر شاهد بيريز بعينيه خسارة فريقه على يد واحد من هؤلاء الذين أراد إبعادهم.

و«داوود» هنا كان يدعى نادي «شريف»، فريق يشارك للمرة الأولى في البطولة، وهو قادم من مولدوفا، أفقر دول أوروبا على الإطلاق.

هذا يغري بقصة ملحمية، تبدأ من غياهب الفقر ورحلة الصراع حتى أُطلقت صافرة النهاية تعلن فوزه في البيرنابيو. حسنًا، لا تصدق تلك الفرضية؛ لأنها غير سليمة، ثم دعنا نبدأ.

مطرقة ومنجل

تبدأ القصة قبل صافرة النهاية بـ 31 عامًا تقريبًا. تفكك الاتحاد السوفييتي وأعلنت الكثير من الدول استقلالها، ومن بينهم كانت مولدوفا التي قررت تشكيل حكومة مستقلة.

على الشريط الحدودي بين مولدوفا وأوكرانيا تقع ترانسنيستريا، بمساحة لا تزيد عن 4000 كم مربع، لكنها قررت في ذلك الوقت أنها تنتمي للاتحاد السوفييتي فقط، ولن تنضم لمولدوفا ولا لأية دولة أخرى.

طوال عامين وحتى نهاية 1992، دارت حرب دموية بين مولدوفا والانفصاليين في ترانسنيستريا، ولم تسفر الحرب عن فائز، فاضطر الجميع إلى قبول وقف إطلاق النار، وتجميد الصراع، وهو ما استمر حتى الآن إلا من بعض المناوشات من حين لآخر.

تعتبر ترانسنيستريا نفسها دولة كاملة، لها رئيس وبرلمان وجيش وعملة محلية، لكنها لم تلقَ أي اعتراف دولي حتى الآن، وما زالت تعامل كجزء من الجمهورية المولدوفية.

أول ما يلفت نظر الجميع في ترانسنيستريا أنها مدينة من الماضي، تماثيل «لينين» ما زالت تزين المدينة، والمطرقة والمنجل شعار الشيوعية المشهور يحتلان مكانهما في وسط العلم، والمباني تأخذ الطابع السوفييتي العتيق.

بانفصالها عن مولدوفا، وعدم خضوعها للقانون الدولي، وبحكم موقعها قريبًا من موانئ البحر الأسود، تحولت ترانسنيستريا إلى موطن لعمليات التهريب والتجارة غير المشروعة، وفي السنوات التي أعقبت الانفصال مر الكثير من السلاح والمخدرات والكحول من هناك، وصنع الكثيرون أموالًا طائلةً من عمليات التهريب، وكان على رأسهم السيد فيكتور جوشان.

بين الأشياء

السيد جوشان كان يعمل لدى المخابرات السوفييتية قبل الانفصال، وعمل في التهريب منذ اليوم الأول، ومرت على يديه الكثير من الصفقات المشبوهة.

في 1993، أسس رفقة زميله «إيليا كازمالي» شركة «شريف»، والتي بدأت ظاهريًا كمنظمة خيرية لدعم قدامى المحاربين، لكن خلف هذا المسمى نشطت الشركة في أنشطة التهريب بشكل مكثف حتى سيطرت على أغلب العمليات، ومر كل شيء من هناك تحت سيطرتهم.

تمكنت «شريف» من تجميع موارد ضخمة من المواد المهربة، وصنع إمبراطورية اقتصادية بهذه الطريقة، لقد احتكروا كل شيء.
أوكتافيان تيكو، وزير الرياضة المولدوفي السابق.

في دولة يعيش أغلب سكانها في فقر مدقع، وتعاني مبانيها وشوارعها من التردي والانهيار، ازداد نفوذ «شريف» تدريجيًا باحتكارها لكل السلع، وزادت قدراتها المادية لدرجة جعلت مبيعاتها السنوية ضعف ميزانية الدولة بأكملها.

ومع الوقت باتت النجمة الصفراء المميزة لشعار الشركة موجودة في كل مكان، بدءًا من سلسلة المتاجر الكبرى، والبنوك، وشركات الاتصالات، ووسائل الإعلام.

وحتى السياسة: وطد جوشان علاقته مع الرئيس الحاكم منذ اليوم الأول، وأسس حزبًا سياسيًا يفوز حاليًا بأغلبية ساحقة في البرلمان، وبذلك فإن «شريف» أحكمت قبضتها على المدينة وصارت هي الحاكم الوحيد هناك.

ثعبان وفئران

قرر جوشان في 1996 أن يمتلك ناديًا لكرة القدم كواجهة لشركته القوية آنذاك، وبالفعل، تأسس النادي وسُمي «شريف تيراسبول» نسبة إلى مدينته، ما هي «تيراسبول»؟ وأين تقع؟ «تيراسبول» هي عاصمة «ترانسنيستريا» وأكبر مدنها. نعلم أنك تتخطى الاسم في كل مرة، لكن لا بأس، دعنا نكمل.

انضم «شريف تيراسبول» إلى الدوري المولدوفي، وسيطر على كرة القدم هناك بشكل مثير للسخرية، فازوا بـ 19 من آخر 21 لقبًا محليًا، وفازوا في 32 من 36 مباراة بالدوري في الموسم الماضي، وسجلوا 6 انتصارات بنتيجة 6-0، ومرتين بنتيجة 7-0، ومثلهم 10-0.

هناك فارق هائل بين أندية الدوري المولدوفي ونادي شريف، إنهم يستطيعون شراء أي شيء، يمكنهم شراء رونالدو وميسي إذا أرادوا ذلك.
إيفان تيستيميتانو، لاعب خط وسط شريف والمنتخب المولدوفي السابق.

طبقًا لروبرت أوكونور، مؤلف كتاب «الدماء والمدرج: رحلة كرة القدم عبر جمهوريات أوروبا المتمردة»، فإن الفارق المادي بين شريف وباقي الفرق كان شاسعًا، وفي الوقت الذي امتلك فيه إستادًا رياضيًا فاخرًا يحتوي ملاعب وصالات رياضية وفندق للإقامة، تكلف نحو 200 مليون دولار، فإن باقي الفرق لم تكن تمتلك ملعبًا من الأصل، وتتدرب على أراضٍ مملوكة للبلدية في مولدوفا.

طبقًا لنيك ميلر محرر «ذا أثليتك»، فإن الخطة الأولية للنادي كانت تقليد نموذج شاختار دونيتسك في أوكرانيا المجاورة، من خلال استقدام لاعبين من أمريكا الجنوبية وأفريقيا ومنحهم فرصة للتطور وعرض أنفسهم، ومن ثم الانتقال إلى فرق أكبر في روسيا أو دوريات أوروبية أكبر.

لم تنجح هذه الخطة بشكل كبير، لأن ضعف الدوري المولدوفي لم يمنح اللاعبين الاحتكاك الكافي لتطوير الأداء، كما لم يتمكنوا من عرض أنفسهم أمام الجميع، كما يفعل شاختار في كل عام حين يواجه كبار أوروبا، لذا كانت المشاركة الأوروبية هدفًا للجميع منذ اليوم الأول.

إلى بيرنابيو

رحلة الفريق مع التأهل للمنافسات الأوروبية بدأت مبكرًا، وظهرت أولى البوادر، حين وصل إلى مرحلة المجموعات في الدوري الأوروبي 4 مرات بين عامي 2009 و 2017، لعبوا خلالها مع عدد من الفرق المشهورة، أبرزهم كان توتنهام في موسم 2013/2014، لكن منذ 2017 بدا وكأن الفريق لا يسير في نمط تصاعدي.

في عام 2018، تعرضوا للهزيمة في الأدوار الأولى على يد ناديين من مقدونيا وأيسلندا، في 2019 أُُقصي على يد فريق من جورجيا، وفي الموسم الماضي هُزم أمام كاراباج الأذربيجاني في تصفيات دوري الأبطال، ثم أخرجهم دوندالك الأيرلندي في تصفيات الدوري الأوروبي.

هذه السنوات جعلت الأمر يبدو وكأن المشروع في طريقه للفشل وأن آمال جوشان في الظهور أمام كبار أوروبا لن تتحقق أبدًا، قبل أن يتغير الأمر هذا العام.

رحلة التصفيات لم تكن سهلة، فاز على بطل أرمينيا وصربيا، وواجه دينامو زغرب صاحب التاريخ العريق في البطولة في مباراة حاسمة، لكنه فاجأ الجميع حين فاز عليه بـ 3 أهداف نظيفة، أمنت صعوده لدوري أبطال أوروبا للمرة الأولى.

https://twitter.com/theftblunion/status/1442963888257990657?s=20

قد يكون هذا تطورًا طبيعيًا للفريق مع الوقت، ودرسًا مستفادًا عن الصبر على المدرب والفريق حتى يتحقق النجاح، لكن لا يبدو أن شيئًا من هذا حدث، وأن يد «جوشان» أو أمواله بالأحرى تدخلت هذه المرة أيضًا.

كان المتبع من قبل أن الفريق لا بد أن يمتلك 4 لاعبين من مولدوفا على الأقل داخل الملعب، لكن قبل عام عدّل الاتحاد المولدوفي القانون وأزال هذا الشرط، وهو ما سمح لـ «شريف» باستبدال الفريق بالكامل واستقدام عدد كبير من المحترفين أغلبهم لاعبون دوليون.

تكلف استقدام هؤلاء اللاعبين الكثير بالفعل، لكن لا يوجد أي رقم متاح لنخبرك به، هذه تعد أسرارًا في جمهورية «شريف»، وهذه نصيحة لك أيضًا، إذا ذهبت إلى «تيراسبول» يومًا فلا تسأل هذه الأسئلة أبدًا لأنها قد توردك المهالك: لماذا يوجد تمثال لينين حتى الآن؟ وماهية تعاملات شريف المالية؟ وسبب إعجاب الجميع هناك ببوتين؟ هذه أسئلة محظورة، لا تجربها.

بهذا القرار لم يعد «شريف» يمتلك سوى 6 لاعبين مولدوفيين في صفوفه، حارسين بديلين، ولاعبين من الأكاديمية لا يشاركان إلا نادرًا، والتشكيلة التي شارك بها أمام ريال مدريد لم تحتوِ أي لاعب من مولدوفا على الإطلاق.

طبقًا لروي سميث محرر نيويورك تايمز، فإن هذا القرار كان له أثر إيجابي هائل على فريق «شريف»، في حين لم تستفد باقي الأندية منه على الإطلاق، لأنهم بالكاد يقدرون على الدفع للاعبين المحليين، وفي الوقت الذي يدفع فيه «شريف» رواتب نحو 15000 دولار شهريًا فإن باقي الأندية لا تدفع أكثر من بضع مئات.

هل تذكر الفقرة التي طلبنا منك ألا تصدقها؟ هذا هو السبب الأول، «شريف» لا يمكن أن يكون ممثلًا عن الكرة المولدوفية، هو لا يعتبر نفسه كذلك، ولا يعتبره المولدفيون ممثلًا عنهم.

والسبب الثاني أنه لا قصة نجاح في الأمر ولا تخطيط جيد، الأمر يتعلق بالمال المشبوه أولًا وعلاقات جوشان وتحكمه بكل شيء ثانيًا.

على كلٍ، امتلك «شريف» فريقًا مميزًا بالفعل ودعمه مجددًا استعدادًا لدوري الأبطال، وقد أوقعته القرعة رفقة ريال مدريد وإنتر ميلان وشاختار دونيستك، وهو ما يعد حظًا سعيدًا للكل هناك، ستكون المرة الأولى التي يذهب فيها فريق أوروبي كبير مثل ريال مدريد إلى تيراسبول، وسيكون ذلك احتفالًا بلا شك تمناه «جوشان» كثيرًا.

لكن الفريق فاجأ الجميع وقدم مستويات رائعة ولم يكتفِ بالمشاركة، كلل ذلك بانتصاره في قلب «سانتياجو بيرنابيو»، وهو ما لفت إليه أنظار الجميع وجعل الكل يتساءل عن هذا الفريق المجتهد الذي هزم ريال مدريد، وانتظر الجميع قصة ملحمية عن الفقر والتخطيط الجيد كما انتظرتها أنت معنا، لكن «شريف» خيب ظن الجميع ولم يكن معادل «داوود» أبدًا، بل كان أقرب إلى «جالوت» من أي نادٍ آخر.