شكيب أرسلان: «الجنتلمان» العثماني
بين يدي كتاب مميز صدر مؤخرًا للمؤرخ الأمريكي وليام كليفلاند بعنوان «الإسلام ضد الغرب: شكيب أرسلان والدعوة إلى القومية الإسلامية»، ينظر فيه إلى الأمير شكيب أرسلان (1946 – 1869) باعتباره نموذجًا لشخص من الجيل الأخير للعرب العثمانيين الذين كبروا قبل عام 1914، والمولودين تقريبًا بين عامي 1870 و 1890.
تلقى أبناء هذا الجيل تعليمهم وأسسوا حياتهم المهنية وخططوا لمستقبلهم في عالم كانت الإمبراطورية العثمانية جزءًا منه، وأرغموا بعد عام 1919 على إعادة تأسيس حياتهم وتسوية أوضاعهم في عالم لم يكن من اختيارهم، وقد كانوا ميالين إلى رؤية النظام السياسي والهوية الثقافية بوصفهم عربًا عثمانيين، معتبرين تسويات ما بعد الحرب العالمية الأولى ظالمة وغير ملائمة، فقد فككت الدول العربية وغدت مقسمة بين القوى الاستعمارية.
كان أبناء أسرة أرسلان أمراء دروزًا بالوراثة، وتعود جذورهم إلى منطقة الشوف في لبنان. أما والده الأمير حمود فقد خرق أعراف الدروز بزواجه من امرأة شركسية (وكذا فعل شكيب فيما بعد)، ودرس في طفولته في المدرسة الأمريكية في منطقة الشوف. انتسب شكيب إلى مدرسة الحكمة، وهي المدرسة الرائدة في بيروت (أسس المدرسة يوسف الدبس مطران بيروت عام 1874م)، وتشكلت مراهقته في أجواء بيروت المتحررة، وظل رجلًا مدينيًا طوال حياته، ليكتسب بذلك ذائقة الأجواء الأدبية التي يمكن أن تؤمنها المدينة دون سواها.
في سن الـ17 نشر ديوانه الأول الباكورة وأهداه إلى الشيخ محمد عبده. التحق بعد ذلك بالمدرسة السلطانية، وهو معهد حكومي عثماني، درس فيه العلوم الإسلامية، وترسخت لغته التركية. وفي سن الـ18 اكتمل تعليم شكيب، بأفضل ما كان متاحًا في عصره، فقد منحته سنواته السبع التي قضاها في المدرسة المارونية مدخلًا إلى الأوساط الأدبية في كل من بيروت ودمشق، ومع تعلمه التركية تمكن من تولي مهام رسمية وغير رسمية في كنف الدولة العثمانية.
التقى في شبابه بمحمد عبده الذي كان منفيًا عن مصر، مقيمًا في بيروت من سنة 1886 إلى سنة 1888، والذي تنبأ له بأنه سيكون شاعرًا مهمًا. وقد رأى أرسلان في محمد عبده أنه ذلك الرجل الذي لم يكن عالماً فقط، بل عالمًا لم نعهد رؤية مثله من قبل على حد وصفه. زار مصر بعد ذلك ثم أقام سنتين في إسطنبول، تعرف فيها إلى العديد من شخصيات الدولة، والتقى بالسلطان عبد الحميد وتعرف إلى جمال الدين الأفغاني وأعجب به الأفغاني، ثم انطلق من تركيا لزيارة أوروبا وبالتحديد لندن وباريس، وهناك بدأت صداقته مع الشاعر أحمد شوقي، والتي ستمتد بعد ذلك أربعين سنة ويكتب عنها كتابه «شوقي أو صداقة أربعين سنة».
احترف أرسلان حرفة الصحافة ونشر مقالاته في أكبر الصحف اليومية التي كانت تصدر في القاهرة، ومنها صحيفتا الأهرام والمؤيد، هذا بجانب عمله كمتصرف أو حاكم منطقة الشوف في لبنان وعضو في البرلمان العثماني، شأنه في ذلك شأن اثنين من أشقائه. لم يكتف بذلك في شبابه، فقد حقق مخطوطتين اثنتين ونشرهما وهو في العشرين من عمره وهما: الدرة اليتيمة لابن المقفع، والمختار من رسائل الصابي. وكذا أولى اهتمامًا للأدب الفرنسي وترجم لشاتوبريان روايته مغامرات آخر أبناء بني سراج، وسبب اختياره لهذه الرواية هو تصويرها الحضور الإسلامي في الأندلس.
وأثناء الغزو الإيطالي لطرابلس، تحرك من جبل لبنان كجندي وعامل إغاثة وناشط، بعد أن أقنع أرسلان القائد العثماني في دمشق بإرسال عدد من الضباط والجنود للخدمة العسكرية لطرابلس، ورافق أرسلان الجنود في رحلتهم، ومروا بمصر والتي كانت تحكم من قبل بريطانيا فتنكروا في أزياء البدو، ولم يتمكن أرسلان من أن يمضي أبعد من منطقة العريش، حيث اعتقل وأرسل في نهاية المطاف على متن قارب إلى يافا. لكن ذلك لم يوقفه فقد امتطى متن سفينة أخرى من يافا إلى الإسكندرية، ثم وصل القاهرة كمتطوع في خدمة جمعية الهلال الأحمر المصرية، بعد ذلك أيد جمعية الاتحاد والترقي وصاحب عبد العزيز جاويش في رحلات لبيروت ودمشق والقدس والمدينة المنورة مروجًا للسلطة العثمانية الجديدة، ومحذرًا من خطورة الاستعمار.
تربى أرسلان وترعرع في ظروف بدت له فيها الهيمنة والقوة للعسكرية الأوروبية الغربية، فقد كانت سنوات أفول للإمبراطورية العثمانية، وعلى مدى السنوات الأربعين الأولى من عمره، كان التوسع الأوروبي في البلاد الإسلامية متواصلًا، فلبنان تم تنظيمه من قبل الدبلوماسية الأوروبية في عام 1861، وبريطانيا احتلت مصر عام 1882، فيما كانت فرنسا ما تزال تحتل الجزائر وتحكمها منذ عام 1830، وجعلت من تونس سنة 1881 والمغرب عام 1912 محميتين خاضعتين لها، بينما شنت إيطاليا هجومًا على طرابلس الغرب في عام 1911. وشكلت روسيا تهديدًا مستمرًا في المضائق وعلى طول الحدود العثمانية الشرقية، وبالإضافة إلى ذلك، تشكلت دول جديدة في منطقة البلقان انفصلت عن أراضي الدولة العثمانية وتحالفت مع القوى الأوروبية، وعمدت أوروبا إلى تقسيم تركة الرجل المريض والمناطق الخاضعة لسلطان العثمانيين.
دافع أرسلان عن الدولة العثمانية حتى آخر نفس لها، مخالفًا قطاعًا كبيرًا من العرب كان يشعر برغبة في التخلص من نير الحكم العثماني، خصوصًا مع استبداد الكثير من قادة الدولة مثل جمال باشا في الشام، فضلًا عن وعود القوى الاستعمارية بحكومات عربية مثل الوعد الذي حصل عليه الشريف حسين. ومع سقوط الدولة العثمانية تتغير حياة الشاب المؤمن بها إلى شخص يعيش في منفاه في جنيف وحيدًا بعيدًا عن البلاد العربية جغرافيًا، لكننا نجده حاضرًا في حقبة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية بقوة.
وفي سيرته الذاتية يصف لحظة أفول الدولة العثمانية ومغادرة قادتها إلى برلين مثل أنور باشا وطلعت باشا، والذي لفت نظري هو تقديره الشديد لأنور باشا، حتى إنه قص تحركاته بعد وصوله برلين وعدم رغبة أنور في توقف القتال ضد بريطانيا، وعودة أنور إلى فتح جبهة مع بريطانيا مستعينًا بالروس، ثم خذله الروس وقاموا بقتله في بخارى خلال الحروب ضد الحكومة الروسية 1922. وعاش طلعت باشا في برلين لكنه اغتيل على يد أحد الأرمن، وكذلك جمال باشا اغتيل في تيبليسي عاصمة جورجيا على يد أحد الأرمن، وهكذا انتهت حياة الطورانيين الثلاثة بالقتل بعد أن قوضوا الإمبراطورية العثمانية في انقلابهم عام 1908.
أما أرسلان في حياته الشخصية فقد كان كثيرًا ما يجعل القضية والاهتمامات العامة قبل أي اهتمامات شخصية، فقد تزوج من زوجته سليمى عام 1916 عندما أصبح في سن الـ47، واتسم زواجهما بفترات طويلة من الابتعاد، فقد غاب عن أسرته ست سنوات متصلة والتم شمل الأسرة في ربيع عام (1924م)، بعد رؤيته أمه وزوجته وابنه غالب، مع مكابدته صعوبات مالية، لكن هذه الشخصية لم تكن لتستقر وتهدأ في مارسين، تلك القرية التي تقع في جنوب تركيا، فقد كتب شكيب رسالة إلى صديقه رشيد رضا يشتكي من عزلته، وأنه تمضي الجمعتان والثلاث ولا يأتيني زائر، وبمدة خمسة أشهر ما أقام إلا مأدبة واحدة.
كان شكيب يرتدي ملابس أوروبية فاخرة لا تشوبها شائبة، وينشر مقالاته في مجلات علمية جديدة، وبهذه وتلك كان يبدو مثقفًا غربي السمة والثقافة، لكنه لم يكن علمانيًا ولا متغربًا (لم يتفرنج)، فقد كان عدوه الأول مصطفى كمال أتاتورك الذي عصف بعالمه القديم بإلغائه الخلافة، وبمساعدة رشيد رضا؛ تَأَتَّى بلباقة ودهاء لشغل منصب رئيس الوفد السوري الفلسطيني المفوض في عصبة الأمم في عام 1925م. واتخذ لنفسه مسارًا عمليًا جديدًا بوصفه داعية سياسيا عالميا، وولج عمق القضايا السياسية والتيارات الفكرية الرئيسة في حقبة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين.
وعلى الرغم من أنه لم يعش قط بصورة دائمة في أي بلد عربي بعد عام 1917 م، فإن شخصه – إلى جانب آرائه – استأثر بمثل هذا الاهتمام إلى الحد الذي جعله جزءًا لا يتجزأ من الصراع السوري اللبناني مع فرنسا، ولاعبًا فاعلًا على صعيد المأساة الفلسطينية، ومعلقًا على التيار الإصلاحي الإسلامي المنبثق من مصر.
إلى جانب كل ذلك، لعب أرسلان – كما تؤكد دراسة كليفلاند – دورًا رئيسًا في إرساء قواعد أرضية مشتركة بين نضالات العرب المشارقة وعرب شمال أفريقيا في سعيهم إلى تحقيق الاستقلال. وأصبح المعلم المرشد لمجموعة من القوميين المغاربة الشباب، وأظهره تنسيقه للاعتراضات الإسلامية الدولية على مرسوم الظهير البربري عام 1930م، بوصفه شريكًا مرغوبًا فيه للمسلمين العرب في كل المناطق، وانخرط ضمن مجموعة من الشخصيات الجزائرية والتونسية الريادية وتبنى قضاياهم، وأتى بها إلى معترك النضال العربي الإسلامي الشامل المناهض لقوى الإمبريالية الأوروبية. وأضحت إقامته في جنيف أرضية اختبار لاستراتيجيات المقاومة، وسواء أكان يستضيف الملك فيصل ملك العراق أم يسدي المشورة لمصالي الحاج من الجزائر، أم يتنازع مع ديفيد بن غوريون، أم يستقبل وفودًا سورية متنوعة، فقد حول في كل ذلك مقر إقامته في جنيف إلى مركز للحركة الإسلامية العالمية.
هذا الرجل يمكن النظر إليه باعتباره ناشطًا سياسيًا مهمًا في فترة ما بين الحربين، إلا أن هذا النشاط السياسي لم يجعل نشاطه يتوقف عن الحضور ككاتب لهذه الفترة، فقد كتب سيرة صديقيه رشيد رضا وأحمد شوقي، وبوصفه مؤرخًا للفتوحات العربية في أوروبا أعاد إلى الذاكرة صورًا عظمى للماضي بكتابة تاريخ للأندلس، وبوصفه معلقًا إصلاحيًا شارك بكتابه الذي تضمن نقدًا قاسيًا وعنوانه: «لماذا تأخر المسلمون؟» طبع ثلاث مرات في حياته وأعيد طبعه بعد ذلك. وشرحه الذي ورد في أربعة مجلدات لكتاب حاضر العالم الإسلامي للكاتب لوثروب ستودارد.
وأرسلان باشتغاله على هذه الكتب إلى جانب مجلته التي كانت تصدر باللغة الفرنسية باسم: «الأمة العربية»، مع مقالاته التي نشرها في الصحافة العربية وكان يبلغ عديدها مائة مقال سنويًا أو نحو ذلك؛ يمكننا القول إنه كان الكاتب العربي الذي تعد كتاباته الأكثر قراءة وعلى أوسع نطاق في حقبة ما بين الحربين.
قدر شكيب أرسلان هو الشهرة وذيوع الصيت، أتته الشهرة منذ شبابه إلى قرب نهاية حياته، أصدر ديوانه الأول متزامنًا مع قيامه بعمل إداري لأول مرة في لبنان عام 1888، واختير رئيسًا للأكاديمية العربية في دمشق عام 1938، واعترف به بوصفه المسؤول التنظيمي لحركة الاستقلال المغربية في ثلاثينيات القرن العشرين، وكان الضيف الشخصي للخديوي عباس حلمي الثاني في القاهرة عام 1912.
أما نشاطه فلم يتوقف، وسفره الذي يبدو لنا من سيرته أنه متصل لا يبالي بالتعب ولا يكل ولا يمل، وعززت في أحيان كثيرة الرحلات الشاقة التي قام بها إلى أنحاء متفرقة من العالم صورته بوصفه مجاهدًا لا يقهر. فعلى سبيل المثال، أمضى في عام (1927م)، أربعة أشهر في الولايات المتحدة الأمريكية، وحضر مؤتمرًا في موسكو. وخلال ستة أشهر من عام (1934م)، جال في دول البلقان وصولًا إلى بودابست، وتوسط لفض نزاع في اليمن، والتقى مرتين بموسوليني في روما، وتناول طعام الغداء مع المندوب السامي البريطاني في القدس. وكان مثل الأفغاني، في آخر أيامه، يجوب العالم الإسلامي وأوروبا فيستقطب مريدين مستجدين، ويحذر وينبه بعض الحكام العرب إلى الخطر، وينتزع تعابير القلق من المسؤولين البريطانيين والفرنسيين الذين يقتفون أثر تجواله.
والذي يقرأ هذه السيرة المترجمة عن شكيب أرسلان يرى تحليل الكاتب للقيمة الفكرية لشكيب أرسلان، فعلى الرغم من كونه كاتبًا متميزًا ومؤثرًا بصورة واضحة، فقد كان في رأي المؤلف أقل أهمية بوصفه مفكرًا أصيلًا، وحاله حال أقرانه، كان فكره مزيجًا من فكر مرشديه الأفغاني ومحمد عبده، فيما كانت قدرته على توجيه الأحداث أكثر محدودية مما كان يخشى خصومه الأوروبيون. ومع ذلك فقد كان صاحب شخصية بارزة ذا تأثير دولي كبير، وأكثر نزاهة واستقامة مما عزا إليه منتقدوه، وأشد دهاء مما يعتقد مؤيدوه.
تميزت سيرة كليفلاند باطلاع على الأرشيفات الأمنية التي أعدتها كثير من الحكومات وهي تتبع نشاط أرسلان، مثل بريطانيا وسويسرا، فهاتف شقته ظل مراقبًا إلى وفاته، رغم مغادرته هذه الشقة قبلها بسنتين، وبذلك أضاف معلومات وتحليلات تظهر لأول مرة، أضف إلى ذلك تحليله لمواد شكيب أرسلان المالية وكيف كان يمول الكثير من نشاطاته، سيرة شكيب أرسلان هي وجه من وجوه تاريخ المنطقة متمثلًا في أحد المفكرين الجوابين المحذرين من الخطر.