قرآن المغرب: الشيخ أحمد ندا الذي كتب دستور دولة التلاوة
يهب الله تلاوة القرآن الكريم لمن يشاء ويصطفي من عباده، ويمنح القرآن لحامله رفعة الشأن بين الناس، فكم من قارئ للقرآن لو لم يعط المواهب والإمكانات التي تمكنه من تلاوة القرآن وتجويده على مشهد من الناس، لكان من الذين يسعون في الأرض ويكدون كغيرهم من الناس، ولما ارتفع شأنه، ونزل كمنزلة النجوم الذي يهتدي بهم الراغب. أعطى القرآن لأعلام قرائه في مصر مكانة اجتماعية ما كانت لتخطر على بال أجدادهم، فجعلتهم مدارس ومذاهب، وأدخلتهم قصور الملوك والرؤساء، وجذبت حجاجًا لهم من كل بقاع الأرض ليسمعونهم، وكان من هؤلاء، بل على رأسهم القارئ الجليل الشيخ أحمد ندا، فهو للمقرئين رائد ومجدد وثائر، وأول جيله وملهم أجيال لاحقة ستأتي في التلاوة.
وحتى في الغناء، فها هو الشيخ زكريا أحمد الملحن حين تعرف على أم كلثوم وأتى بها للقاهرة، حرص على أن يجمع بينها وبين الشيخ أحمد ندا لقاء يصقل موهبتها وأداءها.
إن فتشت لن تجد إلا تسجيلاً واحدًا للشيخ من سورة الأنبياء، وهو ما تركه بصوته، لكن إن فتشت في أوراق من شاهدوه وسمعوه وحضروا محافله، ستعلم لم كان هذا الرجل رائدًا فذًا، وحالة لم تتكرر لأحد مثله في عصره أو في العصر الذي لحقه.
رئيس جمهورية التلاوة
يشبّه الدكتور عرفة عبده علي تلاوة القرآن في مصر بالدولة المجيدة، فيها الملوك والأمراء والعساكر. ولأن لكل دولة شعبًا ورعية، ففي دولة التلاوة كان الرعية هم السميعة، ويتصنفون أيضًا حسب مكانتهم الاجتماعية من زعماء لحرافيش وبسطاء. وكان السؤال اليومي في عصر دكتور عرفة: «هو الشيخ هيسهر فين الليلة؟».
وكان الشيخ المقصود هو أحمد ندا، رئيس تلك الجمهورية المجيدة. في عصره قرأ الشيخ القرآن بصوت جميل وبطريقة جميلة. كان الشيخ ندا ذا صوت شديد في قوته، إذا ارتفع ظل حتى تقطعت أصوات من هم دونه، وكان عريضًا جليلاً، حضر له محفل الدكتور شكري عياد في مسجد السيدة زينب، وبالغ في وصف صوته حتى قال إن صوته يملأ صحن الجامع، من المنبر وحتى الباب، في زمن لم يولد فيه مكبر الصوت بعد، وقد وصفه الأديب الشيخ عبد العزيز البشري قائلاً:
كان لصوت أحمد ندا في مسجد السيدة زينب جمهور وحزب، ففي تلك الفترة من تاريخ البلاد كانت المنافسة شديدة بين رواد ستنا زينب وسيدنا الحسين، وتحلق أنصار أحمد ندا حول صوته في مسجد السيدة زينب، ومنافسوهم جاوروا صوت الحامولي المطرب/المؤذن في الحسين، حيث كان الاثنان يتباريان في ابتهالات وتواشيح الفجر، وكانت منافستهم في أداء المقامات الموسيقية الصعبة مثل «العشاق»، و«الحجاز».
ولد الشيخ أحمد ندا في العام 1852، وكان أبوه مؤذن جامع السيدة زينب، اهتم بتحفيظ ابنيه أحمد وحامد القرآن، وورث عنه أحمد مكانه كمؤذن للجامع، وتلقى في الكتاب قدرًا بسيطًا من العلم بالقراءات، وقد كانت معلوميته بالموسيقى كفن محل خلاف ثار في صحيفة الأهرام في أيامه بين الشيخ عبد العزيز البشري الذي قال عنه -ليس منتقصًا من قدره- «لم يكن علمه يزد على إدراك أوليات النغم، كأن يعرف معنى الصبا والسيكاه والعراق والجركاه»، والأستاذ التفتازاني الذي وصفه بأنه «على عرق عظيم من العلم بفن الموسيقى».
كانت مصر دولة التلاوة منذ أن أسس الفاطميون الجامع الأزهر، وحتى الحكم العثماني لمصر لم ينقطع نسلها من القراء، إلا أن التلاوة في العهد العثماني تعرضت لانتكاسة بسبب ذهاب المتمكنين إلى القراءة في إسطانبول، وظلت تلك الانتكاسة حتى عصر الشيخ ندا.
كانت قراءة القرآن قبل الشيخ أحمد ندا مهنة كمهنة المداح بالربابة، فلم تكن هناك قواعد نغمية أو أسس أخلاقية، وكان يمتهنها من لا مهنة له، فإن حفظ شخص بعض آيات القرآن باجتهاده الشخصي أو طالب لم يوفق في الابتدائية، أو رجل أعمى لم يجد وسيلة للرزق إلا القراءة في مقابر الفقراء مقابل عشوة أو قرش صاغ.
وكان يطلق على القراء كما ذكر الكاتب محمود السعدني ألقاب «الصييتة» وكانت أصواتهم تشبه صوت خشب يحترق أو احتكاك عجلات القطار بالقضبان، أو «أولاد الليل» وهم الفاشلون من طلاب الأزهر.
وتعرضت التلاوة لجهود إحيائية على يد عدد قليل من الشيوخ من أمثال حنفي برعي، ومحمود القيسوني، وحسين الصواف الذين حاولوا أن يصنعوا قواعد للمهنة، لكنها لم تلق رواجًا.
حتى جاءت قراءة الشيخ ندا لتحدث ثورة عارمة، أثرت في عقول ومشاعر السميعة، وحملتهم على الجلوس في أماكنهم ساعات طويلة لا ينتابهم الملل، حتى يقرر الشيخ أن ينتهي. وحوكمت طريقة الشيخ الجديدة هل هي حلال أم حرام، وكان الشيخ لا يبالي تاركًا الناقدين في نقاشاتهم الحادة، ومستمرًا في جمع مزيد من المريدين والسميعة.
سيد الأصوات
كانت ثروة الشيخ في صوته، الذي كان جميلاً بشكل خاص، في تمكنه من الطبقات الوسطى لصوته وطبقة الجواب، التي عوض بها ضعفه في القرار، لذلك كان دائمًا ما يتكئ على الطبقات الوسطى وطبقة الجواب، ولا ينزل للقرار إلا ليصيب راحة ضئيلة يستجمع فيها شتات صوته من جديد ليعاود الكرة.
ويصفه الشيخ عبد العزيز البشري مرة أخرى قائلاً:
ويوضح الدكتور نبيل حنفي محمود الإمكانيات الصوتية للشيخ ندا، فيحدد مساحة صوته أنها تقترب من ثلاثة دواوين كاملة، أي أربعة وعشرين مقامًا، وهذا ينم عن صوت ضخم مجلجل. ويشهد على ذلك الصحفي حافظ محمود في مقدمته لكتاب «ألحان السماء»، وهو معاصر للشيخ ندا، حيث ذكر أنه كان يستمع لصوت الشيخ ندا بينما يقرأ القرآن في مسجد السيدة زينب، وهو جالس في منزله الذي يبعد تسعين مترًا عن المسجد وهو جالس مع أسرته، رغم عدم وجود مكبرات للصوت.
ومن المواقف التي تبرهن على قوة وفخامة صوت الشيخ ندا، يذكرها الأديب أحمد بهجت في كتابه «مذكرات صائم» فقد كانت الأصوات قبل دخول الميكروفون مصر قوية مجلجلة، ووقف الشيخ أحمد ندا يغني في حي الحسين أحد الموشحات في مديح الرسول، وكان إلى جواره بيت فيه فرح، وكان صاحب الفرح قد أحضر فرقة مزيكا ميري، يصفها بهجت بسخرية أنها «توقظ الموتى لو دقت»، وحين دقت المزيكا بدأ الشيخ ندا في مديحه، ويعلو صوته، ويعلو صوت المزيكا، ويتحدى كل منهما الآخر، حتى يهزم صوته صوت المزيكا، ويرسل إليه صاحب الفرح من يقول له: «والنبي يا شيخ ندا تاخدلك شوية راحة ما احناش سامعين المزيكا من صوتك…»
خمسة جنيهات
بينما كانت الحرب العالمية الأولى دائرة في عام 1915م، وموجة الإفلاس تدمر بيوت تجار القطن وملاك الأرض، قلب الشيخ ندا موازين المهنة حين وصل أجره إلى خمسة جنيهات في الليلة الواحدة، وبلغت شهرته كل مديريات مصر، فسهر في قصور الباشوات ودور العمد والأعيان، وكان أينما ذهب، أمسك بذيله آلاف السميعة، وظل أجره يرتفع حتى بلغ المائة جنيه ذهبي.
امتلك الشيخ عربة «فيتون» تجرها أربعة خيول كغيره من علية القوم، وقصرًا يتردد عليه في زمانه نجوم السياسة والأدب والصحافة كزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، والآنسة أم كلثوم التي أحيت زفاف حفيدته دون أن تتلقى أجرًا إكرامًا له، ولكنه لم يتخل عن منبر جامع السيدة زينب حتى وفاته، ففي كل يوم جمعة كان يتوافد ألوف المصلين على مسجد السيدة زينب للاستماع إلى تلاوة الشيخ لسورة الكهف.
وقد أثارت تلك الأبهة إعجاب غيره من الشيوخ الذين كان يلفون العمامة على طريقته، ويقلدونه في الزي، كما أثارت غيرة الخديوي، فقد فاقت شهرة الشيخ الخديوي شخصيًا، وكان يتعرض الشيخ لمضايقة من الخديوي بسبب أن موكب الشيخ مشابه لموكب الخديوي، فأصدر قرارًا يحجم من عدد الخيول التي تجر عربة الشيخ أحمد ندا إلى حصانين فقط.
كان الشيخ ندا غواية لأهل عصره من رجال الفن والأدب، الذين كانوا يشكلون النخبة من طبقة السميعة، كمحمد البابلي وهو من ظرفاء مصر الذين أتى على ذكره الكثير من أدباء عصره. كان البابلي ثريًا وعاشقًا للفن وهاويًا للسهر، وكان يبكي إذا سمع الشيخ ندا في ساعة السحر حتى يغيب عن الوعي. وقد اقترح عليه مرات عديدة أن يتجه إلى الغناء، مؤكدًا له قدرته على سحق سيد درويش والحامولي بقوة صوته.
وكان من رواد حضرة الشيخ ندا شاعر النيل حافظ إبراهيم، والمطرب صالح عبد الحي أشهر مطربي ذلك الزمن الذي كان يقول إن الشيخ ندا لو اتجه للغناء لأفلس كل مطربي العصر. وكان محبوبًا وملهمًا لمن يريد أن يحتذي حذوه، فكان أقرانه من مقرئي الرعيل الأول يلتفون حوله، ويجدون فيه المجدد الذي يخلصهم من عقم الفن البالي، ويتعلمون منهجه. فكان الشيخ محمد رفعت يذكره بالأستاذ، كما أن له فضلاً على الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي ومحمد الصيفي، حيث ساعدهم على البقاء والاستمرار في القاهرة في مقتبل مسيرتهم.
في التسجيل الوحيد الذي خلفه الشيخ ندا، يمكنك أن تكتشف تلك الحالة الشبيهة بالسكر، والنشوة التي يبعثها صوت الشيخ ندا في نفوس المريدين، فكما كان الشيخ متواضعًا لجماهيره، كانوا أيضًا متواضعين، ومتبسطين في القول له وفي تعبيرهم عن انتشائهم. فبينما يقرأ الشيخ ندا من سورة الأنبياء: «وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين»، تميز صوتًا واضحًا في وسط ضوضاء الأهازيج والتهليل مثنيًا على الشيخ: «يا ولا ياللي مفيش منك»، وآخر يقول: «يا مهندس.. يا مهندس»، وثالث يبكي في حضرة الشيخ قائلاً: «تبنا إلى الله.. تبنا إلى الله يا مولانا».
ومن صور ذلك التواضع والارتباط بمريديه، موقف في حياته حيث دعا إلى القراءة في حفل الأربعين لوفاة أحد كبار التجار في حي شبرا، وحين علم في نفس اليوم أن سيدة فقيرة في حي بولاق توفيت وتركت وصيتها أن كل رجائها أن تسمع صوت الشيخ ندا في قبرها حتى تهدأ وتستريح، وذهب الشيخ إلى حارة تلك السيدة البائسة وتحلق حوله المئات والألوف من سكان حي بولاق، وفي صباح ذلك اليوم تبرع لأهل الحارة بمبلغ من المال.
كان الرجل عاشقًا لفنه، ومخلصًا لعمله، فكان يقيم محفلاً في أسيوط بالأمس متألقًا، وفي اليوم الذي يليه يذهب لمحفل في المحلة ليذهب بعقول مستمعيه من تمكنه. وكان محبًا للعود والغناء، ويدور الخلاف أيضًا هنا بين البشري والتفتازاني حول علاقة الرجل بالغناء، ففي تأبين التفتازاني للشيخ في جريدة الأهرام ذكر أنه ترك القرآن واتجه للغناء بعض السنوات، أما البشري قد نفى عنه ذلك، ولكنه ذكر أن كان له طقس، إذا كان ختم تلاوته، جاؤوه بعود وأخذ يعزف عليه ويغني أبياتًا من الشعر.
ندرة التسجيلات
كانت نفوس الشيوخ تتوجس ريبة من الراديو والأسطوانات، وبسبب ذلك الشك في حرمانيتها كدنا أن نحرم من صوت الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي الذي لم يقرأ في الإذاعة إلا عندما أكد له مفتي الجمهورية أن قراءته فيها حلال، ولكن للأسف لم يكن هناك من يراجع هذا الموقف السلبي للشيخ ندا. ويذكر محمود السعدني في كتابه «ألحان السماء» أن الشيخ رفض أن يسجل القرآن على أسطوانات لا يليق أن تحمل كلام الله، حيث يتداولها الناس، ويحملونها بأيد قذرة، وأحيانًا ترمى على الأرض. ولكن الشيخ ندا كان مقدرًا لنفسه وصوته، وكان مزهوًا بذلك الصوت الفريد، فكانت الأسطوانة الوحيدة التي سجلت صوته، سجلها هو لنفسه، فكان في خلوته يذهب للاستماع إليها مستمتعًا بها، ويهتف محييًا نفسه: «يا حلاوتك يا شيخ أحمد».
عاش الشيخ ندا حياة مجيدة، وكانت سيرته العصامية ملهمة لمن بعده، فقد أسس لدولة التلاوة الحديثة وساعد في ازدهارها، إلى أن ظهرت أسماء أخرى، استفادت من مدرسة الشيخ ندا وأفادتها، وفاقته الشهرة والمجد عطفًا على تأسيس الإذاعة المصرية في السنوات التي كان فيها الشيخ على فراش الموت، كالشيخ علي محمود، والشيخ محمد رفعت، والشيخ مصطفى إسماعيل.
وكان يوم وفاة الشيخ يومًا مميزًا كحياته، ففي يوم 22\7\1932 توفي شاعر مصر حافظ إبراهيم، ما جعل جموعًا من البسطاء والأعيان يشيعون جثمانهما معًا في ليلة واحدة عم فيها السواد. في حياة جاوزت السبعين سنة، استطاع الشيخ ندا بمفرده على حد تعبير السعدني أن يخلق دولة عظيمة، أصبح لها كواكب ونجوم بعده، كلها جاءت نتيجة لجهود عبقري واحد صاحب صوت شجي، هو الشيخ أحمد ندا رحمه الله.
- حكايات مصرية من زمن العز القديم: عرفة عبده علي
- معجم القراء المصريين: أبو طالب محمود
- نجوم العصر الذهبي لدولة التلاوة: نبيل حنفي
- عباقرة التلاوة في القرن العشرين: شكري القاضي
- المختار: عبد العزيز البشري
- السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة: فيكتور سحاب
- مذكرات صائم: أحمد بهجت
- ألحان السماء: محمود السعدني