ده طلع ديمقراطي
في مطلع القرن الماضي وتحديدا في عام 1913 م، وفي مركز السنبلاوين –أحد مراكز محافظة الدقهلية- رشح أحمد لطفي السيد نفسه لمجلس النواب، وأحمد لطفي السيد لمن لا يعرفه هو أحد القامات الفكرية المهمة في التاريخ الحديث، يلقب بأستاذ الجيل، وأبو الليبرالية في مصر، وقد وصفه العقاد بأنه أفلاطون الأدب العربي، وهو صاحب المقولة الشهيرة: “الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية”!
وهو مؤسس أول جامعة أهلية في مصر عام 1908 م وكان اسمها “الجامعة المصرية” ثم تحولت إلى “جامعة فؤاد الأول الحكومية” وهي ما تعرف الآن باسم “جامعة القاهرة”، وقد كان والده أحد أعيان الريف المصري وعمدة إحدى قرى الدقهلية، وكان المرشح المنافس لأحمد لطفي السيد وهو “عبد العزيز سليط” قد أحس بأن النتيجة تكاد تكون محسومة لمنافسه.
فعبد العزيز سليط هذا محامٍ وأفندي مغمور ومنافسه كان وزيرا ومديرا للجامعة وحاصل على رتبة الباشاوية وصاحب وجاهة اجتماعية وفكرية لا تجعله في مقارنة مع عبد العزيز سليط، ففكر هذا الأخير في حيلة تمكنه من تحقيق الفوز على أحمد لطفي السيد فأشاع بين أهل القرية أن الباشا ديموقراطي كافر! وأنه يدعوكم إلى الديموقراطية وهي فكرة شيطانية تقوم على مبدأ خبيث هو “سلفني مراتك وأسلفك مراتي” والعياذ بالله! وأنه متأكد من هذا الكلام والباشا فعلا ديموقراطي وأنا سمعتها منه بأذني ولو لم تصدقوني فاسألوه!
وشعر أهل القرية بالحيرة الشديدة وهم الطيبون المؤمنون فإنهم وإن أحبوا أحمد لطفي السيد وعائلته لفضلهم ومكانتهم؛ فإن إسلامهم وصون العرض عندهم أهم من أي شيء آخر. لذا سأله أحدهم في أحد الاجتماعات الانتخابية: يا باشا هو إنت بصحيح ديموقراطي؟
فرد السيد بإنه ديموقراطي صميم وعريق في الديموقراطية! وأشاع الحاضرون الخبر وقالوا إنهم سمعوا بآذانهم أحمد لطفي السيد وهو يقول عن نفسه إنه ديموقراطي والعياذ بالله، وسبّب هذا صدمة لأهل القرية جميعا فهم مع حبهم الشديد لأحمد لطفي السيد لم يكونوا يتخيلون أنه ديموقراطي! وكانت النتيجة أن سقط السيد في الانتخابات سقوطًا ذريعًا لم يدر سببه إلا بعد حين! بسبب اكتشاف أهل القرية أنه ديموقراطي وهي الكلمة التي لم يسمعوها من قبل في حياتهم لكنها قيلت في سياقٍ من التبشيع يجعلها كلمة شيطانية خبيثة حتى ولو لم يفهموا معناها.
في أحد المشاهد المهمة من فيلم البداية للمخرج صلاح أبو سيف والكاتب لينين الرملي، يحاول المحامي ورجل الأعمال الجشع نبيه بيه الأربوطلي –وقام بتمثيل دوره جميل راتب- أن يستولي بقوة السلاح على نخل رباني في واحة صحراوية غير مأهولة يصل إليها مع بعض الرفاق بعدما سقطت الطائرة التي كانت تقلهم، وعندما حاول الفنان أحمد زكي -عادل صدقي في الفيلم- أن يواجه طمعه وجشعه غير المبرر لأن هذا النخل مملوك للجميع وليس مملوكا له فقط؛ إذ برجل الأعمال هذا يشيع عن الشاب عادل صدقي أنه ملحد وكافر ومش هيورد على جنة وأنه ديموقراطي!
واذهبوا واسألوه لو لم تصدقوني لتعرفوا بأنفسكم ما إذا كان ديموقراطيا أم لا! تماما كما حدث مع أحمد لطفي السيد، وكلام جميل راتب في الحقيقة ليس حرصا على عقيدة الناس أو شرفهم وعرضهم وإنما هو تهييج لعواطفهم وإثارة لمشاعرهم من أجل تحقيق أغراضه ومكاسبه .
يمكنكم مشاهدة الفيديو هنا
في الانتخابات البرلمانية التالية لثورة يناير مباشرة وجدنا بعض الإسلاميين يخاطبون الشعب المصري عبر الشاشات ويحذرونه من الليبرالية لأن الليبراليين لو حكموا “هيخلوا أمك تقلع الحجاب”! كما وجدنا الليبراليين يحذرون الناس من الإسلاميين لأنهم لو وصلوا إلى الحكم “هيخلوا أمك تلبس النقاب”! وكنت أتساءل محتارا متعجبا: “ممكن تسيبوا أمي في حالها وتكملوا نقاشاتكم حول السلطة بعيدا عنها؟!”
في السبعينيات وما بعدها من القرن الماضي شاع في مصر مصطلح يطلق على كل شاب أطلق لحيته بأنه “سني” وأصبح الناس يقولون على الشباب الملتحين بأنه “السنية” وكان هذا مصطلحا سيء السمعة حينها؛ فكلمة السني مرادف للإرهابي المتشدد الأصولي المتطرف … إلخ، فكان الشاب إذا أطلق لحيته وقال له الناس: “إنت بقيت سني؟” يجد نفسه في حرج من أن يقول نعم، لأن هذا معناه إنه وافق على إلصاق التهم السابقة به! كما يجد نفسه في حرج من أن يقول لا، لأن هذا معناه أنه ينفي عن نفسه أن يكون متبعا لسنة سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فلا يدري ماذا يقول!
انظروا كيف يفعل الجهل بالمصطلحات الشريفة؟!
منذ أيام كتب أحد الشباب (يظهر من كلامه أنه محدود العلم والثقافة) على “فيس بوك” تحذيرا من فلان وفلان لأن كلا منهما والعياذ بالله اكتشفنا أنه “أشعري”! وإذ ببعض الناس يُبدون ذهولا شديدا وتعجبا هائلا ويعبرون عن صدمتهم الحضارية لأنهم اكتشفوا هذا الأمر الخطير عن أساتذتهم الذين يقدرونهم ويحبونهم، ثم كان الأمر أخطر على نفوسهم حينما اكتشفوا أن الشيخ الشعراوي رحمه الله كان أشعريا، وكذلك الشيخ محمد الغزالي والشيخ عبد الحميد كشك وغيرهم من المعاصرين كثير، فضلا عن الإمام النووي والجويني والغزالي وابن حجر والسيوطي والسبكي وأغلب علماء أهل السنة عبر التاريخ كانوا أشاعرة لأن الأشاعرة أساسا –أتباع الإمام أبي الحسن الأشعري رحمه الله– هم أغلب علماء أهل السنة.
فكلمة أهل السنة يقصد بها “الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث” والبعض لا يعتبر أهل الحديث مذهبا مستقلا لأن مذهبهم موافق لمذهب أهل التفويض من الأشاعرة، لكن الشباب من قراء كلام هذا الأخ لا يعلمون قطعا ما معنى كلمة أشعري، بل وكثير منهم لم يسمع هذه الكلمة في حياته من قبل لكنه قيل له في هذا المنشور إن الأشاعرة والعياذ بالله فرقة ضالة مبتدعة من أهل النار، فإذا بهم بحسن نية يقولون: نعوذ بالله من الباطل وأهله، هو الواحد من غير عقيدة يسوى إيه! ويشاركون في تحذير الناس من هؤلاء الأشاعرة المبتدعين!
ويحاول البعض أن يتسائل: ما الفرق بين الأشاعرة وأهل السنة فإذا قيل له: إن الأشاعرة مع الماتريدية مع أهل الحديث هم أهل السنة والجماعة، وإن الخلاف بينهم (الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث) يعتبر من المسائل الاجتهادية التي لم يرد بشأنها نص صريح عن الله تعالى أو عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عوام المسلمين لا يحق لهم الخوض في هذه المسائل الخلافية بل يتمسكون بالعقيدة الصحيحة الثابتة عن رسول الله والمتفق عليها بين الناس ويتركون الخلافيات الدقيقة والمتقدمة لأصحابها، إذ بك ترى بعض هؤلاء يلوي شفتيه اعتراضا عن غير علم ودفاعا عن العقيدة زعموا! فإذا قيل له: يمكنك أن تقرأ كذا وكذا إذا أردت أن تفهم المزيد تراه يقول: “أنا خايف أقرأ كي لا أتأثر”!
إن عوام المسلمين لا يحق لهم الخوض في هذه المسائل الخلافية بل يتمسكون بالعقيدة الصحيحة الثابتة عن رسول الله والمتفق عليها بين الناس ويتركون الخلافيات الدقيقة والمتقدمة لأصحابها
عَنْأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ يَنْطِقُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ “
تعلموا واقرأوا وابحثوا واهدأوا أيها الناس فإن الزمان الذي نحن فيه زمان تغبيش وتشويش وتشغيب وإثارة وفتنة، والسعيد الموفق من وفقه الله تعالى إلى طلب العلم بصدق، والخائب الخاسر من اكتفى بمصمصة شفتيه والتحسر على أحوال الناس ثم لم يفعل شيئا بعد ذلك.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا فعلمنا يا رب، ولا فهم لنا إلا ما فهمتنا ففهمنا يا رب، اللهم زدنا من لدنك علما. نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا من كرمه علما، آمين.
ملاحظة:
من أراد أن يعرف المزيد حول عقيدة أهل السنة ومذاهب المبتدعة نرشح له الكتب التالية:
- تبسيط العقائد الإسلامية للشيخ حسن أيوب.
- تاريخ المذاهب الإسلامية للشيخ محمد أبو زهرة.
- المدارس الفكرية الإسلامية للدكتور محمد سليم العوا.