الشيخ مصطفى الغلاييني و«أريج زهره»
منذ استهللت في أولى صفحاته، وأنا مندهش متلذِّذٌ من بلاغة الكاتب مستمتعٌ بها، فهو يملك قلمًا رصينًا فائق الدقة والإبدع، ولن أبالغ حين أقول إن هذه الصفحات هي أفضل النصوص الأدبية التي قرأتُ، على قِلّة ما قرأت .. بعد ذلك، في نهاية المقدمة عرفتُ أن من سطّر هذه الصفحات الأوائل هو صديق المؤلف: محيي الدين الخيّاط!
لماذا سُمِيَ أريجُ الزَّهر؟
الأريج هو الرائحة، والزهر جمع زهرة، ومعناه رائحة الأزهار، يقول صديق المؤلف في مقدِّمته:
عن مؤلف الكتاب
يقول صديق المؤلف إنه قد توسّم فيه النبوغ والنضج منذ أول يوم عرفه، فقد درس قواعد العربية حفظًا وفَهمًا في شهرين، وكان يرتجل الشعر ارتجالًا، كما أنه كان بارعًا في الخطابة، فاستبشر به خيرًا منذ حداثة سنّه، فكان أن تدرّج في مدارج النموّ حتي ظهر بكل ما توسّم فيه صاحبه من حُسنٍ ومَجدٍ ورِفعة.
بلاغةُ الكاتب
كان الكاتب على أحسن ما يكون من البلاغة بشكل عام، لكنه أخفق بعض المواضع التي سأشير إليها، ونلاحظ في الكاتب مدى تأثره الشديد بالقرآن والتعبيرات القرآنية، والحقُ أنني لم أجد أحدًا يستخدم بلاغة القرآن بطريقة مبدعة أبعد ما يكون عن الاستخدام التقليدي الذي نراه في الكتب الدينية – غير اثنين مؤلف هذا الكاتب ثانيهما، وربما أضيفُ لهما ثالثًا أو رابعًا في قراءاتي المقبلة.أما عن شِعرُه فسَلِسٌ مفهوم أكثر كلماته يعرفها العربي البسيط، فهول يميل عن التعقيد وينحو إلى الإفهام والتبسيط، فاجتمعت فيه أساليب البلاغة والفصاحة فأحسن النَظْم.كان أسلوب المؤلف في الموضوعات الأولى من الكتابِ رديئًا في بعض المواضع، حيث استخدم أسلوب الخطابة في غير موضعه، واستعمل أساليب النداء والدعاء والنصح في غير مقامهم مما صيَّر النص مملّا سمجًا رغم ما به من الكلمات والأساليب البلاغية، ومن ذلك تكراره لجملة «أيها الإنسان» أكثر من أربع مرات في صفحة واحدة أو في موضوعٍ واحد.وأسلوب الخطابة، لا شكَّ، بلاغيٌ في ذاته، لكنه لا يصلح للكتابة إلا في حالات قليلة ومحدودة، فإذا لم يستعمله الكاتب بحذرٍ وحَيطَةٍ ضاعت بلاغته أدراج الرياح.
كان الكاتب يبتغي النثر أو السجع في بعض المواضع التي لا تقتضي سجعًا أو نثرًا، فكان يلوي أعناق الكلمات حتي يسجعها على نفس الوزن، ولا أظن هذا إلا عَيْبًا لاغيًا، فبذلك تحوّل الكلام ركيكًا لا روح فيه ولا جمال.في مقالته عن التربية، أعتقد أنه لم يأتِ بشئ جديد ولم يكن قوله ذا أهمية تُذكَر، بل ربما اكتفى بالتقليد والترديد، فجُلّها أشياء بديهية صاغها في قالب بلاغي واضح، هو – ذاك القالب – لامع وأنيقٌ تارة، وضيّق وممل تارةً أخرة، لكنه علي العموم واضحٌ سَلِس.
علي عكس مقالتَيْ «قحط رجالٍ أم قحط وجدان» و«التربية أساس النجاح» اللتين تمتازان بالأسلوب الممل الرتيب، فقد كانت مقالة «رجالُ الإصلاح» ومن قبلها «الأنانية وحبُّ الذّات» غاية في الروعة الأدبية، وأناقة الأفكار التي تنُمّ عن الذكاء الذي تفرّسه صديق المؤلف، وقد استخدم، في التعبير عن أفكاره، الخواطر والأبيات الرائعة التي دفعتني للانتشاء والاستمتاع دَفْعًا.
سِماتُ الكُتّاب العالَميّين
إنني دائمًا ألحظُ نمطًا جليًا يفعله الكثير من الكتّاب والمفكرين والروائيين – بل وربما حتي من المشتغلين بغير الكتابة – الذين اتفق عُظْمُ الخلق علي تألّقهم، وهو أنهم يوجّهون كلماتهم إلى كل العالم، إلى السواد الأعظم من البشر، فتصل إلي أفق كل إنسان على اختلاف لونه ولغته ودولته، هذا ما يميّز خطاب العظماء الخالدين عن خطاب الكتّاب المحلّيين الذي يُدفَنون مع أعمالهم.
وعن النوعية التي امتاز بها خطاب هذا المؤلف، فلم يستخدم خطابًا عالميًا، وإنما توجّه بكلماته وفِكره إلى العرب، وربما إلى المسلمين منهم خاصة، ورغم ذلك فقد كان خطابه شاملًا جامعًا لكافة العقول من هذه الفئة التي تضمها بلاد ودول ومساحات شاسعة يسكنها عشرات الملايين.ولقد علمتُ من مقدمة الكتاب أن المؤلف بغداديّ، إلا أنه خلال حديثه، قد استخدم خطابًا يتكلم فيه إلى جميع العرب في كافة الأزمنة بعدَهُ، حتى أنك إذا ذهبت تُسقِطَهُ على كافة البلاد العربية لرأيت منه ما يحتمل ويطيق.إنّ قلة من الكتاب هم من يملكون تلك النظرة الثاقبة، نظرة الطائر، حيث يطيرون إلى السماء فيلحظون أحوال الجموع وأخبارهم وأفعالهم وما يعتمل في نفوسهم، فيذهب إلى التأليف وهو مدرك لما يحدث في طائفته وخارجها أتمَّ إدراك.
عن أفكارِ الكاتِب
ربما كان هذا أفضل ما قرأتُ عن الإرادة البشرية، في مقالته «الإرادة»، حيث كتَبَ فأبدع، ووصف فأوضح، وجمع فأبان، وكان يتخيَّر المفردات والكلمات والأفكار كما يتخيّر الذهب والماس من بين التراب.أما عن مقالة «سعادة الحياة»، فإننا نرى أن الكاتب لم يطّلع على آراء الفلاسفة في سُبُلِ السعادة بشكل جيد، وهي آراء شبه عقلية، ولكن عندما يأتي ليُدلي برأي أو ليدافع عن آخر، فإنه يستخدم فقط الأدلة اللاهوتية – الدينية – ولا أحسبُ هذا إلا ضعفًا في المحاجاةِ والمناظرة.
وقد قسّم، في مقالَتِه «دلائل التوحيد»،الأديان إلى قسمين، أديان سماوية، وأديان وَضعيّة.ولكن ما الفرق بين الاثنين؟ فإننا نعرف أن كل الأديان على اختلاف ألوانها ومشاربها قد زعمت أنها متّصلة بالسماء، ومن لم يدّعِ فيها بهذا فلا يحق أن يُدعى “دينًا” أصلًا، وإنما يطلق عليه «فلسفة» أو اعتقاد ما.بالتالي، فادّعاء بأن لفظ «الأديان السماوية» لا يجوز إطلاقه إلا على الإسلام واليهودية والمسيحية فقط دون غيرهم، هو ادّعاء باطل لا صحةَ له.
نظريته في القابلية والفاعلية
يقول الشيخ مصطفى الغلاييني إن كل عمل لابد لحصوله من القابلية والفاعلية، فيبطل العمل بتعطيل أحدهما.فمثلًا، إن لم توجد «قابلية» الإصلاح في الشعب أي استعداده وحماسته من أجل الإصلاح، فلا يمكن أن يكون راقيًا مهما كانت الوسائل فعّالة قوية، وإذا لم توجد «الفاعلية» التي تتمثّل في الأفعال والطرق التي يكون بها الإصلاح، فمن العبث محاولة ترقية الشعب، مهما كانت «القابلية» عظيمة، ومهما كان مستعدًا للإصلاح والارتقاء.
من هذا المنطلق، يمكننا أن ننظر إلى جَمعٍ من البشر ونعرف كيف نبُثّ فيهم فضيلة أو خصلة ما، فنحاول الأول أن ندرك «قابليتهم» لهذه الخصلة، ومن ثمّ تكون «الفاعلية» على هذا الأساس.
بثلاثة جنيهات فقط، لقد كان الكتاب ثمينًا دسمًا مليئًا بشتي الموضوعات الفكرية والأدبية والاجتماعية، ولقد استفدتُ من المؤلف الكثير وخرجتُ بوجبة فكرية رائعة.
والآن، هل تصدّق أن هذه الرواية الرائعة قد جاءت هدية مع العدد 110 من مجلة الدوحة، والتي تباع بثلاثة جنيهات فقط؟! وجدير بالذكر أن المجلة يكون معها واحد من هذه الروائع يأتي مع كل عدد شهري، ستجدها تباع لدى باعة الصحف والمجلات.