فيلم «Shang-chi»: كيف صنعت الصوابية السياسية فيلمًا ممتعًا؟
في النصف الأول من القرن العشرين كتب الروائي البريطاني «ساكس رومر» شخصية عالم عبقري شرير أسماه «فو مانشو – fu manchu»، اختار رومر أن يكتب شخصية صينية بعدما أشار له «لوح ويجا» في إحدى الجلسات بكلمة «رجل صيني».
تم اقتباس تلك الشخصية في عشرات الأفلام من بلدان مختلفة وتم تصميمها كشيطان ذي ملامح آسيوية، حاجبان مقطبان وشارب أيقوني طويل، تطورت الشخصية في الاقتباسات وأصبحت أكثر عنفًا وذات أيديولوجيات متطرفة إرهابية ضد الرجل الأبيض، فهو وعلى حسب كلامه في فيلم قناع فو مانشو عام 1934 يرغب في «قتل الرجل الأبيض وأخذ نسائه»، لم تتوقف الشخصية عند التناولات السينمائية بل ألهمت شخصية شرير في بعض القصص المصورة لعالم مارفل، تم تصميمه مشابهًا للأفلام لكن بلون أخضر يستدعي الأوصاف العنصرية للوجوه الأجنبية الآسيوية في أمريكا، أضاف كتاب القصص المصورة خطًا قصصيًا امتلك فيه فو مانشو ولدًا يدعى «شانج شي – shang chi» وهو أحد الأبطال الخارقين الخيرين يعمل ضد أبيه العنيف.
منذ عدة أيام افتتح فيلم شانج شي وأسطورة الحلقات العشرة Shang-chi and the legend of the ten rings في السينمات الأمريكية والعالمية، يتناول الفيلم قصة أصل البطل شانج شي، الذي يصارع أباه الشرير الأسطوري ويتعلم دروسًا عن العائلة والشجاعة في رحلته، لكن والده ليس فو مانشو الشخصية العنصرية الشهيرة، بل تم استبداله بشخصية أخرى من عالم القصص المصورة يدعى شو وينوو xu wenwu، يصعب إنكار هيمنة السينما الأمريكية على الثقافة الشعبية في العالم كله كأمر واقع، هي الأكثر تكلفة والأسهل وصولاً لدور العرض والبيوت لكنها لا تكتفي بقص حكاياتها الخاصة بل أحيانًا تقرر قص ما لا تعلم عنه شيئًا، نرى في الأفلام الهوليودية شخصين صينيين يتحدثان الإنجليزية بلكنة ثقيلة في خلوة غرفتهما وكأنهما لا يملكان لغة أصلية، بلدان كاملة ذات ثقافات مغايرة تتحدث الإنجليزية لأن صناع الأفلام أكثر كسلاً من أن يعينوا خبراء لغة أو كاتبي سيناريو ومخرجين من الجنسية التي يحكي عنها الفيلم.
ما يلفت النظر في بداية فيلم شانج شي هو أن القصة تروى بالصينية، صينيون يتحدثون الصينية، ما أندر ذلك! ويبدأ الفيلم في أخذ المنحى الأمريكي المعتاد عندما تنتقل القصة إلى أمريكا حيث انتقلت حيوات أبطاله بعدما غادروا الصين. يمزج شانج شي بين أفلام الأبطال الخارقين وأفلام الفنون القتالية التقليدية ويعين هذه المرة مخرجًا آسيويًا أمريكيًا من أصول يايانية هو ديستن دانييل كريتون destin daniel cretton الذي اشتهر بأفلامه المستقلة، يمكن التحفظ بالطبع على كونه ليس مخرجًا صينيًا أمريكيًا لكنه يحاول قدر إمكانه احترام الثقافة التي يتناولها.
يلتزم شانج شي بتركيبة أفلام الأبطال الخارقين التقليدية، يمكنك توقع اتجاهاته وكيف يسير مع القليل من المفاجآت هنا وهناك، لكن عامل الجذب الرئيسي وما يجعله متفوقًا على نظرائه من أفلام ما بعد الذروة أي ما بعد المنتقمون: نهاية اللعبة avengers: endgame هو إخلاصه لما يريد تقديمه وتماسكه كفيلم مستقل بذاته وكونه تجربة مشاهدة ممتعة تؤكد على أهمية التمثيل والتنوع العرقي.
بناء تقليدي لكنه ملائم
يحكي شانج شي قصة صاحب عنوانه، شانج شي/ شون (سيمو لو simu liu) شاب أمريكي من أصول صينية يعمل في فندق مع صديقته المقربة كيتي (أكوافينا awkwafina) الأمريكية الصينية كذلك، بالتوازي مع ذلك يحكي الفيلم قصة شريره وينوو (توني ليونج tony leung) والد شانج شي الذي يمكن وضعه في تصنيف ضد البطل، فهو مجرم أسطوري عاش آلاف السنوات لكنه قابل الحب الذي غير حياته وعاد لشره بعدما فقده، عاد أقسى مما كان، درب طفليه على سفك الدماء وورطهما في عالم الجريمة حتى تركاه لكي يبدآ حياتيهما في سياقات مختلفة.
ينتقل الفيلم بين العالم المعاصر المعتاد بمدنه الشهيرة وهواتفه الذكية وبين عالم أكثر سحرًا وغرابة يتمثل في القدرات القتالية الخارقة والمخلوقات السحرية وعوالم القتال تحت الأرضية، لا يأخذ الفيلم أية اتجاهات ثورية في بنائه السردي بل يسير على خطوات هي الأشهر في عالم بناء القصص، لكن تلك التقليدية ملائمة لفيلم يحكي أصول بطل ويمهد له للاشتراك في عوالم أخرى، كما أنه يجعله سهل المشاهدة وجاذبًا لجماهير متعددة وهو المطلوب من فيلم ذي إنتاج ضخم من الشركة المهيمنة على صناعة الترفيه في العالم.
يسير الفيلم بشكل حرفي حسب نظريات جوزيف كامبل مؤلف كتاب البطل بألف وجه the hero with a thousand faces الذي يحلل بناء الأساطير وكيف تساعد في بناء قصص مغامرة متماسكة، استخدم كتاب السيناريو وكتاب كتب تعليم السيناريو تلك النظريات من بعده، تعتمد نظرية كامبل على أن رحلة البطل تتمثل في عدة خطوات تنقسم إلى ثلاثة فصول: المغادرة، المبادرة والعودة، وكل منها يتكون من عدة خطوات تفصل رحلة البطل بدقة من بدايته حتى تحوله إلى الرجل المختار، يمكن بسهولة رصد تلك الخطوات في معظم قصص الأفلام الجماهيرية الكبيرة لكن في شانج شي تصبح الخطوات أكثر وضوحًا نظرًا لوجود عالمين منفصلين عن بعضهما ووجود عالم سفلي خفي ينتقل له البطل لكي تبدأ رحلته.
أول خطوة في تلك الرحلة هي أن نرى البطل في عالمه العادي، في تلك الحالة هذا العالم هو أمريكا كونها العالم الطبيعي بالنسبة للأفلام الهوليوودية عمومًا وما عداها هو الاستثناء، حيث الوظيفة التقليدية والحياة الرتيبة ثم يأتيه نداء المغامرة حينما يتعرض لهجوم من عصبة من جيش أبيه، يرفض ذلك النداء ثم يؤمن بضرورة تلبيته، تأتيه مساعدات سحرية تتمثل في قدراته القتالية شبه الخارقة ومساعدات من أقارب أكثر حكمة وخبرة منه.
يغادر البطل عالمه العادي ليذهب إلى الجانب الآخر المتمثل في قرية تا لو الأسطورية حيث عالم المغامرة، وهناك يمر بالعديد من المعوقات ويواجه نموذجًا أبويًا في تلك الحالة هو أبوه بشكل حرفي، وحين تحل الخلافات بينه وبين ذلك الأب يستعد لرحلة العودة بتردد لكن تأتيه مساعدة خارجية هنا تتمثل في المخلوقات الخرافية مثل التنانين التي تسكن القرية الخفية، وحينما يعود البطل لعالمه الاعتيادي يصبح سيد العالمين، الحقيقي والسحري المادي والروحي وتصبح لديه الحرية للاختيار لكنه أيضًا محمل بمسؤوليات بطولته الجديدة.
الحركة في نسيج الفيلم
يبدأ الفيلم بحكاية شو وينوو “توني ليونج” الذي يقوم بدور غير معتاد بالنسبة له، فهو الشهير بالأفلام الرومانسية والدرامية في سينما هونج كونج خاصة مع المخرج الشهير وونج كار واي wong kar wai، هنا يظهر ليونج في هوليوود لأول مرة في دور شرير ذي قصة تراجيدية وهي من السمات المميزة لأشرار السنوات الأخيرة، عاش وينوو آلاف السنوات على الأرض يعيث فيها فسادًا بقدرة الحلقات العشرة الخارقة، ولم يوقفه شيء سوى الحب والرقة التي تلقاها من يانج لي (فالا شين)، تبدأ قصة الحب تلك بمشهد قتال يدمج بين نوع من الكونج فو المعتمد على الحركة البطيئة السلسة التي تتحول مع الإخراج وحركة الكاميرا والموسيقى إلى رقصة ساحرة بين محبين، يتعلم وينوو أن يقاتل بشكل أكثر رقة وأقل عنفًا ويغير ذلك الأسلوب حياته، وهو أسلوب متجذر في تاريخ السينما الصينية القتالية يسمى ووشا wuxia، يعتمد على مشاهد قتال متقنة التصميم في وسط الطبيعة والغابات.
بينما يعيد الفقد وينوو لحياة العنف وسفك الدماء من جديد، على الجانب الآخر ينتقل الفيلم إلى العالم المعاصر حيث نشاهد مشاهد قتال أكثر ديناميكية وآنية تصاحبها موسيقى إلكترونية تجمع بين ما هو شرقي وما هو غربي، وحركة كاميرا وتقطيع سريعين لكنهما لا يُفقدان المشاهد ألقها أو يغشيان على جودة التصميم لصالح السرعة، في أول مشاهد القتال المعاصرة يتورط شانج شي مع جماعة من المقاتلين الخطرين على متن حافلة يتخلص منهم واحدًا تلو الآخر في تصوير أفقي يستدعي للذهن مشهد القتال الشهير من فيلم الولد المسن Oldboy 2003 الذي لا يكف مخرجو أفلام الحركة عن التأثر به.
يصنع ذلك التباين بين أساليب القتال الفروق الأساسية بين العالمين اللذين يشتبك معهما شانج شي؛ عالم الاختلاط الهوياتي الثقافي في أمريكا حيث يحمل داخله روحين؛ روح الشرقي والغربي وعالم الأساليب التقليدية الأسطورية والأساليب القتالية المعاصرة، لكنه يتقن مزيجًا بين القدرات القتالية المتنوعة تخوله لإنقاذ بلدته وحياته وحل مشكلات ماضيه، تمثل مشاهد الحركة في شانج شي جزءًا رئيسيًا من نسيج الفيلم وليست استعراضات منفصلة تعطل الحكي وهو ما يفرقه عن أفلام أخرى مثل الأرملة السوداء black widow مثلاً التي انفصلت أسلوبية حكيه الرئيسية عن مشاهده القتالية.
يستكشف الفيلم الفنون القتالية التقليدية جماليًا كما أنه يدمج معها عناصر أسطورية صينية ويحضرها للواقع مثل التنانين الملونة والغابات الخفية، وعلى الرغم من ضخامة كل ذلك بصريًا وسرديًا فإن الفيلم في جوهره هو قصة نضوج واستكشاف للذات في مرحلة عمرية حرجة في عشرينيات العمر، خاصة بالنسبة لشخصيات تملك هويات مزدوجة جغرافيًا وهويات مزدوجة تتمثل في إخفاء قدرات خارقة.
معضلة الشغف
يقدم فيلم شانج شي شخصية البطل الخارق وصديقته المقربة كيتي فتاة عشرينية تؤمن بخفة الحياة وضرورة الاستمتاع بها، تجيد قيادة السيارات بسرعة فائقة وتقضي لياليها في حفلات الكاريوكي والتسكع مع الأصدقاء ذوي الحيوات الأكثر استقرارًا وتحققًا سواء على مستوى العلاقات العاطفية أو الحياة المهنية، يخرج كل من شانج وكيتي من مغامرتهما السحرية وهما أكثر نضجًا وتقديرًا للحياة دون أن يرضخا للمتطلبات النوعية والمكررة للنجاح في العالم الحقيقي، جزء من ذلك يرجع لكون شانج شخصًا استثنائيًا بالطبع وهو ما يصعب تطبيقه على الشاب العشريني الطبيعي، لكن الفيلم يتعامل مع ذلك القلق الفتي بذكاء ويجعل من كيتي الطرف العادي الذي يمكن للمشاهد المتوسط التجاوب معه.
يتناول الفيلم تيمة إنسانية أخرى وهي محاولة التخلص من عبء السابقين من الأجداد والآباء، مزيج بين الرغبة في إرضاء النموذج الأبوي والهروب منه، محاولة إصلاح ما أفسده السابقون لكن رغبة عميقة في الصلح معهم مما يصنع ثنائية معقدة من الحب والكراهية، يبني الفيلم روابط أسرية أرضية يمكن التواصل معها مثل علاقة شانج شي بأخته وروابط أخرى أسطورية مثل علاقته بأبيه، وعلى الرغم من سهولة توقع كيف ينتهي كل شيء سواء بالصلح أو الفقد فط
إن الفيلم يكسب نهايته المتوقعة المؤثرة ببناء تسلسل منطقي لأحداثه ورسم شخصياته بدقة وحساسية.
يمكن الاستمتاع بتجربة فيلم شانج شي دون معرفة كاملة بعالم مارفل السينمائي، أي ما أتى قبله وما سيأتي بعده فيمكن مشاهدته كفيلم مستقل بذاته يملك هوية بصرية مستقلة ويقدم شخصيات جديدة سوف تكون لها أدوار كجزء من عوالم أخرى في المستقبل، بالطبع سيستمتع جمهور مارفل المخلص بالمرجعيات المختلفة للشخصيات مثل الماندرين المزيف وشخصية وونج من أفلام دكتور سترينج، لكن لمن لا يجعل من ذلك العالم وجهته الأساسية ويبحث عن تجربة سينمائية خفيفة وممتعة فإن شانج شي وعلى عكس أفلام متعددة لمارفل يعمل كفيلم متكامل مكدس بمشاهد الحركة متقنة الصنع وقصة بسيطة مؤثرة وليس مجرد قطعة صغيرة من أحجية عالم ربحي واسع.