علوم الشريعة والعلوم الشرعية والعلوم المشروعة: التصنيف والتأليف
باتت علومُ الشريعة في الواقع المعاصر مطابقة للعلوم الشرعية لا تكاد تتعداها، ومفارقة لبقية علوم الحياة المشروعة ولا تكاد تمتزج بها، وهذا الفصام هو أول أسئلة تصنيف العلوم وتعليمها في واقعنا، وهو فصام يرجع إلى البدايات الباكرة لتصنيف العلوم في حضارتنا، وهو آخذ في التعمقِ منذ بدايات تحديث مجتمعاتنا الإسلامية على النمط الغربي في مطالع القرن التاسع عشر.
فقد نشأت مدارسُ التعليم الحديث إلى جنب مدارس التعليم الموروث واختصَّت المدارس الحديثة بالعلوم المدنية حصراً، أو ما أطلقوا عليه «علوم الحياة»، أو «علوم الدنيا»، التي شملت كل ما سوى علوم الشريعة بالمعنى الاصطلاحي الضيق، أو ما أطلقوا عليه «علوم الدين»، وشيئاً فشيئاً، توسَّعت مدارسُ علوم الدنيا على حساب مدارس «علوم الدين»، وسحبت كثيراً من اختصاصاتها، وحظيت أيضاً برعاية حكومات «الدولة الحديثة»؛ من حيث الإدارة، والتمويل، والتخطيط، والتطوير، وانفتحت أمام خريجيها أبواب الوظائف الحكومية، وسلالم الترقي للمناصب العليا؛ الأمر الذي أسهم في تشجيع أغلب الطلبة المتفوقين للالتحاق بها؛ بينما أُهملت مدارس علوم الدين، وانحصرت في زاوية ضيقة، وأغلقت الوظائف العليا في وجه أغلب خريجيها، باستثناء الوظائف «الدينية» كالإمامة والخطابة والوعظ، والقضاء الشرعي قبل أن تلغيه من بلادنا السلطات الثورية في «الجمهوريات» التي نشأت بعد رحيل الاستعمار الأجنبي.
إبان ازدهار الحضارة الإسلامية، وقبل الدخول في عصور التحديث على النمط الغربي؛ كان أغلب علماء أمتنا واعين بأسئلة العلوم وما بينها من وشائج غير قابلة للانفصام، وأسهموا منذ وقت مبكر في تصنيفها وتعريفها، واستمرت جهودهم في هذا المجال منذ القرن الثالث إلى القرن الرابع عشر للهجرة، مع ملاحظة أن اجتهادات بعضهم غلبت عليها المؤثرات الأجنبية اليونانية والفارسية والهندية.
ولعل أقدم وأول من ألف في تصنيفاتها وتعريفاتها هو يعقوب بن إسحق الكندي (ت 260هـ)، ففي كتابه: «ماهية العلم وأقسامه» ذهب إلى أن العلوم قسمان؛ علوم فلسفية وتشمل: الطبيعيات، والسياسة، وما وراء الطبيعة، والمنطق، والأخلاق، والرياضيات، وعلوم الشريعة، وتشمل أصول الدين والعقائد، ويبدو أن هذا التقسيم الذي يفصل علوم الدنيا عن علوم الدين لم يلق قبولاً لدى الفارابي (ت 329هـ)، ففي كتابه: «إحصاء العلوم»، نشرة عثمان محمد أمين، القاهرة: مكتبة الأنجلو، ط3، 1388هـ 1968م، نجده يدمج علوم الدنيا بعلوم الدين، بل نجدُه يصنف «علوم الدين» تحت القسم الأول وهو: «العلم المدني»، ويشمل: علم الأخلاق، وعلم السياسات، وعلم الفقه، وعلم الكلام، ثم يذكر بقية الأقسام.
وممن لحق الفارابي، أبو الحسن الأشعري (ت381ه)، وقد سار على دربه، لكنه قدم اجتهاداً آخر لتقسيم العلوم في كتابه «الإعلام بمناقب الإسلام»، نشرة أحمد عبد الحميد غراب، القاهرة: دار الكتاب العربي، 1387هـ 1967م. وفيه صنف العلوم إلى «حكمية» وتشمل: العلوم الحسية والعقلية والمشتركة والمنطق. و«ملية»، وتشمل صناعة المحدثين وهي علوم حسية، وصناعة المتكلمين وهي علوم عقلية، وصناعة الفقهاء وهي علوم مشتركة، وعلوم اللغة.
وقبل نهاية القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) وضع الخوارزمي (ت 380هـ) كتابَه المعروف: «مفاتيح العلوم»، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1 د. ت، وفيه قسَّم العلوم قسمين؛ العلوم الشرعية، والعلوم الدينية، وما يقترب منها من علوم العربية: الفقه، والكلام، والنحو، والكتابة، والشعر، والعروض والأخبار (التاريخ والسير)، وما سماه «علوم العجم واليونان وغيرهم» وتشمل المنطق، والطب، وعلم العدد، والهندسة، والموسيقى والحيل، والكيمياء، والفلاحة، وهو متأثر جداً بتقسيمات العلوم في الحضارات الأخرى.
ووضع أحد معاصري الخوارزمي، وهو ابن النديم (ت 385هـ) كتابه المعروف باسم «الفهرست»، بيروت: دار المعرفة، 1398هـ 1977م»، وفيه قسَّم العلوم إلى: المقالات، ولغات الأمم، وكتب الشرائع، والقرآن وعلومه، وعلم النحو، وعلم اللغة، وعلم الأخبار والروايات وعلم التاريخ وعلم الأنساب، وعلم الشعر وعلم رواية الشعر، وعلم الكلام، وعلم التصوف، وعلم الفقه والفقهاء، وعلم الحديث والمحدثين، وعلم الفلسفة وعلم الطب، وعلم الأسمار والخرافات، وعلم السحر والعزائم والشعوذة، وعلم الفرق والمذاهب، وعلم الكيمياء والصنعة.
وهذا التقسيم يجعل ابن النديم صاحب الرأي الأصوب والأوضح حتى زمنه في المدرسة التأصيلية في تصنيف علوم الحضارة الإسلامية وفق مرجعيتها؛ حيث لم تطغ عليه المؤثرات اليونانية أو الهندية أو سواهما، كما حدث مثلاً مع غيره مثل ابن سينا، الحسن بن عبد الله ( ت 428هـ) في رسالة «أقسام العلوم العقلية»، وهي ضمن كتابه: «الشفاء منطق المشرقيين»، تحقيق جورج قنواتي، ومحمود الخضيري، وفؤاد الأهواني، القاهرة: المطبعة الأميرية، 1371هـ 1952م.
وانتقلت جهود تصنيف العلوم وتعريفاتها نقلة للأمام مع ابن حزم (ت: 456هـ)، وقد سجّلها في «رسالة التوقيف، رسالة مراتب العلوم»، وهي ضمن رسائله، «نشرة: إحسان عباس، القاهرة: مطبعة الخانجي، ط1. د. ت). ففيها نجده يصنف العلوم إلى: «محمودٍ» ويشمل ما يخص الشريعة الإسلامية من علوم القرآن والحديث والفقه، والنحو، واللغة، والأخبار، ويشمل أيضاً ما سماه «مشتركًا بين سائر الأمم» ويضم علوم الهيئة، والرياضيات والفلسفة، والطب، والشعر والخطابة، والعبارة، وصنف «مذموم»، ويشمل: الطلسمات والسحر والكيمياء والزيرجيات والتنجيم».
وحدثت نقلة أخرى في اجتهادات التصنيف وفق المرجعية المعرفية الإسلامية في القرن العاشر للهجرة على يد أحمد بن مصطفى طاش كُبْرِى زادَه، (ت: 968 هـ)، ونسبتُه إلى قرية اسمها بالفارسية «طاش كُوبْرِي»، تقع اليوم في وسط شمالي تركيا، و«طاش» تعني: الحجر، وكوبرِي تعني الجسر، وزاده تعني ابن، وكلها بالفارسية، وقد سجل اجتهاده في كتابه الموسوعي: «مفتاح السعادة، ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، تحقيق كامل بكري، وعبدالوهاب أبو النور، طبعة القاهرة: دار الكتب الحديثة، ط1 د. ت». وله تحقيق آخر قام به شهاب الدين النجفي المرعشي (طبعة بغداد: مكتبة المثنى، د. ت).
طرح طاش كُوبْرِي زادَه في هذا الكتاب نظرية كاملة في فلسفة العلوم وتعريفاتها وتصنيفاتها ومناهجها ومصادر تحصيلها، وقد استوعب فيه كثيراً من الاجتهادات التي سبقته، وهو يرى أن «للأشياء وجوداً في أربع مراتب في: الكتابة، والعبارة، والأذهان، والأعيان».
وكلُّ سابقٍ منها وسيلة إلى اللاحق؛ لأن الحفظ دال على الألفاظ، وهذه على ما في الأذهان، وهذا على ما في الأعيان.
ثم يؤكد على أنه «لا يخفى أن الوجود العيني هو الوجود الحقيقي الأصيل، وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي أو مجازي، وأمّا الأولان، فمجازيان قطعاً، ثم العلم المتعلق بالثلاث الأولى آلي البتة، وأمّا العلم المتعلق بالأعيان: فإما عملي، ولا يقصد به حصول نفسه، بل غيره، أو نظري، يقصد به حصول نفسه فقط، ثم كل منهما إما أن يبحث فيه من حيث أنه مأخوذ من الشرع، فهو العلم الشرعي، أو من حيث مقتضى العقل فقط فهو العلم الحكمي، فهذه هي الأصول السبعة، ولكل منها أنواع، ولأنواعها فروع يبلغ الكل على ما اجتهدنا في الفحص والتنقير عنه بحسب موضوعاته وأساميه، وتتبع ما وقع فيه من المصنفات إلى مائة وخمسين نوعاً» (مفتاح السعادة ج/1 ص75).
ثم يقسم العلوم، ويعرفها في الوقت ذاته إلى خمس دوحات (ولاحظ رقة لفظة «الدوحة» كدلالة على حقل من حقول العلوم): الدوحة الأولى في بيان العلوم الخطية، والثانية في علوم تتعلق بالألفاظ، والثالثة في علوم باحثة عما في الأذهان، والرابعة في العلم المتعلق بالأعيان، والخامسة في الحكمة العملية.
ويسهب طاش كوبري زاده أيما إسهاب في تعريف ما في كل دوحة من العلوم، ويصنفها، ويرتبها، ويذكر موضوع كل منها، وشُعَبَه وفروعه، ومصادره المختصرة، والمتوسطة، والمبسوطة، والكافية، ولا نكاد نلحظ علامة تدل على أنه تبنى تقسيماً لعلوم الحضارة الإسلامية من خارجها، وإنما أخضع كل الفروع العلمية لرؤيته الإسلامية الأصيلة التي يميز فيها مبدئياً بين «المحمود» و«المذموم»، مثلما فعل سلفه ابن حزم.
ونلاحظ في تعريفات طاش كوبْرِي زاده وتصنيفاته للعلوم أنه قد استوعب فيها التطور الهائل الذي كان عمره في زمنه قد بلغ عشرة قرون، وكانت الحضارة الإسلامية قد بلغت أوجها من التمدن والعمران، ومن ذلك مثلاً ما يورده بشأن فروع ما يسميه «العلم الطبيعي» وهو من مكونات «الدوحة الخامسة» (في الحكمة العملية)، يقول: «ومن فروع العلم الطبيعي: علم التشريح وعلم الكحالة وعلم الأطعمة والمَزُورَات، وعلم الصيدلة وعلم طبخ الأشربة والمعاجين، وعلم قلع الآثار من الثياب، وعلم تركيب أنواع المداد وعلم الجراحة وعلم الحجامة وعلم المقادير والأوزان وعلم الباه» (ج/1ص323 326).
بدءاً من ابن حزم، وامتداداً مع طاش كوبري زاده، استقامت اجتهاداتُ العلماء في تصنيف العلوم وفق مرجعية الرؤية الإسلامية للعلوم والمعارف، وتعمقت هذه الاجتهادات معرفياً أيضاً، ففي القرن الحادي عشر للهجرة (السابع عشر للميلاد)، كتب ملا صدر الدين الشيرازي (ت: 1050هـ) كتابه: «إكسير العارفين، طبعة القاهرة: د. ن، 1385هـ 1965م» وقسم فيه العلوم إلى «العلم المطلق»، ويشمل العلم الدنيوي، وفيه علوم الأقوال، والأفعال، والأصول، والعلم الآخروي.
وعلم الأصول يشملُ تدبير المعاش بعلم الشريعة (لاحظ)، وعلم المعاملات، وعلم السياسات، وهناك علم الأعمال: وفيه ما يتعلق بالأعضاء والجوارح، وعلم الأفكار، وفيه معرفة الحدود والبرهان، والحساب بالعدد، وعلم الهندسة والأفلاك والكهانة والتعبير، وعلم الطبيعة والطب والبيطرة، وعلم الآخرة: وهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله.
ومن بعد الشيرازي، جاء محمد بن أبي بكر المرعشي ساجقلي زاده، (ت: 1158هـ)، ونجده في كتابه: «ترتيب العلوم، نشرة محمد بن إسماعيل، بيروت: دار البشائر الإسلامية، 1408هـ 1988م»، يأخذ بمبدأ التمييز بين العلوم النافعة والضارة، وعلوم لا ضارة ولا نافعة، ثم يوزعها على الأحكام الشرعية الخمسة، ويجعل بعضها فرض عين، وبعضها فرض كفاية.
وآخر من اطلعت على اهتمامه بتصنيف العلوم في زمننا، هو صديقنا الشيخ أحمد بن عمورة الصيداوي (من علماء القرن الأخير، مواليد صيدا لبنان 1390هـ/1970م)، وله تصنيف شديد الإيجاز، ولكنه بالغ الأهمية؛ كونه مبنياً على رؤية معرفية ومرجعية إسلامية شاملة، وقد أخذته منه سماعاً في أثناء لقائنا في ندوة العلماء بطرابلس لبنان الفيحاء ربيع أول سنة 1440هـ/ تشرين الثاني (نوفمبر) 2019م، وهو يعتمد مفهوم العلوم المشروعة، أو المحمودة، وضدها، والعلوم تنقسم عنده إلى علوم: الإيمان، والأكوان، والحيوان، والإنسان، والعمران وهذا الإجمال له تفصيل، ليس هنا موضعه.
هذا التصنيف الأخير، يقضي على الانفصام الذي أشرنا إليه، نظرياً على الأقل، إلا أن حالة الانفصام لا تزال قائمة فعلياً، وقد كانت سبباً في ترسيخ الفكر العلماني الذي يفصل الدين عن الحياة بجملتها، واستمرار هذا الفصام والحرص عليه من جانب بعض العلماء وقيادات المدارس الدينية، هو إسهام مباشر في ما أطلق عليه المسيري: «العلمنة الشاملة» للحياة الاجتماعية ونزع القداسة عن الإنسان و«حوسلته»؛ أي تشييئه وتحويله إلى وسيلة؛ حين أن الله تعالى سخر له ما في السماوات وما في الأرض قال تعالى:
وتبقى هذه الحوسلة من أعوص أسئلة تصنيف العلوم في ثقافتنا المعاصرة.