إن سقطت شيرين سقطنا كلنا: «حمَلة النعش» يكشفون أسرار الصمود
«وتهون الأرض إلا موضعًا»، تجسد بيت الشعر الذي كتبه الشاعر أحمد شوقي، لينطبق على ما شهده يوم الجمعة 13 مايو 2022، وتمثلت الأرض التي لم تهن، في تابوت خشبي، ضم جثمان الصحفية شيرين أبو عاقلة، التي استشهدت برصاصة اخترقت رأسها، بمدخل مخيم جنين، وفي جنازتها المهيبة، التي امتدت من جنين إلى القدس مرورًا برام الله، كان المقدسيون يُسطرون ملحمة أخرى في سجل نضالهم، يمكن تلخصيها تحت اسم «بطولة حملة النعش».
في ساحة المستشفى الفرنساوي بالقدس، وقف المشيعون في انتظار خروج جثمان شيرين التي استشهدت يوم 11 مايو 2022- من ثلاجة المستشفى، وإيصالها إلى الكنيسة بمنطقة باب الخليل، ثم دفنها في مقبرة جبل صهيون، تأزم الموقف بسبب محاولة فرض الاحتلال إرادته بتسلم الجثمان وأن يشرف هو على خط سير الجنازة، وعدم رفع أعلام فلسطين. موتٌ جديد أراد الاحتلال فرضه، وقاومه المشيعون، وتوثّق الشاشات مشهدًا صادمًا، بتعرض الجنازة والتابوت للاستهداف المباشر من قبل الاحتلال، لكنها وثقت أيضًا استبسال حملة النعش، والذين تحدث بعضهم إلى «إضاءات»، ليسردوا ما حدث، ويصفوا لحظة هي الأصعب على أنفسهم.
رغم الهجوم المباغت، لم يسقط الجثمان، لكنه تحرك رأسا لثوان وكأن شيرين أرادت الوقوف مع أهلها في القدس لمرة أخيرة في وجه الاحتلال، وقبل أن يلامس النعش الأرض، استطاع الأسير المحرر «رجائي» ورفاقه، الإمساك به في اللحظات الأخيرة «كنا متفقين ممنوع نرخي النعش وإيش ما صار ما لازم ياخدوه»، كما يقول.
الأول: 20 عامًا في الأسر
رجائي حداد هو أسير مقدسي محرر من سجون الاحتلال، قضى 20 عامًا في سجون الاحتلال «من 1998 – 2018»، أُسر وهو ابن 19 عامًا، وخرج عندما أكمل 39 عامًا، وكعادة «أبو عاقلة» في الاهتمام بمصير الأسرى، بدأت معرفته بها عقب تحرره «تقابلنا عند باب العامود.. وتحولت القعدة إلى ودية.. هي قريبة من القلب ولديها عاطفة وانتماء»، يصف حداد كيف أن لقاءه بشيرين تحول إلى «دردشة ودية»، حرصت هي خلالها على معرفة أدق التفاصيل حتى حياة الأسرى داخل السجون.
تلقى «حداد» نبأ استشهاد شيرين بصدمة «كان فاجعة.. ولما عرفنا الخبر نزلت على رام الله وضلينا مع الموكب حتى القدس»، لكن حداد قرر استباق الجنازة، ووصل مبكرًا إلى المستشفى الفرنساوي بالشيخ جراح.
حمّل حداد الاحتلال مسؤولية توتر الوضع «كانت ثكنة عسكرية من قبل قوات الاحتلال.. كانوا مدججين بالسلاح والخيول ووتروا الوضع»، وعلى الرغم من السماح بوقوف السيارات أمام المستشفى فإن سلطات الاحتلال غرّمت أصحاب السيارات التابعة للجنازة ومن بينهم حداد، 500 شيكل.
استعد المشاركون داخل ساحة المستشفى، لصلاة الجمعة، أعقبتها صلاة الغائب على جميع الشهداء، والدعوات لشيرين، حتى هذه اللحظة كانت الأمور هادئة رغم توتر الاحتلال من ألوان العلم الفلسطيني، «دخلت على ثلاجة وطلعناها وكان معنا شقيقها طوني أبو عاقلة وزوجته وبنت عمتها وابن عمتها ومدير المستشفى»، كما يوضح حداد.
فور ظهور نعش شيرين، أراد الجمع أن يُشارك بحمل التابوت على الأكتاف حتى الكنيسة ثم إلى المقبرة التي أوضح أنها تبعد قرابة الكيلو عن المستشفى «منع الاحتلال خروج النعش وأعطى الجنازة وقتًا زمنيًا مدته عشر دقائق.. إما وضع النعش في سيارة وتسليمه للاحتلال أو اقتحام المستشفى»، وهو ما قوبل برفض المشيعين.
«حملنا النعش على الأكتاف وطلعنا بالورود والملبّس كما يليق بأي شهيد»، وعند الوصول إلى بوابة المستشفى كان الجنود متأهبين للهجوم على الجنازة بالهراوات، يقول حداد «أنا أكلت ضرب مأكلتوش بحبستي طول 20 سنة.. وأطلقوا القنابل والمطاط وحتى السباب لاستفزازنا».
الثاني: مقدسي ثائر
داخل نفس الكادر ولكن من زاوية أخرى، ظهر شاب يرتدي ملابس رمادية، ظل ممسكًا رأسه من الخلف بيد، والنعش باليد الأخرى، يتلقى الضربات متتالية على كامل جسده، دفاعًا عن شيرين التي لا يعرفها شخصيًا، هكذا فعل «عمرو أبو خضير»، الشاب المقدسي الذي شارك في جنازة أبو عاقلة حبًا في كل ما هو فلسطيني ومقدسي.
يقول أبو خضير لـ«إضاءات»، «في لحظة حمل النعش ومع وصولنا لمدخل المستشفى الرئيسي بدأت قوات الاحتلال بمحاولات منعنا من الخروج من الباب وإرجاعنا للخلف والضرب على المناطق السفلية من الأرجل»، تراجع المشيعون قليلا للوراء، لكن الإصرار على مصاحبة النعش ظلت متوهجة، يقول أبو خضير: «رفعوا قمعهم وضربهم وعنفهم وهمجيتهم لأعلى الدرجات ما راعوا أي نوع من أنواع الإنسانية».
عن اللحظات التي تعرض فيها النعش للهجوم قال: «ظل في مخي إنه النعش ما يوقع ولا حتى يلامس الأرض ونحافظ على كرامتها وتوصل لمثواها الأخير وهي على مزفوفة على الأكتاف»، واصفًا كيف شدوا من أزر بعضهم «كنا نقول ما حدا يضعف.. ما توقعوا النعش.. كان هدفنا كرامة الشهيدة ولو بروحنا».
أوضح أبو خضير، أن المشيعين حاولوا الحفاظ على انضباط الجنازة، حسب رغبة أسرتها بعدم إشعال أي احتكاك مع الجنود، لكنه يضيف «لم نرد على استفزازاتهم.. لكن الضرب كان زي ما بنقولها بالعامية على أبو جَنب.. وقام الاحتلال بالقمع والترهيب ومحاولات التفريق ليثبت بأن لهم السيطرة وإثبات الوجود»، لكنه يحمد الله على أن الكلمة ظلت لأصحاب الأرض.
الثالث: حميتُ عن الجثمان مع ابني
تحلق بعض الشباب حول النعش، وتكوّم البعض الآخر أسفله، يحمونه من نكزات هروات الاحتلال، من بينهم فادي مطور أحد النشطاء المقدسيين، الذي دائمًا ما حرص على المشاركة في الفعاليات المقدسية، ما عرضه للاعتقال أكثر من مرة، يصف علاقة المقدسي بشيرين أبو عاقلة قائلًا «كلنا تربينا ووعينا على صوتها.. بنشوفها في الميدان وعملت معنا مقابلات ودخلت كل بيوتنا ومناسباتنا وكنا نقلدها ونحنا صغار».
كان مطور أحد الذين شاركوا في حمل الجثمان داخل المستشفى الفرنسي «وقفت على الثلاجة وقلت لهم ممكن يقتحموا المستشفى لأن معندهمش خطوط حمراء».
واجه مطور، تعدي جنود الاحتلال على النعش بغضب عارم و«صياح مقهور» كما يقول: «حسيت بالظلم والوحشية والبشاعة.. وشعرت بأن سقوط النعش هو سقوطنا كلنا وسقوط للقدس»، وسريعًا تمكن الشباب من الإمساك بالنعش جيدًا من جديد، في مواجهة ما وصفه مطور بـ«الغل» الذي انتاب الجنود.
تعرض مطور للضرب بالهراوات، وتعرض نجله لإصابة في الرأس «الكل انضرب.. والجنود اقتحموا قسم الطوارئ.. كان يوم صعب وعظيم في نفس الوقت».
نفس اليقين بأن سقوط النعش هو سقوط للجميع، تمكن من الشاب المقدسي ياسر درويش، الذي شارك في حمل النعش، يقول: «كنا على يقين بقيام الاحتلال بالاعتداء على الجنازة وعلى النعش ولكن حبنا لشيرين والقضية أعطانا الإصرار على حملها على الأكتاف وتعرية الاحتلال أمام العالم».
وعن لحظات الهجوم على النعش، أكد «درويش» أن الضرب كان يستهدف رؤوسهم: «كان الضرب فوق رؤوسنا.. عندما هاجم الاحتلال النعش كنا نفكر كيف ألا يسقط من أيدينا حتى لو قاموا بضربنا.. وتحدينا الاحتلال ورفعنا النعش وحمينا الجثمان من السقوط».
الرابع: اعتُقل 45 مرة
نور شلبي، ابن البلدة القديمة في القدس، تعرض للاعتقال أكثر 45 مرة، ليس لشيء سوى لأنه شاب مقدسي ناشط في محيطه، يؤكد أن جنازة شيرين أبو عاقلة كانت عفوية تمامًا و«هبّة شعبية»، «كلنا بنعرف شيرين لأنها كانت ابنة الميدان وكانت تُجري المقابلات معنا بشكل مستمر وتتابع أمورنا حين نُعتقل أو نُصاب».
خبر شلبي سلوك جنود الاحتلاد جيدًا، يصف كيف يقمع الاحتلال كل ما هو عربي في القدس، يقول « الاحتلال لا يريد أي شيء عربي .. دائمًا ما يعملون على إنزال العلم الفلسطيني حتى إن كلفه ذلك إسقاط نعش شيرين على الأرض أمام أعين العالم».
توقع شلبي لأي تصرف من الاحتلال، كان دافعًا للاستماتة في الدفاع عن نعش شيرين، وعن اللحظات التي كاد فيها النعش يسقط، قال: «كلنا كنا خايفين على شيرين.. وفي شباب ألقوا بأنفسهم أمام الجنود حتى يتصدوا لهم كي لا يستمروا في مهاجمة النعش».
يؤكد شلبي أنه لا أحد من الشباب كان يحمل أي آلة حادة أو عصا، فقط أعلام فلسطين كانت سببًا كافيًا بالنسبة لجنود الاحتلال، لاستباحة الجنازة، «الشباب تصدوا لقنابل الصوت والمطاط والطلقات المعدنية.. أنا كنت تحت التابوت في لحظة الهجوم عليه وكنت مستعد أضحي بنفسي بس النعش ما يندبّ»، كما تعرض شلبي، في موضع آخر من الجنازة لإطلاق طلقات مطاطية أدت إلى إصابته في قدمه اليمنى، بحسب ما أوضح.
توقف الضرب وسط ذهول ومرارة وتحدي سيطرت على المشيعين، دقائق سمحت للمصابين بتضميد جراحهم داخل المستشفى، حتى أتى الاحتلال بسيارة المستشفى وأجبر المشيعين على إدخال التابوت فيها، يقول رجائي حداد: «تبقى نحو 7 من شبابنا داخل السيارة ووصلوها للمقبرة»، وسريعًا ضمد حداد جراحه، التي بدأ يشعر بآلامها في اليوم التالي للجنازة، وأكمل الطريق سيرًا على الأقدام، حتى أوصل شيرين إلى محطتها الأخيرة.
في الطريق من المستشفى الفرنساوي، وحتى الكنيسة ثم مقبرة جبل صهيون، ومن داخل السيارة، شهدت الجنازة نضالًا آخر لحراس النعش، هتف الشباب داخل السيارة «من القدس لجنين .. إحنا زفينا شيرين»، رافعين العلم الفلسطيني داخل السيارة، وهو الأمر الذي كان كافيًا لدى الاحتلال، للتعدي السيارة والاعتداء على الشباب داخلها.
محمد العزة كان أحد الذين رافقوا نعش شيرين أبو عاقلة داخل السيارة، يصف كيف أقدم الجنود على الاعتداء عليهم على باب المستشفى وحتى في الطريق إلى المقبرة «نزلوا بعض الشبان واعتدوا عليهم بالضرب، وكان فيه تهديدًا طول الطريق للسائق وهددونا عندما شاهدوا الأعلام».
وكما تمسك المشيعون بالجثمان داخل ساحة المستشفى الفرنسي، ظل الشباب ملتصقًا بالنعش داخل السيارة «تمسكنا بألا يكون الجثمان تحت تصرفهم سواء بالتسليم أو التشييع»، وتمكنوا من إيصال الجثمان إلى الكنيسة ثم المقبرة.
في الطريق، يؤكد العزة أن الجنود أطلقوا الغاز على السيارة، وحاولوا إيقافها أكثر من مرة «لم ننصع لأوامر الجنود بإيقاف السيارة قبل الكنيسة وتسليمهم الجثمان وما خلينا السائق يوقف لأنه كان واحد منا».
عاش العزة لحظات التعدي على النعش وحامليه داخل المستشفى أيضًا «كنا نتبادل الأدوار بشكل عفوي.. من يصاب يأتي آخر مكانة وهذه عادة أبناء القدس لا يسقط الجثمان و لا تسقط الراية»، مؤكدًا صحة التخوف الذي انتاب الشباب من محاولة الاحتلال السيطرة على الجثمان «الاحتلال يريد أن يُحسّن من مظهره أمام العالم بعد الجريمة برغبته في إيصال الجثمان إلى الكنيسة»، كما راودهم تخوف من أخذ الجثمان وتشريحه لإصدار بيانات مزورة بشأن استشهادها.
يصف العزة الدقائق التي قطعها الجثمان داخل السيارة من المستشفى حتى باب الخليل «كانو يضربو زجاج السيارة للترهيب وكنا رافعين العلم الفلسطيني داخل السيارة نكاية فيهم وحتى عند وصلونا إلى باب الخليل في البلدة القديمة قام الاحتلال بكسر الزجاج الخلفي للسيارة المتواجد بها الجثمان».
اعتبر الشباب المقدسي، مسألة إيصال الجثمان بأنفسهم مع استمرار رفع الأعلام، معركة لا يمكن أن يخسروها، يقول العزة «التشييع وحماية الجثمان ورفع الأعلام الفلسطينية كان تحديًا مقدسيًا ضد الاحتلال الغاشم، وفعلاً انتصر المقدسيون على الاحتلال وفرضنا معادلتنا كأصحاب الأرض».