كلمة حق عند سلطان جائر: شيوخ خاضوا المعارك في سبيل الدعوة
عرف التاريخ الإسلامي ظهور العديد من العلماء والفقهاء الذين ارتبطوا بالسياسة وأمور الحكم، من خلال نصائحهم المهمة التي لم يترددوا في إسدائها للخلفاء والسلاطين المعاصرين لهم.
البعض من هؤلاء الفقهاء اختار أن يعمق من علاقته بالسلطة، فأطلق لسانه وشهر سيفه طمعاً في حكم أو نصرةً لمعتقد، وهو الأمر الذي يتبدى بشكل واضح في بعض النماذج التي تنتمي للمذاهب السنية والشيعية والصوفية.
عبد الله بن ياسين: مؤسس الدعوة المرابطية
ظهرت دولة المرابطين في أواسط القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، واستطاعت أن تفرض نفوذها على مساحات شاسعة في بلاد المغرب والأندلس.
إذا ما عدنا للمصادر التاريخية التي تذكر كيفية قيام تلك الدولة لوجدنا أن هناك إجماعاً على أن الفضل في ذلك يعود إلى أحد الفقهاء المالكيين، وهو عبد الله بن ياسين الجزولي.
بحسب ما يذكر ابن عذاري المراكشي في كتابه «البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب»، فإن عبد الله بن ياسين قد سافر إلى قبيلتي لمتونة وجدالة، وهما من القبائل البربرية التي كانت تسكن بلاد المغرب، وبدأ في شرح الأحكام الدينية والشرعية لسكان تلك النواحي عندما لمس جهلهم بها وابتعادهم عن فهم الدين الصحيح.
العمل الدعوي الذي قام به ابن ياسين أثار غضب العديد من أبناء القبيلتين، فقاموا بطرده مع مجموعة من أتباعه، فرحل عندها الفقيه المطرود إلى منطقة معزولة عند مصب نهر السنغال.
ومع زيادة شهرة ابن ياسين وسط القبائل تدفق إليه عدد كبير من الرجال، وبدأ المعسكر الدعوي البسيط يتحول شيئاً فشيئاً إلى كيان سياسي منظم، عندها قام الفقيه بخطوة في غاية الأهمية، وذلك عندما أطلق على جماعته الناشئة اسم المرابطين، وكذلك عندما اختار «يحيى بن إبراهيم الجدالي» ليصير قائداً سياسياً للجماعة.
الخطوة التي قام بها ابن ياسين وزعت النفوذ والسلطة في الجماعة بينه وبين الجدالي، ليحتفظ الأول بشؤون الدعوة والعبادات وما يتفرع عنهما من شرح للقرآن والأحاديث النبوية وللمسائل الفقهية، بينما يتفرغ الثاني لشؤون التعبئة العسكرية والحرب والجهاد.
بعد وفاة الجدالي قام الفقيه المالكي بتعيين بديلاً له، وهو «يحيى بن عمر اللمتوني»، ومن الملاحظ أن اختيار ابن ياسين في تلك المرحلة كان مبنياً على إدراك ووعي بظروف المرحلة الدقيقة التي تمر بها الجماعة، ذلك أن المرابطين في هذا الوقت كانوا قد تحولوا لقوة عسكرية تستعد لغزو بلاد المغرب، وكان اختيار قائد عسكري من قبيلة لمتونة يساعد في استقطاب رجال تلك القبيلة المعروفة بكثرة العدد وقوة الشكيمة.
ظلت السلطة موزعة بين الرجلين، حتى وفاة يحيى بن عمر اللمتوني، عندما قام ابن ياسين بتنصيب أخيه «أبو بكر بن عمر» بدلاً منه في منصب أمير الحرب، واستمرت العلاقة بين الرجلين على أحسن حال، واشترك الرجلان بعضهما مع بعض في شن العديد من الحملات العسكرية على القبائل المخالفة.
في سنة 451هـ/ 1059م توجه ابن ياسين لقتال قبائل برغواطة بساحل تامسنا على المحیط الأطلسي، وتمكن من الانتصار عليهم، ولكنه وقع جريحاً في المعركة، ولما أيقن بقرب لحظة وفاته جمع قادة المرابطين حوله، وأوصاهم فقال:
المهدي بن تومرت: صاحب الدعوة الموحدية
في حدود عام 473هـ ولد محمد ابن تومرت في قبائل المصامدة، تلك التي كانت مستقرة في بلاد السوس الأقصى الواقعة جنوب دولة المغرب الحالية.
ابن تومرت الذي بدأ حياته في تلك الناحية البعيدة من بلاد الإسلام فقيهاً متواضعاً بسيط الحال شاءت الأقدار أن يصير بعد بضع سنين مفجراً لثورة من أعظم الثورات التي شهدها التاريخ الإسلامي، وأن يصبح واضع أساس دولة كبرى مترامية الأطراف.
بعد أن سافر ابن تومرت إلى المشرق ودرس على يد كبار العلماء في مصر والشام والعراق والحجاز، قفل عائداً إلى مسقط رأسه في السوس الأقصى، واستطاع أن يجمع الكثير من الأنصار والأتباع الذين اقتنعوا بكونه المهدي المنتظر، وسمى حركته باسم الدعوة الموحدية، واتخذ من قمة جبل تينملل مركزاً لنشر دعوته بين القبائل.
انخراط ابن تومرت في العمل العسكري بدأ منذ وقع الصدام مع الدولة المرابطية التي شعر حكامها بالخطر من جراء تعاظم نفوذ ابن تومرت.
في 515هـ بعث الأمير المرابطي علي بن يوسف بجيش لقتال الموحدين، وقام هذا الجيش بحصار ابن تومرت وأتباعه وضيقوا عليهم ومنعوا عنهم المؤن والأغذية، «فقلت عند أصحاب المهدى الأقوات حتى صار الخبز معدوماً عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها فما علق عليها قنع به ذلك اليوم»، وذلك بحسب ما يذكر محمد عبد الله عنان في كتابه «دولة الإسلام في الأندلس».
كانت خطة المهدي في تلك المرحلة خطة دفاعية بحتة، وقامت بالأساس على أن يلزم الدفاع عن معاقله الجبلية الوعرة، وألا يهبط إلى السهل، ليحمل المرابطين على تكبد المشاق والمتاعب للوصول إليه، وقد نجحت سياسة ابن تومرت في تلك المرحلة نجاحاً كبيراً، فنجد أن المرابطين – وعلى الرغم من سعيهم المتواصل للهجوم على الموحدين – دائماً ما كانوا يفشلون فشلاً ذريعاً.
بعدها نجد المهدي وقد عقد العزم على التحول من الدفاع إلى الهجوم، فبدأ يخطط للسيطرة على جميع أنحاء السوس الأقصى، ويقال إنه قد أعلن الحالة الهجومية ضد المرابطين بعد أن وصل تعداد جيشه من مصامدة السوس الأقصى إلى عشرين ألف رجل قادر على القتال والحرب، وذلك بحسب ما يذكر ابن أبي زرع الفاسي في كتابه «روض القرطاس».
بعدها حقق المهدي عدداً من الانتصارات المهمة على المرابطين، ومن أهمها غزوتا تاودزت وتالات. أما أهم انتصارات المهدي على المرابطين فقد تحققت في موقعة تيزى ان ماسنت، والتي تمكن الموحدون فيها من تحقيق انتصار باهر على الجيوش المرابطية، ويمكن أن نعتبر أن تلك المعركة كانت نقطة تحول مفصلية في تاريخ الصراع الموحدي المرابطي، وذلك لأن الموحدين بعد تلك المعركة قد تأكدوا من قدرتهم على الإجهاز التام على الدولة المرابطية، فعملوا على غزو مدينة أغمات ذات المكانة الاستراتيجية المهمة عند المرابطين، وشرع المهدي بعدها في إرسال جيوشه لغزو مدينة مراكش عاصمة المرابطين ومركز دولتهم.
أبو الفضل ابن الخشاب: المُعمَّم الشيعي في حلب
بدأت الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي في نهايات القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، ولم يمر الكثير من الوقت على بداية تلك الحملات حتى تمكن الصليبيون من الاستيلاء على مجموعة من المدن المهمة في بلاد الشام والأناضول، ومنها بيت المقدس وأنطاكية والرها وطرابلس.
حلب، باعتبارها عاصمة شمال الشام وحلقة الربط بين سوريا والأناضول، وجدت نفسها واقعة تحت ضغط وتهديد متواصلين من جانب إمارتي أنطاكية والرها القريبتين منها، وهو ما تسبب في دخول الحلبيين في الكثير من الحروب للدفاع عن أرضهم وحمايتها من مطامع الصليبيين.
في تلك الظروف العصيبة تتحدث مجموعة من المصادر التاريخية المعاصرة لتلك الأحداث عن القاضي الشيعي الإمامي الاثني عشري أبو الفضل ابن الخشاب، والذي لعب دوراً مهماً ومحورياً في التصدي للخطر الصليبي.
ابن الخشاب كان منحدراً من عائلة حلبية نبيلة، يصفها ابن العديم في كتابه «بُغية الطلب في تاريخ حلب» بقوله: «من بيوت حلب القديمة، وعيسى الخشاب جدهم كان مقدماً في دولة بني حمدان، وتقدم بنوه وعقبه بعده، ورأسوا بها واتخذوا الأملاك بحلب، ومال إليهم الشيعة بها، وتولوا المراتب السنية».
في بدايات القرن السادس الهجري دخلت حلب في فوضى على الصعيد السياسي، ويتحدث ابن العديم عن أوضاع حلب المضطربة في تلك الفترة، فيقول: «وكانت رغبات الملوك فيها إذ ذاك قليلة، لمجاورة الفرنج لها، وخراب بلدها، وقلة ريعه، واحتياج من يكون مستولياً عليها إلى الخزائن والأموال والنفقة في الجند …».
في 512هـ/ 1118م رشح ابن الخشاب اسم أمير ماردين السني إيليغازي، ليصبح حاكماً جديداً لحلب، «فاتفق رأيهم على أن سيروا الأعيان والمقدمين إلى إيليغازي بن أرتق، واستدعوه ليدفع الفرنج عنهم، وظنوا أنه يصل في عسكر يفرج به عنهم، وضمنوا له مالاً يقسطونه على حلب يصرفه إلى العساكر»، فقدم إيليغازي من ساعته، وكان القاضي الشيعي هو الذي قام بفتح الأبواب له بنفسه.
في 513هـ/ 1119م وقع الصدام بين الحلبيين والصليبيين في معركة سرمدا، والتي عرفتها المراجع الأجنبية باسم سهل الدم. المعركة التي شارك فيها القاضي ابن الخشاب، ورد ذكرها في العديد من المصادر التاريخية المهمة، من ذلك ما ذكره ابن العديم بقوله: «وحمل الترك بأسرهم حملة واحدة من جميع الجهات صدقوهم فيها، وكانت السهام كالجراد، ولكثرة ما وقع في الخيل والسواد من السهام عادت منهزمة وغلبت فرسانها، وطحنت الرجالة والأتباع والغلمان بالسهام، وأخذوهم بأسرهم أسرى …».
وعن دور القاضي الشيعي في تلك المعركة يقول ابن العديم: «… وأقبل القاضي أبو الفضل ابن الخشاب يحرض الناس على القتال، وهو راكب على حجر وبيده رمح، فرآه بعض العساكر فازدراه، وقال: إنما جئنا من بلادنا تبعاً لهذا المعمم، فأقبل على الناس، وخطبهم خطبة بليغة استنهض فيها عزائمهم، واسترهف هممهم بين الصفين، فأبكى الناس وعظم في أعينهم».
أما ابن القلانسي فقد وصف ذلك الانتصار في كتابه تاريخ دمشق بقوله: «وكان هذا الفتح من أحسن الفتوح، والنصر الممنوح، لم يتفق مثله للإسلام، في سالف الأعوام، ولا الآنف من الأيام، وبقيت أنطاكية شاغرة خالية من حماتها، ورجالها، خاوية من كماتها، وأبطالها»، وقد بلغ من عظم شأن تلك المعركة في وقتها أن تردد القول بين الحلبيين بأن الملائكة قد حاربت يومها في صف المسلمين.
نجم الدين كبرى: صانع الأولياء الذي حارب المغول
في نهايات القرن السادس الهجري توحدت قبائل المغول على يد زعيمهم القوي تيموجين، الذي عُرف فيما بعد باسم جنكيز خان. وبعد سنوات قلائل من إتمام هذا التحالف، دخل جنكيز خان في صراع عنيف مع الدولة الخوارزمية المسلمة الحاكمة في بلاد إيران وآسيا الوسطى، وتمكن من إلحاق الهزائم المتتابعة بحاكمها علاء الدين محمد خوارزم شاه، ومن بعده ابنه جلال الدين منكبرتي، على الترتيب.
في تلك الأثناء كان لشيوخ الصوفية مقام عظيم في آسيا الوسطى، وكان الشيخ نجم الدين الكبرى تحديداً واحداً من أهم القيادات الصوفية في بلاد ما وراء النهر على الإطلاق.
نجم الدين الكبرى هو أبو الجناب أحمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الخيوقي، والذي يُنسب إلى خيوق، وهي ناحية من نواحي خوارزم. وصفه شمس الدين الذهبي المتوفى 748هـ، في كتابه «سير أعلام النبلاء» بقوله: «كان صاحب حديث وسنة، ملجأ للغرباء، عظيم الجاه، لا يخاف في الله لومة لائم».
نجم الدين، الذي اُشتهر بلقبه «صانع الأولياء»، لكثرة تلاميذه الذين تلقوا عنه أصول التصوف والزهد، لما أيقن من اقتراب اجتياح المغول لخوارزم، أمر تلاميذه بالانتشار في عموم إيران، وحرضهم على نشر الدعوة الإسلامية بين الأهالي الوثنيين في شتى مدنها، بينما خرج هو فيمن خرج من العلماء والمتصوفة، فثبت لملاقاة المغول حتى وقع صريعاً في أحد المعارك سنة 618هـ.
من الصدف الغريبة التي اتفق وقوعها بعد وفاة نجم الدين أن إسلام عدد كبير من المغول فيما بعد قد تحقق على يد الشيخ سيف الدين الباخرزي، وهو واحد من كبار تلاميذ نجم الدين كبرى، إذ أسلم على يديه بركة خان زعيم مغول القبيلة الذهبية، الأمر الذي حدا بالكثير من الشيوخ للقول بأن إسلام المغول كان أحد بركات الشيخ نجم الدين كبرى.
أبو الحسن الشاذلي: الصوفي المغاربي الذي قاتل الصليبيين
في سنة 647هـ قاد الملك الفرنسي لويس التاسع جيوشه لمصر، وتمكن من التوغل في أراضيها، حتى وصل لمدينة المنصورة القابعة في الدلتا.
حاكم مصر، الملك الصالح نجم الدين أيوب، جمع جيشه – الذي يشكل المماليك الجزء الأعظم منه – وتوجه لملاقاة ملك فرنسا، غير أنه سرعان ما توفي، تاركاً جيشه في تلك الظروف العصيبة.
تتفق المصادر التاريخية على الدور المهم الذي لعبه أمراء المماليك في تلك المعركة، وكيف أنهم قد وحدوا صفوفهم وتمكنوا من التصدي لجيوش فرنسا، قبل أن يلحقوا الهزيمة المدوية بها في معركة المنصورة، والتي وقع على إثرها الملك الفرنسي أسيراً، فتم حبسه في دار ابن لقمان حتى أُفرج عنه بعد أن دُفعت فديته.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبه الصوفي الشهير أبو الحسن الشاذلي في أحداث تلك المعركة، فإن معظم المصادر التاريخية لم تتعرض له بالذكر.
أبو الحسن الشاذلي هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي المغربي، ولد في قبائل غمارة في شمال بلاد المغرب، وتلقى تعاليم الصوفية على يد الصوفي الكبير عبد السلام بن مشيش، قبل أن ينتقل للإقامة والسكنى في مدينة الإسكندرية في أواخر العصر الأيوبي.
في مصر اشتهر أمر الشاذلي، واجتمع حوله الأتباع والمريدون، وصارت طريقته إحدى أهم وأشهر الطرق الصوفية المتبعة، ولما وصلت إلى مسامعه أخبار وصول الحملة الصليبية السابعة إلى دمياط، أمر أتباعه بالتجهز للجهاد، وقادهم وهو الشيخ الضرير الذي وقف على مشارف الستين من عمره إلى أرض المعركة.
الشيخ عبد الحليم محمود تحدث في كتاب «قضية التصوف» عن دور الشاذلي وأتباعه في رفع الروح المعنوية للمقاتلين، فقال:
أيضاً مما يُحكى في أحداث تلك المعركة أن أبا الحسن الشاذلي كان قد اعتراه الهم والضيق خوفاً من هزيمة المسلمين، فلما نام شاهد في منامه الرسول وبعض أصحابه، وبشره بالنصر، وقال له: «لا تهتم كل هذا الهم من أجل الثغر، وعليك بالنصيحة لرأس الأمر»، فاستيقظ الشاذلي وبشر الناس وحض أمراء المماليك على الجهاد، وذلك بحسب ما ورد في كتاب «درة الأسرار وتحفة الأبرار» لابن الصباغ.
تقي الدين ابن تيمية: شيخ الإسلام الذي قاتل المغول والصليبيين والشيعة
عاش شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني المتوفى 728هـ في فترة تاريخية حرجة، إذ وجد العالم الإسلامي نفسه واقعاً بين شقي الرحى، ومضطراً لخوض الحروب المتواصلة ضد كل من الصليبيين والمغول.
هذا الوضع المأزوم انعكس على سيرة ابن تيمية نفسه، فرجل الدين الذي ولد في حران عشية الغزو المغولي لها، وانتقل بعدها مع أسرته إلى مدينة دمشق، خاض مجموعة من المعارك ضد القوى المعادية للإسلام السني التقليدي، الذي اختار ابن تيمية أن يقضي حياته منافحاً عن ثوابته ومبادئه.
أولى تلك المعارك كانت معركة تحرير مدينة عكا من الاحتلال الصليبي في عام 690هـ. عكا كانت آخر المعاقل الصليبية القوية في بلاد الشام، وكانت نقطة استقبال المقاتلين الصليبيين القادمين إلى الشرق، ومن هنا فقد كان الاستيلاء عليها ضامناً للتخلص من أي تهديد صليبي قد يحدث في المستقبل القريب. في سبيل تحقيق هذا الهدف، حشد السلطان المملوكي الأشرف صلاح الدين بن قلاوون، عشرات الآلاف من مقاتليه، وانضمت له كتائب من المتطوعة الذين رغبوا في المشاركة في تلك المعركة.
بحسب بعض المصادر التاريخية، فإن ابن تيمية – الذي لم يتم الثلاثين عاماً وقتها – كان واحداً من هؤلاء المتطوعة، ورغم أن المصادر لم تقدم تفصيلاً لدور شيخ الإسلام في تلك المعركة، فإن الكتابات الممجدة لشيخ الإسلام قد أسهبت في الحديث عن عمله البطولي المهم بالقرب من أسوار عكا، ومن ذلك ما ذكره أبو حفص البزَّار المتوفى 749هـ -تلميذ ابن تيمية- في كتابه الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، عن بطولات شيخه في تلك المعركة، وقد وصفها بقوله: «يعجز الواصف عن وصفها، قالوا: ولقد كان السبب في تملك المسلمين إياها بفعله ومشورته وحسن نظره …».
المعركة الثانية التي خاضها ابن تيمية وقعت في سنة 700هـ، بالتزامن مع هزيمة الجيش المملوكي أمام جيش المغول الإيليخانيين في موقعة وادي الخزندار. المغول استعدوا في تلك الفترة لدخول دمشق، فيما نادى ابن تيمية في الدمشقيين بوجوب مواجهة العدو الغازي، ورغم كل الجهود التي بذلها شيخ الإسلام لحشد وتنظيم المتطوعة، فإن قوات غازان خان قد دخلت المدينة وأحكمت قبضتها عليها.
أما المعركة الثالثة التي خاضها ابن تيمية فيذكرها ابن كثير المتوفى 774هـ في كتابه البداية والنهاية في أحداث سنة 699هـ:
وهكذا شارك شيخ الإسلام في التخلص من خطر بعض الفرق الشيعية التي مثلت تهديداً على السلطة المملوكية في لبنان.
فرصة الثأر من المغول تهيأت بعد سنتين فحسب، بعدما سافر ابن تيمية إلى مصر لحث سلطان المماليك الناصر محمد بن قلاوون على الجهاد ضد المغول، فخرجت جيوش المماليك في 702هـ، وتقابلت مع الجيش المغولي في موقعة شقحب في شهر رمضان من تلك السنة.
تتفق المصادر التاريخية على الدور الكبير الذي لعبه ابن تيمية في تلك المعركة، فقد أفتى بالإفطار في يوم المعركة، ولما وجد أن بعض الجند يتحرجون من ذلك، أفطر أمامهم، وظهر وهو يجول بين صفوفهم وهو يأكل ويشرب، فقلدوه وأفطروا بدورهم. أيضاً، كان لابن تيمية دور مهم في رفع الروح المعنوية للمماليك، فقد كان يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرَّة منصورون. فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله. فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا. وكان يؤكد كلامه ببعض الآيات القرآنية، وفي يوم المعركة وقف ابن تيمية في الصفوف المتقدمة لجيش الشاميين، ولم يكف عن تشجيع الجند للقتال حتى تحقق لهم النصر في نهاية المطاف.